كيف يريدُ الله تعالى أمرًا لا يرضاه؟
الحمد لله، وبعد؛ فبمعرفة إجابة هذا السؤال الكبير تزول أكبر إشكالات هذا الباب، ذلك أن كثيرًا من الناس يجعلون أمر الإرادة الشرعية والقدرية أمرًا واحدًا، فيلتزمون بلازمٍ باطل لهذا الفهم الباطل، -فما بني على باطل فهو باطل- فيقولون: إن كل ما خلقه الله تعالى قد رضيه وأحبه، وهذا ضلال، فالمحبة إنما تتبع الإرادة الشرعية لا المشيئة الكونية، فالله يحب الإيمان والمؤمنين، ويكره الكفر والكافرين، والقائل تبارك وتعالى: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) هو ذاته الذي قال: (ولا يرضى لعباده الكفر). وهو حكيم في كل أفعاله، ويستحق عليها تمام الحمد.
فالله تعالى لا يقدّر أمرًا إلا لما فيه من الخير أو لما يفضي به إلى الخير، فالله تعالى لا يخلق شرًّا محضًا، إذ الشر العدمي معدوم في مخلوقاته، فخلقه إما خير محض، أو خير من بعض الوجوه لحكم في الخلق والأمر والتكليف عظيمة، أو شرٌّ مترتب عليه خير في العاقبة. وعليه؛ فقد يكون الخير متمحّضًا في الشيء، وقد يكون شرًّا يترتّب عليه خير يحبه الله تعالى، ومن هنا انتفت نسبة الشر إلى الله تبارك وتعالى.
وبهاتين الإرادتين – الشرعية والقدرية- قام التكليف واستقام الأمر والنهي واكتمل امتحان القلوب في ميدان الإيمان والكفر، ومجاهدةُ النفسِ والخلقِ في ذات الله تعالى، ونهض سوق الجهاد باللسان والسنان، ودُعي إلى سبيل الله تعالى، وأُمر بالمعروف ونُهي عن المنكر، وقام سوق الجنة والنار. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبه، وكيف يشاؤه ويكوّنُه، وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته؟
قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فِرَقًا، وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره قد لا يكون في نفسه مقصودًا للمُريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلّقهما، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهة إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة جدًّا إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته وطويت عنه مغبته، فكيف بمن لا تخفى عليه العواقب؟! فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته، ولا ينافي ذلك إرادته لغيره وكونه سببًا إلى ما هو أحب إليه من فوته.
مثاله: أن الله سبحانه خلق إبليس (1) الذي هو مادّةٌ لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة، فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى، مسخوط له، لعنه الله ومقته وغضب عليه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محابٍّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، وجودُها أحبّ إليه من عدمها. (2)
منها: أن تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرّها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، (3) فتبارك الله خالق هذا وهذا.
كما ظهرت لهم قدرته التامة في خلق الليل والنهار، والضياء والظلام، والداء والدواء، والحياة والموت، والحر والبرد، والحسن والقبيح، والأرض والسماء، والذكر والأنثى، والماء والنار، والخير والشر، وذلك من أدل الدلائل على كمال قدرته وعزته وسلطانه وملكه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابَلَ بعضها ببعض، وسلّط بعضها على بعض، وجعلها محالّ تصرّفه وتدبيره وحكمته، فخلوّ الوجود عن بعضها بالكليّة تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.
ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية مثل القهار والمنتقم والعدل والضار (4) وشديد العقاب وسريع الحساب وذي البطش الشديد والخافض والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، فلا بد من وجود متعلّقها. ولو كان الخلق كلهم على طبيعة المَلَكِ لم يظهر أثر هذه الأسماء والأفعال.
ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمّنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكره من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء؛ لتعطلت هذه الحكم والفوائد. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". (5)
ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به. فهو أعلم حيث يجعل رسالته، وأعلمُ بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه ووصولها، وأعلم بمن لا يصلح لذلك ولا يستأهله، وأحكم من أن يمنعها أهلها وأن يضعها عند غير أهلها.
فلو قدّر عدم الأسباب المكروهة البغيضة له؛ لتعطلت هذه الآثار، ولم تظهر لخلقه، ولفاتت الحكم والمصالح المترتبة عليها، وفواتها شرٌّ من حصول تلك الأسباب. فلو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر؛ لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب. وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعافُ أضعافِ ما يحصل بها من الشر والضرر، فلو قدر تعطيلها لئلا يحصل منها ذلك الشر الجزئي لتعطل من الخير ما هو أعظم من ذلك الشر بما لا نسبة بينه وبينه.
ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضها لا كلها. فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين؛ لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه سبحانه، والمعاداة فيه، والحب فيه، والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الرب على محاب النفس.
ومنها: عبودية التوبة والرجوع إليه واستغفاره، فإنه سبحانه يحب التوابين ويحب توبتهم، فلو عُطّلت الأسباب التي يُتاب منها؛ لتعطلت عبودية التوبة والاستغفار منها.(6)
ومنها: عبودية مخالفة عدوّه، ومراغمته في الله، وإغاظته فيه، وهي من أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحبُّ مِن وليِّه أن يغيظ عدوه ويراغمه ويسوءَه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس. (7)
ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة به من عدوه، وسؤاله أن يُجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه.
ومنها: أن عبيده يشتد خوفهم وحذرهم إذا رأوا ما حل بعدوه بمخالفته وسقوطه من المرتبة المَلَكيّة إلى المرتبة الشيطانية، فلا يخلدون إلى غرور الأمل بعد ذلك.
ومنها: أنهم ينالون ثواب مخالفته ومعاداته الذي حصوله مشروط بالمعاداة والمخالفة، فأكثر عبادات القلوب والجوارح مرتّبة على مخالفته. (8)
ومنها: أن نفس اتخاذه عدوًّا من أكبر أنواع العبودية وأجلّها، قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا)، فاتخاذه عدوًّا أنفع شيء للعبد، وهو محبوب للرب.
ومنها: أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر والطيب والخبيث، وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد، فخَلَقَ الشيطانَ مستخرجًا لما في طبائع أهل الشر من القوّة إلى الفعل، وأُرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة إلى الفعل (9) فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها لتترتّب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر لتترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلومًا له مطابقًا لعلمه السابق. (10)
وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه ويعبده أولى من وجود من يعصيه ويخالفه، فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحِكَم والمصالح والغايات المحمودة في خلق هذا النوع ما لا تعلمه الملائكة.
ومنها: أن ظهور كثير من آياته وعجائب صنعه حصل بسبب وقوع الكفر والشرّ من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردًا وسلامًا، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم) فلولا كفر الكافرين وعناد الجاحدين لما ظهرت هذه الآيات الباهرة التي يتحدث بها الناس جيلًا بعد جيل إلى الأبد.
ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضًا، ويكسر بعضها بعضًا، هو مِن شأنِ كمالِ الربوبية والقدرة النافذة والحكمة التامة والملك الكامل، وإن كان شأن الربوبية كاملًا في نفسه ولو لم تخلق هذه الأسباب، لكن خلْقها من لوازم كماله وملكه وقدرته وحكمته، فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة تحقيقٌ لذلك الكمال وموجب من موجباته، فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه وأقسامه وغاياته.
وبالجملة؛ فالعبودية والآيات والعجائب التي ترتّبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه وتقديره ومشيئته أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟
قلت: هذا سؤال باطل، إذ هو فرضُ وجود الملزوم بدون لازمه،(11) كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قلت: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تُفضي إليه من الحكم؛ فهل تكون مرضيّة محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟
قلت: هذا السؤال يورَد على وجهين أحدهما: من جهة الرب سبحانه وتعالى، وهل يكون مُحِبًّا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه وإن كان يبغضها لذاتها، والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضًا. فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشرّ كله يرجع إلى العدم (12)، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شرّ، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشرّ بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أُعينت بالعلم وإلهام الخير (13) تحرّكت، وإن تُركت (14) تحرّكت بطبعها إلى خلافه. وحركتها من حيث هي حركةٌ خير، وإنما تكون شرًّا بالإضافة لا من حيث هي حركة. (15)
والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرًّا، فعُلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية. ولهذا كانت العقوبات الموضوعات في محالّها خيرًا في نفسها وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى المحل الذي حلّت به لِمَا أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شرًّا بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه. فإنه سبحانه لا يخلق شرًّا محضًا من جميع الوجوه والاعتبارات، فإنّ حكمته تأبى ذلك، بل قد يكون ذلك المخلوق شرًّا ومفسدة ببعض الاعتبارات، وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده، بل الواقع منحصر في ذلك، فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئًا يكون فسادًا من كل وجه بكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير، والشرّ ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشرّ إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمّلْه. فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيّره شرًّا. (16)
فإن قلت: لم تنقطعْ نسبتُه إليه خلقًا ومشيئة؟
قلت: هو من هذه الجهة ليس بشرٍّ، فإنّ وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشرّ، والشرّ الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير.
فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد والإعداد والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد السبب خير وهو إلى الله، وإعداده خير وهو إليه أيضًا، وإمداده خير وهو إليه أيضًا. فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشرّ (17) بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده.
فإن قلت: فهلّا أمدّه إذ أوجده؟
قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجده ويمدّه، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمدّه بحكمته. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قلت: فهلّا أمدّ الموجودات كلها؟
قلت: فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة، وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه من تفاوت،(18) والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت. فإن اعتاص ذلك عليك ولم تفهمه حق الفهم فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيعُ
كما ذُكر أن الأصمعي اجتمع بالخليل بن أحمد وحرص على فهم العروض منه فأعياه ذلك، فقال له الخليل يومًا: قطّعْ لي هذا البيت وأنشده: إذا لم تستطع شيئًا.. البيت. ففهم ما أراد، (19) فأمسك عنه ولم يشتغل به.
وسرّ المسألة: أن الرضا بالله يستلزم الرضا بصفاته وأفعاله وأسمائه وأحكامه، ولا يستلزم الرضا بمفعولاته كلها. بل حقيقة العبودية: أن يوافقه عبده في رضاه وسخطه، فيرضى منها بما يَرضى به، ويسخط منها ما سخطه.
فإن قيل: فهو سبحانه يرضى عقوبة من يستحق العقوبة، فكيف يمكن العبد أن يرضى بعقوبته له؟ قيل: لو وافقه في رضاه بعقوبته؛ لانقلبت لذّة وسرورًا، ولكن لا يقع منه ذلك، فإنه لم يوافقه في محبته وطاعته التي هي سرور النفس وقرة العين وحياة القلب، فكيف يوافقه في محبته للعقوبة التي هي أكره شيء إليه وأشق شيء عليه؟! فإنّه لمّا كان كارهًا لما يحبه من طاعته وتوحيده فلن يكون راضيًا بما يختاره من عقوبته.
فإن قلت: فكيف يجتمع الرضا بالقضاء الذي يكرهه العبد من المرض والفقر والألم مع كراهته؟
قلت: لا تنافي في ذلك، فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب، ويكرهه من جهة تألّمه به، كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه، فإنه يجتمع فيه رضاه به وكراهته له.
فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟
قلت: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، بحيث يكون وقوعها منه مستلزمًا لمفسدة راجحة ومفوّتًا لمصلحة راجحة (20).
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين). فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم مع رسوله للغزو وهو طاعة وقربة وقد أمرهم به، فلمّا كرهه منهم ثبّطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت ستترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) أي فسادًا وشرًّا (ولأوضعوا خلالكم) أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر (يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون) لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من بين سعي هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشرّ ما هو أعظم من مصلحة خروجهم؛ فاقتضت الحكمة والرحمة أن مَنَعَهَم من الخروج وأقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلًا لهذا الباب وقس عليه.
فإن قلت: قد يتصور لي هذا في رضا الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجه وكراهته من وجه آخر، فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي والفسوق؟
قلت: وهو متصوّر ممكن بل واقع، فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه ويكرهه من حيث هو فعل له بسببه وواقع بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه، فيرضى بما مِنَ الله ويسخط ما هو منه (21)، فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، (22) وطائفة أخرى رأوا كراهة ذلك مطلقًا وعدم الرضا به من كل وجه. وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك، فإن العبد إذا كرهها مطلقًا؛ فإن الكراهة إنما تقع على الاعتبار المكروه منها، وهؤلاء لم يكرهوا علم الرب وكتابته ومشيئته وإلزامه حكمه الكوني، وأولئك لم يرضوا بها من الوجه الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله. وسرّ المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد منها هو المكروه والمسخوط.
فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها.
قلت: هذا هو الجبر (23) الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيّق. والقدري أقرب إلى التخلص منه من الجبري. وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية هم أسعد بالتخلص منه من الفريقين.
فإن قلت: كيف يتأتّى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيّوميّة والمشيئة النافذة؟
قلت: هذا الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك! وقيل:
أصبحتُ منفعلًا لما تختارُه ... منّي ففعلي كله طاعات
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله، وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون كلهم مطيعين له! فيكون قد عذبهم أشدّ العذاب على طاعته، وانتقم منهم لأجلها، وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة.
قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين؛ كان بالله في هذه الحال لا بنفسه. فوقوع الذنب منه لا يتأتّى في هذه الحال البتّة، فإنّ عليه حصنًا حصينًا من: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي". (24) فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال. فإذا حُجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس والطبع والهوى، وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك وأرسلت عليه الصيادون، فلابد أن يقع في شبكة من تلك الشباك وشرك من تلك الأشراك، وهذا الوجود هو حجاب بينه وبين ربه، فعند ذلك يقع الحجاب ويقوى المُقتضي ويضعف المانع وتشتد الظلمة وتضعف القوى، فأنّى له بالخلاص من تلك الأشراك والشباك. فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي وانجاب ظلامه وزال قتامه وصرت بربك ذاهبًا عن نفسك وطبعك:
بدا لك سرٌّ طال عنكَ اكتتامُهُ ... ولاحَ صباحٌ كان منك ظلامُهُ
فإن غبتَ عنه حلَّ فيه وطنَّبَتْ ... على منكِبِ الكشفِ المصونِ خيامُهُ
فأنت حجابُ القلب عن سرِّ غَيبِهِ ... ولولاك لم يُطبعْ عليه خِتَامُهُ
وجاء حديثٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ ... شهيٌّ إلينا نثرُهُ ونظامُهُ
إذا ذَكَرَتْهُ النفسُ زال عناؤها ... وزالَ عن القلبِ المُعنَّى قتامُهُ (25)
فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية بنفسه محجوبًا فيها عن ربه وعن طاعته، فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر بقي بربه لا بنفسه. وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو فيه بربه، وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية، بل يجامعه ويستمد منه، وبالله التوفيق". (26)
وهذه الأحرف من ابن القيم كافية شافية في هذا الباب الشائك والمعترك الصعب والميدان المزدحم، ومجملها – بحمد الله تعالى - معلوم لمن تدبر القرآن العظيم، وسَلِمَ من شبه المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
...............................................
1. وهذا المثال هو أوضح أمثلة مسألة خلق الشرّ.
2. فوجود الطاعات الإيمانية الناشئة عن المجاهدة أحب إلى الله تعالى من عدم أصل الشرّ إبليس، وبهذا علمنا أن الله تعالى لا يخلق شرًّا محضًا، وأن الشر المحض الذي لا يترتب عليه خير معدوم في الخلائق، ولله الحكمة البالغة تبارك وتعالى.
3. لعله يقصد أن المادة الملكية هي الطاعة المطلقة بلا عصيان لله تعالى، كما قال تعالى: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) وهذه هي مادة كل خير على الحقيقة. ولو قال "من أشرف الذوات بعد الله تعالى" لكان حسنًا، تعظيمًا لجناب رب العالمين، وحسنًا للأدب معه تبارك وتعالى، كما أنه بذلك يخرج من الخلاف القائم في تشريف جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم أو العكس أو تساويهما. والراجح تفضيلُ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم على رسولنا الملكي جبرائيل عليه السلام، وهذا مذهب ابن القيم نفسه كما نص عليه. ومن شواهد الترجيح: أنه قد ارتفع وبلغ ليلة المعراج مدًى لم يبلغه جبريل عليهما الصلاة والسلام، ورفعةُ الذاتِ من دلائل تفضيل المعنى، كما أن الله تعالى قد اتخذه خليلًا، وغير ذلك من الفضائل الهائلة الجليلة. قال الناظم:
وأفضلُ الخلق على الإطلاق ... نبيُّنا فمِلْ عن الشّقاق
قال النووي رحمه الله في المنهاج (15/ 37) في شرحه لحديث مسلم (4223) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة.." الحديث. قال: "وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، لأنّ مذهب أهل السنة أن الآدميين أفضل من الملائكة، وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الآدميين وغيرهم". وقـال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (1 / 145): "وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق جاهًا عند الله، لا جاه لمخلوق أعظم من جاهه، ولا شفاعة أعظم من شفاعته". وقد توارد أهل العلم على وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أفضل الخلق كالشافعي والنووي وابن تيمية وابن القيم وابن حجر وابن عاشور والسعدي والشنقيطي وابن باز وغيرهم كثير في المتقدمين والمحدثين. وبذلك أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء فقالوا في فتاوى اللجنة (26/35): "جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة بيان عظم قـدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه تعالى من خلال الفضائل الجليلـة والخصائص الكريمة التي خصه الله بها، مما يدل على أنه أفضل الخلق وأكرمهم على الله وأعظمهم جاهًا عنده سبحانه... فمما ذُكر وغيره يتبين أن نبيّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، بل وأفضل الخلق، وأعظمهم منزلة عند الله تعالى، ولكن مع هذه الفضائل والخصائص العظيمة فإنه صلى الله عليه وسلم لا يرقى عن درجة البشرية، فلا يجـوز دعاؤه والاستغاثة به من دون الله عز وجل، كما قـال تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا )، وبالله التوفيق".
وقد رجّح بعض أهل العلم تفضيل جبريل بناء على قولهم بتفضيل جنس الملائكة، والخلاف في المسألة قديم، وتوقف آخرون، وممن توقف العلامة العثيمين رحمه الله كما في لقاءات الباب المفتوح (53/11) بحجة أنه لم يرد نص أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق مطلقًا في كل شيء.
ومسألة التفضيل بين جنس الملائكة وصالحي البشر مشهورة، قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق (3 /1002): "إنّ الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما هو أفضل من المخلوق من غيرها، وهذا من كمال قدرته سبحانه، ولهذا كان محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح والرسل عليهم الصلاة والسلام أفضل من الملائكة، ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة، وإن كانت مادتهم نورًا، ومادة البشر ترابًا"، وقال ابن عثيمين رحمه الله في فتاوى نور على الدرب (8 /6): "المفاضلة بين الملائكة وبين الصالحين من البشر محل خلاف بين أهل العلم.. والقول الراجح: إن الصالحين من البشر أفضل من الملائكة باعتبار النهاية، فإن الله سبحانه وتعالى يؤدّي لهم من الثواب ما لا يحصل مثله للملائكة فيما نعلم، بل إن الملائكة في مقرهم يدخلون عليهم من كل باب يهنئونهم: ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار )، أما باعتبار البداية فإن الملائكة أفضل؛ لأنهم خلقوا من نور، وجبلوا على طاعة الله عز وجل والقوة عليها، كما قال الله تعالى في الملائكة ملائكة النار: (عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وقال عز وجل: (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) هذا هو القول الفصل في هذه المسألة".
ولقد أحسن ابن أبي العز رحمه الله حينما ذكر ذلك النص بزيادة "من"، في نقله عن ابن القيم رحمه الله في شرحه للطحاوية -وقد شرح أكثر أبوابها من كتب ابن تيمية وابن القيم مع إبهام اسميهما حتى يروج علمهما في وقت كانت كتبهما تحرق وتُحارَب، وهذا من فقهه ونصحه رحمه الله- فقال في (1 / 167): "من أشرف الذوات". ولعلها كانت في الأصل المخطوط لابن القيم فأسقط الناسخ "من". والله أعلم. وقال د. الحوالي حفظه الله تعالى في شرحه للطحاوية (1 / 1494-1496): "فجبريل عَلَيْهِ السَّلام مادة كل خير من جهة أنه رسول الله تَبَاركَ وتعَالى الملكي إِلى رسله من البشر، ولهذا كانَ التمثيل بجبريل عَلَيه السَّلام، ولم يكن التمثيل بمحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل هو الذي بلغ الوحي إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك بلغه إِلَى موسى وإلى عيسى وإلى من قبله.
حتى إن ورقة بن نوفل لما جاءته خديجة وأخبرته بشأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "هذا هو الناموس الذي كَانَ ينزل عَلَى موسى" ولهذا قال اليهود: إن عدوهم هو جبريل، قالوا: يا مُحَمَّد من الذي يتنَزل عليك بالوحي؟ قال: "جبريل عَلَيْهِ السَّلام" قالوا: ذاك عدوّنا من الملائكة. (حديث حسن، رواه أحمد (2514) والنسائي (9024) وغيرهما.) -عياذًا بالله- ولهذا قال الله تَعَالَى فيهم في سورة البقرة: (مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِين)، فهذا يدل عَلَى أن اليهود من جنس إبليس عياذًا بالله، من نفس المادة -مادة الشرّ- بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سمّى اليهود شياطين، كما سمى الشيطان شيطانًا، قال تعالى: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ)، أي: إذا خلى المنافقون إِلَى اليهود قالوا: إنا معكم، فهم شياطينهم؛ لأن الشيطان يمد الإِنسَان بالشهوات والشبهات، واليهود أيضًا يمدون الإِنسَانية بالشهوات والشبهات، فانتشار القمار، والزنا، والربا في كل مكان وفي كل عصر عَلَى أيدي هَؤُلاءِ.
فكانوا يأتون إِلَى المنافقين ويقولون: نبيكم مُحَمَّد فيه كذا وكذا؛ لأنهم يعتبرون أن عندهم علم من الكتاب وأولئك أميون، فالمنافقون إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إِلَى اليهود، أي: (إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
فالغرض من ذلك هو دقة تعبير المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لمّا قَال: "التي هي من أشرف الذوات" فلم يقل: "جبريل أشرف الذوات"، حتى لا يُفهم أنه يقول: إن ذات جبريل أفضل من ذات مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العلماء اختلفوا، هل هذا أفضل أو هذا أو هما سواء، وليس هذا مراد المُصْنِّف هنا، وإنما مراده أن يخرج من الخلاف. فيقول لك: إن أصل مادة الشر هو إبليس، وأصل مادة كل خير هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام؛ لأن ما جَاءَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير والرسالة هو عن طريق جبريل، وكذلك كل ما أتى جميع الأَنْبِيَاء هو عن طريق جبريل عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: "فتبارك خالق هذا وهذا"، فتبارك الله الذي خلق أصل كل شرّ وخلق أصل كل خير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هكذا اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: "كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار" كيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا النهار سرمدًا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ، وكيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا الليل سرمدًا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ؟ لا تصلح الحياة، لكن الله جعل الليل وجعل النهار، فاستقامت الحياة والمصالح، وانتظمت أمور العباد، وهذا دليل عَلَى حكمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى في خلق هذين الضدين الدواء والداء. فلو كانت الدنيا كلها أدواء لما صلحت الحياة، ولو كانت كلها دواء، أو لا مرض فيها ولا داء، فإنها تفوت حكم عظيمة، لكن حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنها أدواء ومعها الدواء، ولذلك انتظمت مصالح ومعايش كثيرة لأناس كثيرون، فمرض هذا نفع لذلك، فإن كَانَ الذي مرض بالداء شرّيرًا، استراح الخلق من شره. وأما إذا كَانَ المريض طيبًا، فيستفيد الأطباء من ذلك، وأيضًا مساعدة هذا المريض والإحسان إليه يحصل بسبب ذلك الأجر من الله.
وكمثال آخر: أن الله يبتلي بعض عباده بالفقر مع أنه مكروه لذاته -فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكره أن يفقر عبده الصالح- لكن هناك حكم كثيرة وراء ذلك، فيبتليه ليرفع درجته، وكذلك الإحسان إليه يكون سببًا في تحصيل الأجر من الله.
وهكذا أمور كثيرة نجد أن لها حكمًا عظيمة، يعجز العقل البشري عن حصرها، فتظهر بوجود هذه المتضادات المتقابلات، والله تَعَالَى هو العليم بكل شيء. قوله: "والحياة والموت"، وأيضًا الموت له حكم عظيمة، فإما أن يموت شرير فيستريح الخلق من شره، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مستريحٌ ومستراحٌ منه"، رواه البخاري (6513) ومسلم (950) فلو كَانَ فرعون وماركس وغيرهما -عياذًا بالله- أحياء لما وجد النَّاس راحة في حياتهم، فيكفي أن الأمم والشعوب عانت من شرهم مدة حياتهم، فلما ماتوا استراح النَّاس من شرهم.
وكذلك موت الأخيار أيضًا فيه حكمة. فأفضل خلق الله مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلله عَزَّ وَجَلَّ حكمة في موت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومنها: أنه بشر فلا يُعبد من دون الله ولا يؤلّه، وليقوم النَّاس من بعده بالدين، وليعلموا أن مسؤولية هذا الدين عليهم. ولهذا أعلنها الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنه فقَال: "من كَانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كَانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت". وارتد من ارتد من العرب، وتبقى الصفوة المختارة المؤمنة لتردّ النَّاس إِلَى الدين، وهذه حكمة عظيمة جدًّا، عرفنا بها أنّ ديننا من مسؤوليتنا وأن نشره يكون عَلَى أيدينا، فالله تَعَالَى لو شاء لجعل النَّاس أمة واحدة، لكن حكمة الله اقتضت أن نبذل الجهد، فكم خرج من الْمُسْلِمِينَ، وكم قتل منهم في معارك الفرس والروم، وكم فُتح من البلاد، وأسلم بسبب ذلك أناس كثيرون. فكان في ذلك كثير من الحكم والمصالح، ومع ذلك فإن موته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبة، فأعظم مصيبة حصلت في هذه الأمة فقده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعدلها أي مصيبة عَلَى الإطلاق، ومع ذلك فيها حكمة بل حِكم مما نعلم وما لا نعلم وهكذا". أهـ. وعلى ذكر موت الأخيار فقد روى الذهبي رحمه الله تعالى في تاريخ الإسلام (٢/٨٣١) عن سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى قال: "عَرضتْ عائشة على أبيها رؤيا - وكان من أعبر الناس - قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجرتي. فقال: إن صدقت رؤياك دُفن في بيتك من خير أهل الأرض ثلاثة. فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا عائشة، هذا خير أقمارك". صلى الله عليه وآله وسلم.
4. أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يثبت منها شيء إلا بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة. علمًا أن باب الإخبار عن الله تعالى أوسع من باب الأسماء والصفات، فإذا لم يثبت الاسم وكان معناه صحيحًا فيجوز حينها الإخبار به عن الله تعالى، وعلى ذلك فلا يُعبّد بهذا الاسم، فلا يقال: عبد النافع وعبد الضار ونحوهما لأن التسمية بهما لم تثبت، والمنع من التسمية بعبد النافع ونحوه لا لأنه يوهم نقصًا ولكن لأنه لم يثبت بالنصّ أنّه من الأسماء الحسنى، أما التسمي بعبد الضار فلا يجوز بحال، وفيه سوء أدب مع الله تعالى وسوء ظن به عز وجل.
وكذلك؛ فلمّا كان الإخبار عن الله تعالى بأنه الضار فإنه قد يوهم نقصًا، فقد نص أهل العلم على أنه لا يُذكر إلا مقرونًا بالإخبار عنه بأنه النافع، كما هو الحال في القابض الباسط والخافض الرافع والمعز المذل ونحوها.
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى (1 / 93) في تعليقه على حديث ابن عباس عند الترمذي (2516) مرفوعًا: "واعلم أنّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك..."، الحديث. قال: "فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا الله ولا يضر غيره". وقال شيخنا العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك حفظه الله تعالى: "الضار ليس من أسماء الله تعالى، بل من أسمائه التي ورد ذكرها في بعض الروايات "النافع الضار"، يعني الكلمتان اسم واحد، فهو سبحانه النافع الضار؛ لأنه سبحانه هو خالق كل شيء، خالق الخير والشر". أهـ. ضمن جواب لسؤال في موقع طريق الإسلام. وقصد بالاسم الواحد الازدواج والتقابل، فاسم الضار يكمّله اسم النافع، واسم المانع يكمله اسم المعطي وهكذا، وهذا في الإخبار عن أفعاله تعالى، ويستقيم كذلك عند من صحّحوا الحديث في سرد الأسماء- . وبنحوه قال شيخنا العثيمين كذلك في لقاءات الباب المفتوح، اللقاء رقم: (6).
قلت: والحديث الذي عدّ النافع والضار من أسماء الله الحسنى رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه الترمذي (3507) وضعفه الألباني وآخرون من جهة رفع الأسماء الحسنى المسرودة. وقد ذهب جماعة من الحفاظ كابن كثير وابن حجر إلى أن سرد الأسماء الحسنى فيه مدرج في الحديث.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى تأصيلًا نافعًا في هذا الباب فقال في بدائع الفوائد (1 / 177): "أسماء الله تعالى منها ما يطلق عليه مفردًا ومقترنًا بغيره، وهو غالب الأسماء، كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم، وهذا يسوغ أن يُدعى به مفردًا ومقترنًا بغيره، فتقول: يا عزيز، يا حليم، يا غفور، يا رحيم. وأن يفرد كل اسم. وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع.
ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده، بل مقرونًا بمقابِلِه كالمانع والضار والمنتقم، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفوّ، فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفوّ المعزّ المذل، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله؛ لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاءً ومنعًا ونفعًا وضرًّا وعفوًا وانتقامًا.
وأما أن يُثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض، فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد، ولذلك لم تجيء مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة، فاعلمْه. فلو قلت: يا مذلّ يا ضارّ يا مانع، وأخبرت بذلك؛ لم تكن مثنيًا عليه ولا حامدًا له حتى تذكر مقابلها".
5. مسلم 8/94 ( 2749 ) ( 11 )
6. لا يخلو مؤمن من الحاجة للاستغفار على الدوام، وسيّدُ المستغفرين صلى الله عليهم وسلم كان دائم الاستغفار، وهو من قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وفي المسند (4726) بسند على شرط الشيخين عن ابن عمر رضي الله عنهما: إنْ كنّا لنعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: "ربّ اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور" مئة مرّة. فالاستغفار مرهم للروح، وتنظيف للصحيفة، وحفظ للعهد مع الله تعالى. فلكل مؤمن فاقة وحاجة دائمة للاستغفار والتوبة، لأنه لا يخلو من تقصير في واجب أو زلة لمحرّم.
وكثير من الناس يتحرّز من كبائر ذنوب الجوارح ويغفل عن كبائر ذنوب القلب، كالكبر والحسد ونحو ذلك، والله تعالى يقول: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)، والله المستعان.
7. الأكياس جمع كيِّس، والكَيْس: هو العقل والحزم.
8. أي مخالفة الشيطان لمتابعة رضا الرحمن.
9. القوّة: أي الغريزة أو الصفة الخُلُقية، وهي كامنة في معدن المكلَّف، واستخراجها هو الفعل، فهي لا تكفي للثواب أو المؤاخذة مالم تخرج إلى الفعل قولًا أو عملًا أو نيّة. فأصل وجودها هو القوّة، وحركتها هو الفعل.
والمقصود؛ أن غريزة الشر كانت موجودة في نفوسهم، فكان الشيطان سببًا لأن تتحرك هذه الغريزة الشريرة فتستيقظ من سباتها وتتحرك من سكونها بمباشرة أسباب شرها فتظهر على القلب واللسان والجوارح بعدما كانت مجرد غريزة كامنة ساكنة، وكذلك الحال في ضد ذلك من الخير ونُقلته من السكون والكمون إلى الحركة من الاعتقاد الحسن والقول الكريم والفعل الجميل.
10. فعلم الله شامل للماضي والحاضر والمستقبل، فإذا وقع الأمر في الحاضر صار مُصدِّقًا لعلمه الماضي، كما أن ما أخبر به في الماضي عن المستقبل يصدقه ما يحدث في الحاضر. فعلمه محيط بكل شيء، بما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، لا تخفى عليه خافيه، تبارك وتعالى وتقدّس، وقد أحسنَ حملةُ العرش ومن حوله إذ قالوا: (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما).
11. الملزوم هو النتيجة، واللازم هو الوسيلة.
12. وتأمل هذه الأحرف النفيسة، فإن فيها كشفٌ لكثير من مشكلات المعضلات، وثلجُ يقين يبدّد تساؤلات النفوس، وضياءُ علمٍ لظلامِ حيرَتِها في قضايا القدر والحِكم والتعليل والخير والشرّ، وقد بسط ابن القيم ذلك وشفى وكفى في سفره الماتع "شفاء العليل".
13. أي العلم الذي يدفع الجهل، أما إلهام الخير فهو إرادته والعزم الجازم لتحصيله.
14. وهذا من الأدب مع الله تعالى، وهذا شأن العلماء الربانيين الراسخين، ومنه قوله تعالى على لسان الجن: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)، فأسند الخير إلى الله، وأبهم إرادة الشر، وتدبر فاتحة الكتاب: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، حيث أسند النعمة إليه مباشرة بخلاف غيرها، وتأمل الأدب الإبراهيمي مع ربنا سبحانه في قول الله تعالى: ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) فنسب الهداية والإطعام لله، ولم ينسب المرض أدبًا وإجلالًا وتوقيرًا.
15. معنى كلام المصنف رحمه الله أنّ خلق إبليس - وغيره من الكفرة - ليس شرًّا في الأصل، لكن لمّا قُطع عنه المدد الإلهي بإلهام الخير تحرّك بطبعه للشرّ، ومن هنا نُسب الشرّ له ولطبعه الشرير، لأن قطع مادة الخير عنه عدمٌ لا وجود له، والعدم ليس بشيء، وهو غير موجود أصلًا؛ فلا يُنسب للرحمن، مع أن إرادته وفعله وحركته ومعصيته كلها داخله في خلق الله تعالى وكتابته ومشيئته وتقديره وحكمته وعلمه. هذا من جهة شره هو، أما من جهة خلق الله تعالى له وقطع مادة الخير عنه وجعله سببًا للمعاصي فهو خير بالنسبة لفعل الله وحكمته لما أفضى ذلك لحكم كبيرة كثيرة، والله أعلم.
16. أي أنّا إذا نظرنا للشر المعيّن كالمعصية مثلا كشرب الخمر أو قتل النفس المعصومة ونحو ذلك فينبغي أن يكون لنظرنا جهتان: الأولى: من جهة أن هذا الأمر مقدّر بقدر الله فهو خير، فالله لا يُقَدّر إلا لحكمة إلهية ربانية فلله تعالى فيه حكمة، سواء علمناها أو لم نعلمها. والثانية: من جهة أن العبد عصى الله تعالى وانتهك حرمته وخالف أمره فهو شر. وبالجملة فأقدار الله خير، ومعاصي العبيد شر.
17. أي خلّى الله بينه وبين الشر إذْ لم يمدّه بالخير ويوفّقه له.
18. التفاوت: هو التباين وعدم التناسب. ومقصود المصنف رحمه الله أن الحكمة أنما تكون في تناسب الاختلاف، وليس اتّحاد الموجودات على نمط واحد مكرور، فمخلوقات اللهِ تعالى متناسبة متّسقة، واختلافها فيما بينها هو عين الحكمة؛ ليحصل التدافع والتمايز والتكامل والانفعال فيما بينها ونحو ذلك، فكل خلق الله تعالى تامّ كامل لا قصور فيه ولا نقص في أصل الخلقة، وهذا هو الإيجاد، أما تفاوتها فيما بينها ما بين كمال ونقص فهو عائد إلى عدم إمداده بالتوفيق، وهذا العدم عدم، والعدم ليس بشيء، ولا ينسب لأحد، لأنه عدمٌ لا وجود.
19. وهذا من لباقة الخليل بن أحمد وحسن خلقه ولطف تأتّيه ولوذعيّة قريحته. مع التنبيه إلى أن الأصمعي رحمه الله تعالى إمام في علوم منها اللسان والأدب والشعر، ولكنَّ شأن تيسير بعض العلوم لأنواع العقول مدهش عجيب، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. وقد ذكروا أنّ أبا سعيد الضرير قال لأبي تمام: يا أبا تمام، لم لا تقول ما يُفهم؟ فقال له: يا أبا سعيد، لم لا تفهم ما يُقال؟ وقد نظم المتنبي نحو هذا المعنى فقال:
وكم من عائبٍ قولًا صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيمِ
ولكن تأخذ الآذانُ منه ... على قدر القرائحِ والعلومِ
20. ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن رجلًا من الصالحين كان يلحّ على الله تعالى زمنًا أن يجعله غازيًا في سبيله، ولا يرى إجابة! فبات ليلة مهمومًا وأتاه آتٍ في منامه وقال له: "أي فلان؛ إنك إن غزوت أُسرت، وإن أُسرتَ تنصّرت!". أهـ. صيد الخاطر (١/١٧١) وفي موسوعة ابن أبي الدنيا (١/ ٤٣٣) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إنّ الرجل ليُشرف على الأمر من التجارة أو الإمارة، حتى يرى أنه قد قَدَرَ عليه، ذكره الله فوق سبع سموات، فيقول للملك: "اذهب فاصرف عن عبدي هذا، فإنّي إن أيسِّره له أُدخله جهنّم"، فيجيءُ الملك فيعوقه فيُصرف عنه، فيظلّ يتطيّر بجيرانه إنّه دهاني فلان، سبقني فلان، وما صَرَفَه عنه إلا الله". وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "استخيروا الله ولا تَخَيَّروا عليه، فكم من عبد تخيّر لنفسه أمرًا كان هلاكه فيه! أما رأيتموه سأل ربّه طَرَسُوسَ، فأُعطِيَها فأُسِرَ فصار نَصْرانيًا". ذكره في عيون الأخبار (٢/ ٧٣١). وطرسوس: بلد بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم، وكان المجاهدون والزهاد والصالحون يقصدونه للمرابطة في سبيل الله تعالى لأنه من ثغور المسلمين.
ورُبَّ مُلِحٍّ على بُغيةٍ … وفيها مَنيّتُه لو شَعَرْ
فالله أرحم بعبده وأعلم وأحكم وألطف وأرفق سبحانه وبحمده. وفي مسألة الإجابة ثمّ مسألة غاية في الأهمية: وهي أن إجابة الدعاء غير تحقيق الطلب وتحقيق عين السؤال. فالله وكيل على عبده وليس وكيلًا عنه، وبينهما فرق، فالوكيل عنك هو من ينفّذ طلبك كما طلبته، أما الوكيل عليك فهو القائم عليك بما يُصلحك، فإن طلبته وسألته نظر لمصلحتك أوّلًا، قال تعالى: (والله على كل شيء وكيل) وقال تعالى: (والله يعلم وأنتم لا تعلمون). بل تدبر قوله تعالى في المصيبة: (قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا هو مولانا)، فقال: (لنا) ولم يقل: (علينا) لأن مصائب الدنيا في حقيقتها نعم لنا لا علينا لو كنا نعقل، والله المستعان.
21. أي من نفس العبد.
22. أي أهل المعرفة ممن اهتمّوا باستقامة السلوك وصفاء النفوس، واعتنوا كثيرًا بأعمال القلوب حتى عرفوا بذلك.
23. الجبري: هو الذي يزعم أن العبد لا اختيار له البتة في أفعاله وأقواله وإراداته، بل هو كالريشة في مهب الريح، وعلى هذا المذهب الباطل فالعبد عندهم غير مؤاخذ؛ لأنه في النهاية ليس بفعله على الحقيقة.
ويقابله القدري: وهو الذي يزعم أن العبد يخلق فعل نفسه، فيضع نفسه خالقًا مع الله – تعالى الله وتقدس- لذلك وُصفوا بأنهم مجوس الأمة؛ لقولهم بالخالِقَين.
وكلاهما مذهب خبيث باطل، والحق أن الله خالق كل شيء، وأنه لا شيء يخرج عن قدر الله تعالى، وأن الله تعالى قد أعطى العبد قُدرة ومشيئة واختيارًا يحسّه من نفسه ويطيقه بقدرته ويفهمه بعقله، وهذا الاختيار الإرادي للعبد كافٍ وافٍ لأن يحاسبه ربه به على أفعاله وأعماله ومقاصده حسنة كانت أو سيئة، وهو لا يخرج بحال عن قدر الله تعالى. قال سبحانه: (لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
24. حديث الولي: "من عادى لي وليًّا.." الحديث. رواه البخاري (6502) أما زيادة: "فبي يسمع.." الحديث. فليست في البخاري، وقد ذكرها الحافظ في الفتح (11 / 344) نقلًا عن الطوفي، ولم يعزها لأحد. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله الحديث بزيادته في الفتاوى ( 18 / 129 - 131 ) ولعله وهم في الزيادة أو أنه قد وقف على رواية أخرى، ثم قال: "هذا حديث شريف، وهو أشرف حديث روي في صفة الأولياء".
25. الأبيات لأبي حامد الغزالي رحمه الله، وقيل أنها للحلاج وقيل غيرهما، وقد نسبها العماد الأصبهاني في خريدة القصر وجريدة العصر (2/ 436) للقاضي المرتضى الشهرزوري. ومقصود الأبيات أنه مع العلم النافع الذي يصفّي النفس من كدر الدنيا ومتعلقاتها وشهواتها وشبهاتها؛ تنكشف للقلب معانٍ جميلة من الأنس بالله تعالى والشوق إليه والتعلق به والاكتفاء به عما سواه، وأشرقت في نواحي نفسه وجوانح قلبه تلك المعاني الطاهرة الجميلة النافعة.
26. مدارج السالكين (2 / 191-204) باختصار.