معشر
الدعاة: تواصوا بالحق والصبر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه أما بعد:
فلا بد للداعي إلى الله تعالى من وسيلة توصل علمه إلى الناس, وأياً تكن هذه
الوسيلة فهي لا تكاد أن تخرج في الغالب عن وعظ أو حوار أو إنكار أو مدارسة أو
تعليم أو مكاتبة ونحو ذلك, وقد اكتنف ذاك السبيل النبوي بعض من لا دربة له ولا
سابق خبرة ولا كفاية علمٍ فغبّشوا بعض مسالكه على غيرهم ودفعًا لغلوائهم هذه مشاركة
ببعض المهمات التي كتبتها لنفسي المقصرة ولإخوتي سائلًا ربي التوفيق والهدى
والسداد.
فمن
المهمات بين الإخوة في المحاورة والمدارسة: تجريد النية للعليم الخبير سبحانه,
وتصفيتها من شوائب الرياء وعوالق السمعة وحبائل التصدّر وغوائل الظهور, وقاني الله
وإياك ذلك, وجعلنا من المخلِصين المخلَصين, فكل شيء لغير وجه الله يضمحل, وقد كان
الإمام النووي رحمه الله تعالى يكتب ويحرّر المطوّلات حتى إذا كلَّ ألقى القلم وهو
يتمثل:
لئن كان هذا الدمع
يجرى صبابة على غير ليلى فهو دمع
مضيّع
وقد قيل: تخليص الأعمال مما يفسدها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. نعم
فمن رأى إخلاصه فإخلاصه محتاج لإخلاص!
ومن المهمات: مراعاة المتابعة للسنّة, ومن لوازم المتابعة الرفق_إلا في
حالات خاصة كالمعاند المستكبر_ ومراعاة أحوال المخاطبين, والتدرج, قالت عائشة رضي
الله عنها: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار،
حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام, ولو نزل أول شيء: لا تشربوا
الخمر؛ لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا, ولو نزل: لا تزنوا؛ لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا".
قال ابن حجر في الفتح "أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول
ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة، وللكافر
والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت: ولو نزل
أول شيء لا تشربوا الخمر؛ لقالوا: لا ندعها؛ وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة
عن ترك المألوف".
ومن
ذلك ما جرى للإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب في ابتداء دعوته فإنه إذا سمع
المشركين يدعون زيد بن الخطاب, قال: الله خير من زيد, تمريناً لهم على نفي الشرك
بلين الكلام نظراً إلى المصلحة وعدم النفرة. ذكره عنه المجدد الثاني عبد الرحمن بن
حسن رحمهما الله.
ومن المهمات: بين الإخوة تحرير محل النزاع قبل الخوض فيه, وتحرير معاني
الكلم قبل إلقائها في خضم التدافع, وفي الردود تحريرُ محل النزاع وتحديد محور
النقاش ونقطة البحث وعدم الخروج عنها إلا بعد إنهائها, والإشارة لذلك, دفعاً لخلط
الفهم عند القارئ أو السامع, وفائدة ذلك أن لا يتشعّب الحديث في شجون لا علاقة لها
بصلب النقاش.
هذا وتحرير معاني الألفاظ والمصطلحات عند أهل الفن الداخل تحت مظلته النقاش
يختصر الكثير, قال شيخ الإسلام: "فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال
وقع فيه الضلال والإضلال وقد قيل: إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء".
ومن المهمات: إحسان الظن بأخيك, وحمل كلامه على أحسن محامله, فإن لم تجد
فقل: لعل له عذراً لا أعلمه.
تأنّ ولا تعجل بلومك
صاحباً لعلّ له عذراً وأنت تلومُ
ومن المهمات؛ الفرح بالحق حيث كان, ولو ممن تدارسه والحذر من آكل الحسنات
الحسد, فافرح بالحق ولو جاءك على صفة المناظرة, فالمُدارسة والمناقشة من طرق
التحصيل والتثبيت للعلم لمن أصلح الله حالهم. والرحمة بالخلق سيما المؤمنين, ومن
محاكّ الصدور الفرح بالحق من فيّ الخصم, وهذا من خلق السادات, وعادات السادات
سادات العادات, وممن اشتهروا بذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
ومن المهمات: الحلم والصفح وقول الحُسنِ واختيار
رقيق اللفظ وليّن العبارات "وقولوا للناس حسناً" "وقل لعبادي
يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" قال ابن الجوزي رحمه الله:
"إذا خرجت من فيّ عدوك لفظة سفه, فلا تلحقها بمثلها تلقحها, فنسل الخصام
مذموم".
ومن المهمات: تذكر زوال الدنيا وأن كل شيء هالك
إلا وجهه, سبحانه وبحمده, وان الأجل أقرب مما نتصوّر:
وأبرح ما يكون الشوق
يوماً إذا دنت الديار من الديار
وقد كان إمام السنة أحمد كثيراً مايتمثل بـ:
وما هي إلا ساعة ثم
ساعة ويوم إلى يوم وشهر إلى شهر
مطايا يقربن الجديد
إلى البلى ويدنين أشلاء الصحيح إلى
القبر
ومن المهمات: الهرب الصادق واللجأ والاعتصام من موجبات غضب الله تعالى,
كالشرك والبدع والذنوب, كما قال عنها ابن القيم: "فهذا منذر بسيل عذاب قد
انعقد غمامه, ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه, فاعزلوا عن هذا طريق هذا السيل
بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح".
ومن المهمات: الصبر على طريق الهدى والحق, وإن كنت وحدك فإبراهيم الخليل
عليه السلام كان أمة وحدة, وإذا عظم المطلوب قل المساعد, واصبر هنيهة فعن قريب
تنقضي, فمن استطال السفر ضعف مسيره.
ومن المهمات: رد الخلاف إلى الله (لكتابه) ولرسوله (لسنته). قال شيخ الإسلام: "وهكذا مسائل النزاع
التي تنازع فيها الأمة في الأصول والفروع, إذا لم تُردّ إلى الله و الرسول لم
يتبين فيها الحق, بل يصير فيها المتنازعون على غير بيّنة من أمرهم, فإن رحمهم الله
أقرّ بعضهم بعضاً ولم يبغ بعضهم على بعض, كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان
يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقرّ بعضهم بعضاً ولا يعتدي عليه, وإن لم يُرحموا
وقع بينهم الاختلاف المذموم, فبغى بعضهم على بعض إمّا بالقول مثل تكفيره وتفسيقه,
وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله, وهذه حال أهل البدع و الظلم".
ومن المهمات: مراقبة الله تعالى في التعامل مع المخالف مهما كان حاله, قال
شيخ الإسلام: "ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه "إن الله
مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" وقال تعالى: "وإن تصبروا وتتقوا لا
يضركم كيدهم شيئاً إن الله بما يعملون محيط".
ويشتموا فترى الألوان
مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح أحلام
ومن المهمات: تعلّم أصول المدارسة والحوار والمناظرة؛ ومن ذلك حسن
الاستماع, ومن لم يحسن الاستماع لم يحسن القول, والإيجاز, وحسن الإيجاز: أن لا
تبطئ ولا تخطئ, وترك التكرار إلا لحاجة, فتكراره إلى أن يفهمه من يفهمه يكون قد
مله من فهمه, وخير الكلام ما لم يحتج بعده لكلام, وخير الكلام ما قلّ ودلّ ولم يطل
فيمل, ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق, ويكفي متين القول عن حواشيه, ومنها: عدم
الاغترار بكثرة الحجج إن لم يكن لها حقيقة.
إن كان في العيّ آفات
مقدرة ففي البلاغة آفات تساويها
تكلم رجل عند معاوية رضي الله عنه فهذر _أي: خلط وتكلم بما لا ينبغي_ ثم
قال: أأسكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل تكلمت؟! وقال أحدهم: رأيت عورات الناس بين
أرجلهم, وعورة فلان بين فكيه.
رأيت اللسان على
أهله إذا ساسه الجهل ليثاً مغيراً
ومنها: ترك ما يموت بتركه من الباطل, قال حاتم الطائي: إذا كان الشيء
يكفيكه الترك؛ فاتركه. وبعض الرد وتكراره يحيي الشبه في النفوس, التي ربما همدت
ونُسيت بترك طَرْقها.
ومنها: الأناة والهدوء, حتى ينتهي مقال أخيك سواء شفاها أو كتابة, فضيق
العطن والعجلة ليست من سيما أهل العلم, وتكلّم بعلم, أو اسكت بحلم.
ومنها: ترك الظن الباطل, وهو العريّ عن برهانه, كما قيل: ثبت العرش ثم
انقش.
ومن المهمات: أن يعلم أن كلامه المكتوب والمسموع والمشاهد معدود من عمله,
ومحفوظ في سجلات الكرام الكاتبين, ومنها: أن يعمل بقوله قدر طاقته, قال زبيد
اليامي: اسكتتني كلمة ابن مسعود عشرين سنة: من كان كلامه لا يوافق عمله فإنما يوبخ
نفسه.
ومنها: أن يقول الحق لا تأخذه فيه لومة لائم, ولمّا تكلم جلساء معاوية رضي
الله عنه والأحنف ساكت, فقال معاوية: يا أبا بحر, مالك لا تتكلم؟ فقال: أخافكم إن
صدقت, وأخاف الله إن كذبت. وقد قال الأول: إذا لم تقل الحق فلا تقل الباطل. وكلّ
كلمة لها من الله طالبٌ فمعتق أوموبق. "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيراً أو ليصمت" وجماع ذلك: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
ومنها: ألا يعتقد ثم يستدل, حتى لا يزيغ البصر فتتبعه البصيرة. والذنوب
كلها شؤم "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم".
ومنها: أن لا يُبدي ولا يبدأ في الإسلام رأياً ليس له فيه إمام, بل يتبع
ولا يبتدع فقد كفي.
ومن المهمات: أن يحرّر كلامه قبل نقله, وأن يكون عنده ميزان وبصيرة
بالمقولات التي بين يديه, حتى لا يكون إمّعةً, قال رجل لعلي: أترى أننا نظن أنك
على الحق وفلاناً على باطل؟ فقال علي: "ويحك يا فلان! الحق لا يعرف بالرجال,
اعرف الحق تعرف أهله" وانظر جواب الشيخ أبا بطين رحمه الله لما سئل: لو كان
هذا حقاً ما خفي على فلان...".
ولا للاصطفاف على غير علم, والتخندق على غير حلم, والنصر الأعمى بلا حكمة,
بل لابد من النضج الخلقي والعلمي.
ومنها: اللين في الخطاب, والحكمة في الموعظة, والسهولة في الأسلوب,
والتعريض دون التصريح عند الحاجة, فإن لم ينجع فبما بال أقوام, وآخر العلاج الكي.
"فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك". والعامة تقول: الكلام الليّن يغلب الحق البيّن.
ومنها: اعتبار اختلاف الرأي لا يفسد الود فيما يسوغ فيه الخلاف, وهذا حال
السلف الصالح. ومما يلحق بذلك؛ أن لا يشترط قبول الطرف المقابل لرأيه واجتهاده, بل
يكفيه أن يستمع له ويفهمه, والحوار الهادف المنضبط هو من قبيل تدارس العلم، ومن
أسباب نمائه وتثبيته ونشره, فهو مأجور من هذه الحيثيّة.
ومنها: أن لا يردّ البدعة بأختها, بل بالسنة. قيل لإمام دار الهجرة مالك
رحمه الله تعالى: الرجل يأمر بالسنة؟. قال: نعم. قيل: أيجادل عنها؟ قال: لا.
ونبيّنا صلوات الله وسلامه عليه زعيم بيت في ربض الجنّة لمن ترك المراء وإن كان
محقاً.
ومنها: الحذر من أن تأخذه العزة بالإثم, قال ابن مسعود رضي الله عنه: من
قيل له: اتق الله, فقال: انشغل بنفسك, فقد أخذته العزّة بالإثم, وما أقلّ من يسلم
من ذلك في مضائق المناظرات. ومن توابع تيك المنقبة؛ اعتبار الرجوع عن الخطأ فضيلة
-عملياً- وعدم التردد في ذلك, وأن يتحلّى بالفروسية في مُسايفة الكلم ومُثاقَفَةِ
الخُطب, وأن التواضع للحق, وكسر نخوة النفس, خير في العقبى والأولى من الإعناق في
باطل مشوب بتأويل.
وملاك القول أن من علامات التوفيق ألا تفرح
بعجاج الجدل ونقع المراء.
وبالجملة؛ فمِن حُسنِ سياسة الناس في التعليم والمدارسة والمناظرات
والمحاورات لين الجانب وبسط الوجه وبشاشة العبارات وإرادة الخير للمقابل ظاهراً
وباطناً, وهناك خيط رفيع بين الحوار "المدارسة" وبين المراء
"المهاترة" وإرادة العلو في الأرض, وهي مذمومة ولو كانت بحق, ناهيك عن
كونها بالباطل!
فإن كانت المدارسة هكذا وإلا فلتكسر الأقلام ولتمزق الصحائف، فكل حزب بما
لديهم فرحون، قد تلبّس الشيطان أفئدتهم فأوحى إليها زخرف القول غروراً، فتناولت
العزة بالإثم أناملهم فكرعت في الكبر, وخاضت في الباطل.
جعلنا الله جميعاً طلاب حق, وأخذ بأيدينا وهدانا سبيل المنعم عليهم، وأبعدنا
عن موارد الغضب ومواطن الضلال، آمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب
العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إبراهيم
الدميجي
صحيفة
آفاق نيوز
aldumaiji@gmail.com