بُشراكم معاشر التائبين
(من أنفس ما كتبه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام والبركة على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد، فهذا الكلام الذي بين يديك -أخي القارئ الكريم- للإمام ابن القيم، معدود من أنفس ما سطّره أهل العلم بإطلاق، وحقيق أن يسجد لله شكرًا من وفّقه الله للوقوف عليه وفهمه وصبّ سلسبيله على نياط قلبه القريحة من خوف العاقبة، ففيه من مفاتيح أبواب الرجاء للتائبين ما لا يُحاط به، فرحمة الله وسلامه ورضوانه على ابن القيم ووالديه وأحبابه وشيوخه والمسلمين جزاءَ ما قام لله تعالى بتلك المقامات العلمية السنية الشريفة.
قال رحمنا الله وإياه: "الطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان، وكلٌّ مستَعمل فيما هو له مهيأ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين، فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملون، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به، ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته؛ فكذلك لا تضرهم الأدواء ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفه تذكّروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.
وإذا وقعوا في معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمةً، وانقلب في حقهم دواء، وبُدِّل حَسنةً بالتوبة النصوح والحسنات الماحية ،لأنه سبحانه عرّفهم بنفسه وبفضله، وبأن قلوبهم بيده، وعصمتهم إليه، حيث نقض عزماتهم وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزته في قضائه، وبرّه وإحسانه في عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشهدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم، وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدًا، فإنهم لمّا أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصوه، وعقدوا عليهم قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته؛ عرفوا بذلك عظيم اقتداره، وجميل ستره إياهم، وكريم حلمه عنهم، وسعة مغفرته لهم، وبرد عفوه وحنانه وعطفه ورأفته، وأنه حليم ذو أناة، ورحيم سبقت رحمتُه غضبَه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفورًا رحيمًا حليمًا كريمًا، يغفر لهم السيئات، ويقيلهم العثرات، ويودّهم بعد التوبة ويحبهم، فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء، وتوسلوا إليه بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءه، ويسرهم للتوبة والإنابة، وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبرّه لهم وإحسانه إليهم، فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه.
فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه؛ تعرّف إليهم تعرّفا آخر فعرفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبرّه وامتنانه وكرمه وشرعه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع (1) في طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم وكرمه في أن خلّى بينهم وبين المعصية فنالوها بنِعمه (2) وإعانته، ثم لم يُخلِّ بينهم وبين ما توجبه من الهلاك والفساد الذي لا يرجى معه فلاح، بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي، فاستخرج منهم داءً لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك.
ثم تداركهم برَوْح الرجاء فقذفه في قلوبهم، وأخبر أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط؛ لأورثهم ذلك المرض القاتل والداء العضال من اليأس من رَوْحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم، ولكن رحمهم قبل البلاء، وجعل تلك الآثار التي توجبها المعصية من المحن والبلاء والشدائد رحمةً لهم وسببًا إلى علوّ درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده.
فأشهدهم بالجناية عزّة الربوبية وذل العبودية، ورقّاهم بآثارها إلى منازل قُربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه، ويتقلّبون في كرمه وإحسانه. وكل قضاء يقضيه للمؤمن فهو خير، به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية نِعَمٌ منه عليهم، فإذا استرجعها أيضًا وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة، كما قيل: "إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة".
والرب سبحانه قد تجلّى لقلوب المؤمنين العارفين، وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضيِّ مشيئته وعظيم سلطانه وعلوِّ شأنه وكرمه وبرّه وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته، وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية، ووراءه مما لم تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل في خلد مما لا نسبةَ لما عرفوه إليه!
فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع المعاصي والفجور وفنون الكفر والشرك والتقلّب في غضبه وسخطه، وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصي والكفر، مقرّة بأن له الحجة عليهم، وأنّ حقه قبلهم، ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو شاهد بذلك مقرّ به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد، فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم، والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أنهم عبيده وملكه، وأنه أوجدهم ليظهر بهم مجده، وينفذ فيهم حكمه، ويمضي فيهم عدله، ويُحقّ عليهم كلمته، ويصدق فيهم وعيده، ويبين فيهم سابق علمه، ويعمر بهم ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته.
وشهد أولياؤه عظيم ملكه، وعز سلطانه، وصدق رسله، وكمال حكمته، وتمام نعمته عليهم، وقدْرَ ما اختصهم به، ومن أي شيء حماهم وصانهم وأي شيء صرف عنهم، وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين، وشهدوا له سبحانه بأنّ ما كان منه إليهم وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته من الصدق والعدل والقول وتحقق مقتضى أسمائه فهو محض حقه، وكل ذلك منه حسن جميل، له عليه أتم حمد وأكمله وأفضله، وهو حُكْم عدل وقضاءٌ فصل، وأنه المحمود على ذلك كله فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة ومحض الحمد، وكمالٌ أظهره في حقه، وعزٌّ أبداه، ومُلك أعلنه، ومراد له أنفذه".(3) تبارك وتعالى.
...........................
(1) الإيضاع: الإسراع.
(2) فالجوارح من نعمه وكذلك القدرة والإرادة وفتح الأسباب ورد الموانع ونحو ذلك، فهي بحد ذاتها نعم، ولكن العبد الجاهل يعصي ربه بنِعم ربه! فما أوسع حلم الله، وما أرحمه وأبرّه وألطفه وأجمله!
(3) طريق الهجرتين وباب السعادتين (1/ 137-140) مختصرًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق