التّصوُّف في ميزان الوحي والفقه
سعد بن عبد الرحمن الحصين
لم يكن التصوف معروفاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
رضي الله عنهم ولا في عصر التابعين رحمهم الله، وإن كانت حقيقته معروفة، لأن جل ما
يصبوا إليه المرء هو الانتساب إلى الصحابة رضي الله عنهم ثم إلى التابعين رحمهم
الله وكفى بالمرءِ شرفاً أن ينتسب إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي
الله عنهم بالاتباع.
وفي القرن الأول لم يكن يعرف اسم التصوف، بل كان أهله يعرفون باسم
الزهاد والنساك والبكائين وليس باسم الصوفية، وكان اعتقادهم صافياً وإيمانهم نقياً
خالصاً وما كان ابتعادهم عن الدنيا إلا لارتياعهم من عذاب الآخرة، وهرعوا إلى
الكهوف والمغاور ورؤوس الجبال حيث الوحدة الصافية والانعزال عن صخب الحياة المادية.
ثم بعد مضي عصر الصحابة والتابعين وفي أواخر القرن الثاني الهجري بدأ
لفظ الصوفية يظهر، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد
بن حنبل رحمه الله (١٦٤ـ٢٤١هـ) وأبو
سليمان الداراني المتوفى سنة ٢١٥هـ وقيل إن أول من بنى دويرة للصوفية هو بعض أصحاب
عبد الواحد بن زيد المتوفى بعد الخمسين ومائة للهجرة. وهو من أصحاب الحسن البصري
وكان ذلك في البصرة (وإن
أول من عرف باسم صوفي في المجتمع الإسلامي هو أبو هاشم الصوفي المتوفى قبل منتصف
القرن الثاني الهجري) (ويقول
عمر رضا كحالة ورد لفظ (الصوفي) لقباً
مفرداً في النصف الثاني للهجرة إذ نعت به جابر بن حيان الكوفي وأما صيغة الجمع (الصوفية) فإنها
ظهرت فيما انتهي إليه عمر رضا كحالة عام ١٩٩هـ).
المصدر:مفهوم
التصوف وأنواعه في الميزان الشرعي لمحمود يوسف الشوبكي (مجلة
الجامعة الإسلامية- المجلد العاشر) -
ص ١٨
يرى المؤرّخ والرّياضي والفيلسوف محمد بن أحمد البيروني (د/٤٤٠) أنّ
مَرَدَّ التَصّوف في بلاد المسلمين إلى تصّوف الهندوس في الهند، وقد نشأت وثنيّتهم
قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بألفي سنة وأخذها منهم البوذيّون منذ انفصالهم
عنهم بعد ألف سنة من نشأة الهندوسيّة، وأنّ
كلمة المتّصّوف جاءت من كلمة فيلسوف أي: محبّ
الحكمة. والبيروني حري بأن يَشْهد بما عَلِم؛ لطول مُكثِه في الهند يَدْرسُ أحوال
أهلها عدد سنين، ولِذِهْنِه الرّياضي ودقّته في البحث ثم في تسجيل نتائج بحثه،
ولسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة، يدلّ على ذلك ما ذكره ياقوت عنه (من
أن سجلّ مؤلّفاته بلغ ستّين ورقة) وكثرة
نقله عنه (أعلام
الزّركلي) ويدلّ
على صحّة استنتاجه أن الله ذكر في كتابه الكريم أنّ النّصارى (قبل
المسلمين) نَزَعُوا
إلى شيء من المنهج التصّوفي وأنّه مما ابتدعه البشر وليس مما شرعه الله فقال
تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا [الحديد: ٢٧]، وقال
النَبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لتتّبعنّ
سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع)) (١) متفق
عليه.
ويدل على صحّة استنتاجه أنّ كثيراً من معتقدات متصّوفة الهند
وأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم موجودة في متصوفة المسلمين منذ انتهت القرون المفضلة
حتى هذا العصر، وأكبرها: تعظيم المزارات والمقامات، ووحدة
الوجود والفناء في ذات الإله، وأهونها: المِسْبَحَة والرّهبَنَة وضرب الشين
والرقص والطبل.
٢) وظن
بعض العلماء أنّ منشأ التّصّوف من لبْس الصّوف والله لم يشرعه قُرْبَة إليه، ورسوله
صلى الله عليه وسلم كان يلبس الكتّان وغيره وهو الذي جعله الله أسوةً حسنةً: لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:
٢١]، ولكن
لُبْس الصُّوف والتّقشف بما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر شكليٌّ
تركه متصّوفة العصر وأقبلوا على شهوات البطن والفرج حتى قال بعض منتقديهم:
أقال الله حيث عشقتموه كُلُوا أَكْل البهائم وارقصوا لي
ولكن أسوأ ما اتصف به المتصّوفة تعلّقهم بالشبهات حتى اليوم كما
بتبيّن بالرجوع إلى شيء من كتبهم مقالاتهم قريبًا إن شاء الله.
٣) وظنّ
بعض المتصّوفة أن كلمة الصّوفي جاءت من كلمة الصّفّة التي كان يأوي إليها بعض
فقراء المسلمين في المدينة النبويّة، وهذا
لا يصحّ لُغَة لأن النّسبة إلى الصّفة: (صُفِيَّ)،
ولا يصحّ شرعاً لأنّ الصّفة (ومن
سَكَنَها) لم
تُميَّز بفضل المكان فالمسجد أفضل منها ولم يُمَيزْ أهلها بالفضل على غيرهم من
الصّحابة فلاشك أن الخلفاء الراشدين وكبار فقهاء المهاجرين تقرّباً إلى الله
بسكناها خاصّة، بل لأنّهم لا يجدون غيرها.
المصدر: مقال
التّصوُّف في ميزان الوحي والفقه لسعد بن عبد الرحمن الحصين
(١) رواه البخاري (٣٤٥٦) ومسلم (٢٦٦٩)