الجمعة، 6 يونيو 2014

طرق التلبيس ومسالك الخداع والتدليس، عند أهل البدع .. وتفطن أئمة السنة لها .. للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي

طرق التلبيس ومسالك الخداع والتدليس، عند أهل البدع .. وتفطن أئمة السنة لها .. للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي



طرق التلبيس ومسالك الخداع والتدليس، عند أهل البدع.

وتفطن أئمة السنة لها.
بقلم: تميم بن عبد العزيز القاضي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد.

فإن مما يتوجه في حق الناظر في كلام المخالفين للرد والنقض عليهم:

أن يتنبه لمسالك الخداع والتلبيس، وطرق التمويه والتدليس، مما درج أهل الباطل على سلوكه في تقريرهم لباطلهم، ودفعهم وتشويههم لمذهب أهل الحق، وترويج شبههم بين العامة، وتزيين صورهم عند الدهماء.

وهي طرق يصعب حصرها، ويطول تعدادها، جامعها سلوك أي طريق لتلبيس الحق بالباطل، ليلتبس ويختط به فلا يتميز، وكتم الحق الصرف وتغطيته، لأن على الحق نوراً لا يخطيه أولوا البصائر السليمة، والفطر المستقيمة، فلم يجدوا بداً من تغطيته وكتمه، وهذا ما نهى عنه رب العزة بني إسرائيل بقوله: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 42]

وإنما يعرف تلك المسالك ويعيها من عرف سبر مسالك القوم، وعرف أصولهم ولحن أقوالهم.

ولقد كان أئمة السلف متفطنين لتلك المسالك التلبيسية من أئمة البدع والضلال، فلم تلتبس عليهم، بل عرفوا زيفها، وتفطنوا لمداخلها، وبينوا مقصد الخصم من إيرادها، وهذا من الفرقان الذي يهبه الله لمن اتقاه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]

وفيما يلي ذكر نماذج من هذه المسالك، كفيلة لمن وعاها أن يعتبر بها لإدراك ما سواها، وقد اكتفيت فيها بنقل إمام متقدم من أئمة السنة والجماعة، وهو الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله، فيما نقله عن إمام متقدم من أئمة الضلال، وهو بشر المريسي، وبعض أتباعه، ولم أنقل عن غير الدارمي إلا اليسير، وإن كان المقام يستدعي توسعاً وتقصياً لمن سواه من الأئمة الأعلام، ولعل ذلك أن يتيسر في مستقبل الأيام.

ومع أن مسالك التلبيس والتضليل متجددة، إلا أنك لترى هذه المسالك التي طرقها الأوائل لم تزل مسلوكةً عند أتباعهم من أهل الزيغ والضلال، وإنما يتجدد تزويقها وتطبيقها، فكان حرياً بطالب العلم أن يكون على دراية بها، وتفطن لها، وأن يتأمل في فقه السلف في التعامل معها، والتصدي لها، بل قبل ذلك يتأمل في تفطنهم لها، وعدم انسياقهم خلفها.

ومن تلك المسالك التلبيسية:



1-كلمة الحق، التي يُراد بها الباطل.

نقل الدارمي عن معارضه الجهمي رجوعه إلى قول السلف، وكراهيتهم الخوض في القرآن!! قاصداً بذلك صد من عارضة عن القول في القرآن أنه مخلوق أو غير مخلوق.

قال رحمه الله: «فَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْخَوْضَ فِي الْقُرْآنِ فَقَدْ صَدَقْتَ. وَأَنْتَ، الْمُخَالِفُ لَهُمْ لَمَّا أَنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِيهِ الْخَوْضَ، وَجَمَعْتَ عَلَى نَفْسِكَ كثير مِنَ النَّقْضِ. فَمِثْلُكَ فِيمَا ادَّعَيْتَ مِنْ كَرَاهِيَةِ الْخَوْضِ فِيهِ كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخَوَارِجِ حِينَ قَالُوا:"لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ" فَقَالَ: "كَلِمَةُ حَقٍّ يُبْتَغَى بِهَا بَاطِلٌ".

فَقَدْ خُضْتَ فِيهَا أَيُّهَا الْمُعَارِضُ بِأَقْبَحِ خَوْضٍ وَضَرَبْتَ لَهُ أَمْثَالَ السُّوءِ، وَصَرَّحْتَ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ، كَمَا قَالَ إِمَامُكَ الْمَرِيسِيُّ: مَجْعُولٌ، وَكُلُّ مَجْعُولٍ عِنْدَكَ مَخْلُوقٌ لَا شَكَّ فِيهِ».

ثم بين له الإمام وجه كلامهم فيما لم يتكلم به السلف، وأن ذلك إنما كان في مقابل ابتداع ذلك المعارض وإحداثه للقول بخلق القرآن، وأن قولهم هذا لو وجد عند سلفهم لتكلموا فيه بنحو كلامهم.

فقال رحمه الله: «وَيْحَكَ! إِنَّمَا كَرِهَ السَّلَفُ الْخَوْضَ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَهْلُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ وَأَغْمَارُ الْجُهَّالِ مَا تَأَوَّلْتَ فِيهِ أَنْتَ وَإِمَامُكَ الْمَرِيسِيُّ.

فَحِينَ تَأَوَّلْتُمْ فِيهِ خِلَافَ مَا أَرَادَ اللَّهُ، وَعَطَّلْتُمْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عِنْدَهُ بَيَانٌ أَنْ يَنْقُضَ عَلَيْكُمْ دَعْوَاكُمْ فِيهِ وَلَمْ يَكْرَهِ السَّلَفُ الْخَوْضَ فِي الْقُرْآنِ جَهَالَةً بِأَنَّ كَلَامَ الْخَالِقِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلَا جَهَالَةً أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، حَتَّى لَوْ قَدِ ادَّعَى مُدَّعٍ فِي زَمَانِهِمْ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مَا كَانَ سَبيله عِنْدَهُمْ إِلَّا الْقَتْلَ، كَمَا هَمَّ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِصُبَيْغٍ أَنْ يَقْتُلَهُ، إِذْ تَعَمَّقَ فِي السُّؤَالِ عَنِ الْقُرْآنِ، فِيمَا كَانَ أَيْسَرَ مِنْ كَلَامِكُمْ هَذَا، فَلَمَّا لَمْ يَجْتَرِئْ كَافِرٌ أَوْ مُتَعَوِّذٌ بِالْإِسْلَامِ أَنْ يُظْهِرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ فِي عَصْرِهِمْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَكَلَّفُوا لِنَقْضِ كُفْرٍ لَمْ يحدث بَين أظهرهم فَيكون سَبَبًا لِإِظْهَارِهِ »([1]).



2-أن يورد أحدهم بعض الأخبار الضعيفة المستنكرة مما يضاد بدعته!! وينسب الاحتجاج بها لأهل السنة، ليوهم الأغمار والجهال أن أدلة أهل السنة من ذلك الجنس الضعيف المتهالك، وليجعل حكمها مقولاً فيما يذكره أهل السنة في ذلك الباب من أحاديث صحاح، سواء كان هذا الحكم هو الرد، أو التفسير بخلاف الصفة.

وقد أورد الإمام عثمان الدارمي عدة نماذج على هذا المسلك التلبيسي عند المعارض الجهمي([2])، ومن ذلك: أن الجهمي قد أورد حديثاً مستنكراً، وادعى أن أهل العلم فسروه على خلاف ظاهره، فأبطله الدارمي من عدة أوجه، ثم قال -في تنبُّه واعٍ منه لمقصد ذلك المبتدع من إيراده-: «وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ إِنَّمَا تُغَالِطُ بِمِثْلِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِتَدْفَعَ بِهَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ r: "تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ" ، فَتوهم النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي تَسْتَنْكِرُهَا وَتَلْتَمِسُ لَهَا هَذِهِ الْعَمَايَاتِ كَالَّتِي يَرْوُونَ فِي الرُّؤْيَةِ وَالنُّزُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَنَّهُ لَا تُدْفَعُ تِلْكَ بِمِثْلِ هَذَا التَّفْسِيرِ الْمَقْلُوبِ، لِمَا أَنَّهَا قَدْ ثَبَتَتْ عَنِ النَّبِيِّ r بِأَسَانِيدَ كَالصُّخُورِ، فَلَا يُدْفَعُ إِلَّا بِأَثَرٍ مِثْلِهِ مَأْثُورٍ، فَارْبَحِ الْعَنَاءَ فَقَدْ عَلِمْنَا حَوْلَ مَاذَا تَدُورُ، وَلَنْ تَغُرَّ بِمِثْلِهَا إِلَّا كُلَّ مَغْرُورٍ»([3]) .

3-إيراد المتشابه من الأحاديث، ونقل تفسيرها عن بعض الأئمة، ليجر حكمها إلى ما كان محكماً من النصوص، مما لا إشكال فيه.

وذلك كالمثال السابق، وكإيرادهم لأثر ابن عباس: (الركن يمين الله في الأرض)، وتفسيرهم لليمين فيه بغير الصفة(بالنعمة والبركة)، وجرهم هذا التفسير إلى النصوص البينة المحكمة في صفة اليدين([4])، وقد صرح الجهمي بمراده في قوله في مثال آخر مشابه: « فَإِن كَانَ بالرِّوَايَات[أي إثبات الرؤية]، فهاهنا رِوَايَاتٌ أَيْضًا مُعَارِضَةٌ، وَإِنْ كَانَ يحْتَمل التَّأْوِيل فهاهنا مَا يَحْتَمِلُ أَيْضًا»([5]).

4-ومن ذلك أن يوردوا بعض الحجج النقلية، التي هي عندهم حجج تابعة واعتضادية، ليوهموا المخالف(من أهل السنة) أن تلك النصوص هي حججهم الاعتمادية.

فالدليل الاعتمادي عند الخصم، هو الدليل الأصلي، والتأسيسي، وهو الأصل الاستدلالي الكلي، الذي اعتمد عليه الخصم وانطلق منه في تأسيس مذهبه العام،

وأما الدليل الاعتضادي، فهو الدليل الجزئي المعين، والذي أورده المخالف تبعاً في هذه المسألة بعينها، ليعضد به دليله الكلي، بعدما أقام مذهبه وأسسه على ذلك الدليل الكلي.

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الفارق الكبير بين ما احتجوا به أصالة واعتماداً، وما أوردوه تبعاً واعتضاداً، وذلك في مواطن كثيرة من كلامه، قال رحمه الله: «وَأَهْلُ الْبِدَعِ سَلَكُوا طَرِيقًا آخَرَ ابْتَدَعُوهَا اعْتَمَدُوا عَلَيْهَا، وَلَا يَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ، بَلْ وَلَا الْقُرْآنَ، فِي أُصُولِهِمْ إِلَّا لِلِاعْتِضَادِ لَا لِلِاعْتِمَادِ»([6]).

وليعلم أن الأدلة الكلية عند المخالفين للسلف في أبواب الاعتقاد، هي أدلة كلامية، أو فلسفية، وهي التي اعتمدوها في بناء مذهبهم، فيما خالفوا فيه السلف من أبواب، كدليل الحدوث، والتركيب، والاختصاص، وغيرها([7]) .

وأهل البدع يقرون في كتبهم الكبار أن معتمدهم في بدعهم لم يكن قائماً على النص، بل النصوص عند كبارهم لا تفيد اليقين في أصول الدين، وإنما كان معتمدهم على تلك الأدلة الكلامية، ولا يسع المقام لسرد أقوالهم([8]).

ولكن المراد ههنا الإشارة إلى مسلك تلبيسي، يقوم به بعض من يريد ترويج مذهبه على أنه هو مذهب السلف، ويريد أن يوهم مخالفيه بأن مذهبهم قائم على النصوص، فيورد الأدلة النصية، موهماً أنها هي عمدتهم في الاستدلال، وليوصل للقارئ رسالة (كاذبةً) مفادها: "أننا نحن ومخالفينا إنما انطلقنا من النص، ومدارنا حول النص، ولكن اختلفت طرق فهمنا للنص، وأدواتنا في الاستنباط منه"!!

وهذا من أدق المسالك التلبيسية، والتي قد يقع ضحيتها من لم يدرك أصول القوم في الاستدلال، ومنشأ أقوالهم ومبعثها.

وأضرب مثالاً واحداً على ذلك، يقال عليه ما سواه:

وفي مسألة الكلام النفسي عند الأشاعرة، فإن الأشاعرة إنما أسسوها تبعاً على مذهبهم في نفي الصفات الفعلية التي يفعلها رب العز، والقائمة في ذاته بإرادته، وذلك ما سماه الأشاعرة بحدوث الحوادث، وقد بنوه على دليل الحوادث البدعي، الكفري المنشأ، وغيره من الأصول، ثم أوردوا اعتضاداً وتبعاً بعض الاستدلالات من النص واللغة، كآية: {ويقولون في أنفسهم}، وكقول الأخطل (إن الكلام لفي الفؤاد)([9]).

ولكن تجد جملة من أهل التلبيس من متأخري الأشاعرة، قد قصدوا ترويج باطلهم، في كتب ورسائل وجهوها للصغار والأغمار، فقدموا ذكر هذه الاستدلالات النصية، وربما اكتفوا بها، إمعاناً في ذلك الإيهام، والواقع أن أئمتهم لم يأتوا بها إلا تبعاً، بل إن منهم من يصرح بأن اليقين والمطالب الإلهية لا تستفاد من تلك النصوص أصلاً، وللرازي كلام في أن الأخطل لا يحتج بكلامه من الأصل([10])، فكيف يقيم مذهبه على هذا الجنس من الأدلة بعدما أبطل الاعتماد عليها!!



5-تبني المخالف لمذهب متوسط بين الحق والباطل، توقُّفاً، أو تلفيقاً، أو توفيقاً، تستراً على بدعته.

فأما التوقُّف، فهو بأن يجانب القول الحق والقول الباطل في أمر بيِّن، ويرى لزوم هذا المسلك التوقُّفي، ويذم ما سواه، أو يظهر الذم لما سواه، وهو في الحقيقة قائل بالقول الباطل.

وأما التلفيق، فهو بأن يأخذ بعض ما قول أهل الحق، وبعض ما في قول أهل الباطل.

وأما التوفيق، فهو بأن يختط لنفسه قولاً متوسطاً بين الحق والباطل.

فأما التوقف المذموم: فقد ظهر هذا في شأن الواقفة، ممن توقف فلم يقل إن القرآن مخلوق، ولا غير مخلوق، وهم إنما أرادوا بذلك صد الشنعة عن أنفسهم، وإلا فالمسألة لا تحتمل إلا موقفاً من موقفين.

قال الدارمي حاكياً حال بعض الجهمية، بعد أن نصر الله السنة على يد المتوكل على أثر فتنة خلق القرآن: «واحْتَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاعْتِقَادِ التَّجَهُّمِ حِيلَةً لِتَرْوِيجِ ضَلَالَتِهِمْ فِي النَّاسِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُمُ الْإِفْصَاحُ بِهِ مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالْفَضِيحَةِ وَالْعُقُوبَةِ مِنَ الْخَلِيفَةِ الْمُنكر لذَلِك، استتروا بِالْوَقْفِ مِنْ مَحْضِ التَّجَهُّمِ، إِذْ لم يكن يَجُوزُ مِنْ إِظْهَارِهِ مَعَ الْمُتَوَكِّلِ ما كان يَجُوزُ لَهُمْ مَعَ مَنْ قَبْلَهُ. فَانْتَدَبُوا طَاعِنِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التجهم بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ فَانْتَدَبَ هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةُ، مُنَافِحِينَ عَنِ الْجَهْمِيَّةِ مُحْتَجِّينَ لِمَذَاهِبِهِمْ بِالتَّمْوِيهِ وَالتَّدْلِيسِ، مُنْتَفِينَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ بَعْضِ كَلَامِ الْجَهْمِيَّةِ، مُتَابِعِينَ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبَاطِنِ، مُمَوِّهِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالسُّفَهَاءِ»([11]).

وأما المنهج التوفيقي، فهو ما جاء ذمه في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ ...[إلى قوله:].. ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) } [النساء: 60 - 63].

ويندرج في هذا المسلك النفاقي، التوفيقي: من زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب([12]) .

وأما المسلك التلفيقي، فهو من يأخذ من الحق شيئاً، ومن الباطل شيئاً، فما وافق هواه من الحق أخذه، وما خالف هواه رده، من مثل الذين آمنوا ببعض الكتاب، وكفر ببعض، ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } [النساء: 150، 151].

ومن هؤلاء من أقر بالقضاء والقدر، وأنكر الأمر والنهي([13])، ويشابههم من أقر بالأسماء لله ونفى حقائقها([14]).

وأحسب أن هذا المسالك التلبيسية، التوفيقي منها، أو التلفيقي أو التوقُّفي لم ينتشر في زمن كانتشاره في هذا الزمان، فترى كثيراً ممن استهوته بدعة أو مال إلى ضلالة فكرية أو كفرية، لا يسارع بتبنيها والانتساب إليها، فإن ذلك يحمله الكثير من التبعات، ويُفقده الكثير من الأتباع، ولكنه يخط لنفسه خطاً وسطاً، بين الحق والباطل، أو يعلن توقفه عن يبني واحداً منهما، مع استتاره بقول أهل الباطل على التحقيق، وليس ذلك دخولاً في نيته المحجوبة، ولا تقولاً عليه بما لم يقله، ولكنه ما تحكيه فلتات لسانه، أو ما يسر به في خاصة مجالسه وبين أقرانه، وما يقتضيه قوله الذي ظن فيه توقفاً وتوقيفاً، فحذار حذار من أمثال هؤلاء.

وكل هذه المسالك الثلاث: (التوقف، والتلفيق، والتوفيق) من مسالك أهل البدع والضلال.

ومن التلبيس الذي يطرحه سالكوها: أن يضفوا على مسالكهم هذه صبغة شرعية، فيوهموا العامة أن منهجهم هو مقتضى الوسطية الشرعية، والتي جاءت النصوص بمدحها.

كأن يدعي الأشعرية أنهم هم الوسط، لتوسطهم بين المعتزلة والسلفية.

أو أن يدَّعي الليبراليون تلك الوسطية، لتوسطهم بين الإسلاميين والعلمانيين في زعمهم.

وهذا تلبيس آخر، لا يقل شناعة عن تلبيسهم في نفس سلوكها، فالوسطية الشرعية هي الوسطية بين الغلو والجفاء، بين الإفراط والتفريط، وأما هذه الوسطية فهي وسطية بين الحق والباطل، وكل ما عدا الحق باطل، فتكون تلك الوسطية المزعومة باطلاً آخر، زاد شناعة على الباطل الأصلي البيِّن بما قارنها من تلبيس وتدليس، وتلك الوسطية المذمومة هي من جنس ما ذكره الله عن حال أهل النفاق ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا } [النساء: 142، 143]

وما ذكره عن الكفار بأنهم: { يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } [النساء: 150، 151].

ويلاحظ أن الذم لهذه المسالك الثلاثة إنما هو لمن سلكها في قطعيات الشرع ومعاقد الإجماع منه، أما من توقف في بعض الفروع والتفاصيل –ولو كانت من مسائل الاعتقاد- لتردد في دلالة النص عليها، كأن يتوقف في صفةٍ ما لتردد في صحة الحديث الوارد فيها، فليس هذا مما يقصد بالذم ههنا.

6-التشنيع على أهل السنة بألقاب الذم(كوصفهم بالجهلة، والمشبهة، والعامة، والغثاء، والنواصب)، وبالألفاظ المهولة(الجوارح، التركيب، التشبيه، التحيز..الخ).

وبمقابل ذلك:

أن يتسمَّى أهل الباطل بألقاب المدح(أهل العدل، والتوحيد، والتنزيه، والحكماء..الخ)([15])

ليكون ذلك أنجع في بثِّ باطلهم، وتوهماً منهم أن ذلك سيكف أهل السنة عن الإقرار بالصفات.

وما كان هذا التلبيس ليروج يوماً على أئمة السنة، وإن تعددت ألفاظه، وما كان ليردهم عن الصدح بما يدينون الله به، وإن سماه المعارض بأقبح الأسماء.

قال الدارمي رحمه الله: «فيُقال لِهَذَا الْمُعَارِضِ: أَمَّا مَا ادَّعَيْتَ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ لِلَّهِ عَيْنًا، فَإِنَّا نَقُولُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَهُ وَرَسُولَهُ، وَأَمَّا جَارِحٌ كَجَارِحِ الْعَيْنِ مِنَ الْإِنْسَانِ عَلَى التَّرْكِيبِ فَهَذَا كَذِبٌ ادَّعَيْتَهُ عَمْدًا، لِمَا أَنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقُولُهُ، غَيْرَ أَنَّكَ لَا تَأْلُو مَا شَنَّعْتَ، لِيَكُونَ أَنْجَعَ لِضَلَالَتِكَ فِي قُلْوبِ الْجُهَّالِ، وَالْكَذِبُ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ جِدٌّ وَلَا هَزْلٌ، فَمِنْ أَيِّ النَّاسِ سَمِعْتَ أَنَّهُ قَالَ: جَارِحٌ مُرَكَّبٌ؟ فأشِرْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَائِلَهُ كَافِرٌ، فَكَمْ تكَرر قَوْلك: جسم مركب، وأعضاء وَجَوَارِحُ، وَأَجْزَاءٌ، كَأَنَّكَ تُهَوِّلُ بِهَذَا التَّشْنِيعِ عَلَيْنَا أَنْ نَكُفَّ عَنْ وَصْفِ اللَّهِ بِمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا وَصَفَهُ الرَّسُولُ.

وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَصِفِ اللَّهَ بِجِسْمٍ كَأَجْسَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا بِعُضْوٍ وَلَا بِجَارِحَةٍ؛ لَكِنَّا نَصِفُهُ بِمَا يَغِيظُكَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَنْتَ ودُعَاتُك لَهَا مُنْكِرُونَ، فَنَقُولُ: إِنَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، ذُو الْوَجْه الْكَرِيم، والسمع السَّمِيع، والبصر البصير، نور السموات وَالْأَرْضِ...»([16]).

7-أن يلطف المخالف بدعته، ويهون شناعته، بالعدول عن نفي ما دل النص على ثبوته بنفي ألفاظ أحدثها، ويكون مراده بنفيها نفي ما جاء بالنص.

ومن ذلك ما بينه الإمام الدارمي أن المعارض نفى عن الله (الضمير)، ثم تفطن رحمه الله لأصل هذا القول ومبتدأه، ولمراده من نفيه، ولغايته من استعماله، فقال رحمه الله: «وَادَّعَى الْمُعَارِضُ أَيْضًا: "أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِالضَّمِيرِ، وَالضَّمِيرُ مَنْفِيٌّ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى".

وَلَيْسَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْمُعَارِضِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ قَدِيمَةٌ مِنْ كَلَامِ جَهْمٍ، عَارَضَ بِهَا جَهْمٌ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {تَعْلَمُ مَا فِي نفسي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك}، يَدْفَعُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ سَبَقَ لَهُ عِلْمٌ فِي نَفْسِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، فَلَطَّفَ بِذِكْرِ الضَّمِيرِ لِيَكُونَ أَسْتَرَ لَهُ عِنْدَ الْجُهَّالِ.. وَقَوْلُ جَهْمٍ: لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِالضَّمِيرِ، يَقُولُ: لَمْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الْخَلْقِ قَبْلَ حُدُوثِهِمْ وَحُدُوثِ أَعْمَالِهِمْ»([17]) . ثم شرع بنقض قوله.

فتأمل كيف تنبه الإمام رحمه الله لأصل قول المعارض، ومبتدئه(جهم).

ثم تفطن للمراد منه(نفي علم الله).

ثم فضح المعارض ببيان غايته من استعماله(التستر بهذه الألفاظ عن الجُهَّال)!!

وهذه فطنة نادرة عن إمام متقدم جداً من أئمة السلف.

8-استعمال جملة من النظريات اللغوية، لينفوا بها ما ثبت من كلام رب البرية، وأشهر ما في هذا الباب: نظرية المجاز، والتأويل.

قال الدارمي: «وَنَحْنُ قَدْ عَرَفْنَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ لُغَاتِ الْعَرَبِ هَذِهِ الْمَجَازَاتِ الَّتِي اتَّخَذْتُمُوهَا دَلَسَةً وَأُغْلُوطَةً عَلَى الْجُهَّالِ، تَنْفُونَ بِهَا عَنِ اللَّهِ حَقَائِقَ الصِّفَاتِ بِعِلَلِ الْمَجَازَاتِ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ: لَا يُحْكَمُ لِلْأَغْرَبِ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى الْأَغْلَب، وَلَكِن نصرف مَعَانِيهَا إِلَى الْأَغْلَبِ حَتَّى تَأْتُوا بِبُرْهَانٍ أَنَّهُ عَنَى بِهَا الْأَغْرَبَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الَّذِي إِلَى الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ أقرب»([18]).

وقد نقل الدارمي بلاغاً أن بعض أصحاب المريسي قال له: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْأَسَانِيدِ الْجِيَادِ الَّتِي يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَيْنَا فِي رَدِّ مَذَاهِبِنَا، مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّكْذِيبُ بِهَا؟

فَقَالَ الْمَرِيسِيُّ: لَا تَرُدُّوهُ فَتُفْتَضَحُوا، وَلَكِنْ غَالِطُوهُمْ بِالتَّأْوِيلِ فتكونوا قد رددتموها بلطف؛ إذلم يُمْكِنُكُمْ رَدُّهَا بِعُنْفٍ»([19]).

9-أن يضع المخالف في كلامه بعض الاحترازات، وهو يعلم ألا قائل بها، وذلك ليضع لنفسه (خطَّ رجعةٍ)، وليسدَّ الشنعة عن نفسه، مع أن القول عندهم لا يتأتى إلا بهذا الاحتراز.

ومن ذلك ما نقله الدارمي من زعم المعارض الجهمي أن من قال: القرآن كلام الله غير مخلوق: فهو كافر.

ثم ادعى أنه قصد بالإكفار من يتوهم أن كلام الله بفم ولسان!! مع علمه أن لا قائل بذلك من معارضيه من أهل السنة، فبين الدارمي أن هذا المسلك الاحترازي قد كان مواربة من المعارض لئلا يتفطنوا لمراده منه، وان من مقصده من هذا القيد أنه « إذا وُبِّخَ، وَوُقِفَ عَلَى دَعْوَاهُ قَالَ: إِنَّمَا قَصَدْتُ بِالْكُفْرِ قَصْدَ مَنْ يَدَّعِي بِهِ فَمًا وَلِسَانًا. وَهُوَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُشِيرَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَنَّهُ قَالَهُ».

ثم بيَّن أن هذا القيد لا أثر له عند المعارض، لأن حقيقة الكلام عند المعارض لا تكون إلا بالفم واللسان، ولهذا، فكل من أثبت كلاماً لله فإنه عند المعارض قائل بالفم واللسان([20]).

10-أن يحذف المخالف قسماً من الأقسام(في مسلك السبر والتقسيم)، ليلزم مخالفه بالمصير إلى واحد مما ذكره منها دون ما طواه وأخفاه، ويكون الحق فيما طواه، أو يكون الحق في التفصيل.

فمن ذلك: سؤال الجهمية: هل القرآن هو الله، أو غير الله؟

فمن قال لهم: هو الله: قالوا كفر، ومن قال: غير الله، قالوا: كل ما سوى الله مخلوق.

والحق أن كلى الإطلاقين غلط، والتحقيق في التفصيل.

فلفظ الغير قد أطلق على معنيين عند المتكلمين:

المعنى الأول: أن يراد بالغير: المباين للآخر، ويراد بالغيرين: ما جاز مفارقة أحدهما للآخر ذاتاً أو مكاناً أو زماناً، أو وجود أحدهما مع عدم الآخر(وهذا اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم([21])).

فعلى هذا المعنى لا يقال: إن الصفات غير الذات، فإن جزء الشيء وصفته اللازمة له ليست بغير له.

وبذلك يعلم أن صفات الله لا تسمَّى أغياراً لله تعالى على هذا الاعتبار، فلا يكون كلام الله غير الله، وإلا لكان الحلف بها حلفاً بغير الله، والحلف بغيره تعالى من الشرك([22]).

المعنى الثاني: أن يراد بالغير: ما لم يكن هو الآخر، وما يعلم الآخر بدون العلم به.

ويراد بالغيرين: ما جاز العلم بأحدهما مع عدم العلم بالآخر.(وهو اصطلاح المعتزلة([23])، والكرامية([24]) ومن وافقهم).

فعلى هذا الإطلاق فإن الصفات تكون غير الذات، كما أن كل صفة هي غير الأخرى.

فإن الشخص قد يعرف علم الله تعالى قبل أن يعرف خلقه وسائر صفاته.

وثبوت الغير بهذا المعنى لا بُدَّ منه، وهو لازم لهؤلاء المعتزلة وغيرهم، فإنهم يعلمون وجود الباري، كما يعلمون وجوبه، وكذلك يعلمون أنه خالق وعالم وقادر ومريد، ولا شك أن هذه معانٍ متغايرة([25]).

وهذا السؤال تلبيس منهم، وقصور في التقسيم، قد تنبه له الأئمة منذ عصر متقدم.

قال الدارمي: « وَادَّعَيْتَ أَيُّهَا الْمُعَارِضُ أَنَّ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ. فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ غَيْرُ اللَّهِ فَقَدْ أَصَابَ. وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَقَدْ جَهِلَ وَكَفَرَ.»([26]).

ثم قال مجيباً عن تلبيس خصمه: «َلَا يُقَالُ أَيُّهَا الْمُعَارِضُ: إِنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّهُ فَيَسْتَحِيلَ. وَلَا هُوَ غَيْرُ اللَّهِ فَيُلْزِمَ الْقَائِلَ أَنَّهُ مَخْلُوق. وَلَكِن يُقَال: كلَاما لله عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاته، وَأَن الله بجيمع صِفَاتِهِ إِلَهٌ وَاحِدٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لَا شَكَّ فِيهِ. فَافْهَمْ وَمَا أَرَاكَ تَفْهَمُهُ؛ لِأَنَّكَ تَقُولُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ اللَّهُ، أَوْ غَيْرُ اللَّهِ. فَإِنْ قَالَ: رَجُلٌ: هُوَ اللَّهُ، أَكْفَرْتَهُ. وَإِنْ قَالَ: غَيْرُ اللَّهِ قُلْتَ لَهُ: أَقْرَرْتَ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ وَصَوَّبْتَ مَذْهَبِي؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ غَيْرَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ.

فَيُقَالُ لَكَ: أَخْطَأْتَ الطَّرِيقَ، وَغَلِطْتَ فِي التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: الْقُرْآنُ هُوَ اللَّهُ أَوْ غَيْرُ اللَّهِ، كَمَا لَا يُقَالُ: عِلْمُ اللَّهِ هُوَ اللَّهُ، وَقُدْرَةُ اللَّهِ هِيَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ عِزَّتُهُ وَمُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَقُدْرَتُهُ، لَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْهَا: هُوَ اللَّهُ بِعَيْنِهِ وَكَمَالِهِ، وَلَا غَيْرُ اللَّهِ، وَلَكِنَّهَا صِفَاتٌ مِنْ صِفَاتِهِ، غَيْرُ مَخْلُوق6 وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ، فَافْهَمْ.»

والذي يظهر أن مثل هذا السؤال كان مشتهراً عند أوائل الجهمية والمعتزلة، حيث توهموا أنهم سيحرجون به أهل السنة، ويشهد لذلك أن هذا السؤال قد ورد في عدة وقائع، ومن ذلك: أن بشراً المريسي لقي منصور بن عمار، فقال له: «أخبرني عن كلام الله: أهو الله، أم غير الله، أم دون الله؟» فقال: «إن كلام الله لا ينبغي أن يُقال: هو الله، ولا يُقال: هو غير الله، ولا: هو دون الله، ولكنه كلامُه وقولُه: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ } [يونس: 37] أي: لم يقله أحد إلا الله، فرضينا حيث رضي لنفسه، واخترنا له من حيث اختار لنفسه، فقلنا: كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق، فمن سمَّى القرآن بالاسم الذي سماه الله به كان من المهتدين، ومن سماه باسم من عنده كان من الغالين»([27]).

ولشهرة هذا السؤال عندهم، فقد أرشد الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم إلى طريق الرد على الجهمية ممن قصد التلبيس به، فقال: «إذا قال لك الجهمي: أخبرني عن القرآن، أهو الله، أم غير الله؟ فإن الجواب أن يُقال له: أحلت في مسألتك، لأن الله عز وجل وَصَفَه بوصفٍ لا يقع عليه شيء من مسألتك، قال الله عز وجل {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [السجدة: 1، 2] السجدة: 1 - 2، فهو من الله عز وجل، ولم يقل: هو أنا، ولا: هو غيري، إنما سمَّاه كلامَه، فليس له عندنا غير ما حلاه به، وننفي عنه ما نفى»([28]).

ومن ذلك: امتحان المبتدعة لأهل السنة في مسألة اللفظ: هل لفظي بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق؟ فحصروا القسمة بينهما، توصلاً بذلك إلى إلزام مخالفهم بالقول بخلق القرآن.

فالجاهل يظن لزوم المصير إلى أحد الأمرين، حيث يرى أنهما نفي وإثبات لأمر معين، فإما أن يثبت، وإما أن ينفى، ولا خيار ثالث، على حسب قاعدة الثالث المرفوع.

إلا أن اللبيب الفطن يتبين له أن هذا الحصر غير لازم، وليست القضية في إثبات ثالث مرفوع، بل في إجمال اللفظ الذي أضيف له النفي والإثبات، فإن (اللفظ) في قولهم: (لفظي بالقرآن مخلوق) مصدر، والمصدر يطلق على الفعل، وعلى المفعول، فهو مجمل من هذه الجهة.

فكان التحقيق بالتفصيل، وهو أن اللفظ إذا أريد به الفعل(التلفظ) فهو مخلوق؛ لأن أفعال العباد مخلوقة لله.

وإن أُريد به المفعول(المتلفظ به)، فإنه غير مخلوق، وهذا التفصيل هو ما فطن أئمة السنة، فنهوا وشددوا في حق من قال بأحد الأمرين على سبيل الإجمال(أنه مخلوق أو غير مخلوق)، كما فعله الإمام أحمد، وقرروا التفصيل السابق، كما بينه الإمام البخاري في خلق أفعال العباد([29]).

هذه بعض التنبيهات، حول أبرز التمويهات والتلبيسات التي يستعملها أهل الباطل في التضليل، وفي ترويج باطلهم على أهل السنة.


___________________________
([1]) نقض الدارمي(1/ 525-527)

([2]) انظر أنموذجاً على ذلك، في نقض الدارمي على المريسي، مع تنبه الإمام الدارمي له ولمقصد صاحبه(2/ 659، 895، 897).

([3])نقض الدارمي (2/ 816-817).

([4]) نقض الدارمي(2/695).

([5])نقض الدارمي (2/ 819).

([6])منهاج السنة النبوية (7/ 37)

([7]) درء تعارض العقل والنقل(7/141) (7/278).، وانظر:المرجع السابق(1/301، 307) (7/141-143، 283، 290، 350) (9/333)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام(6/342-344).

([8]) شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار(88)، الإرشاد للجويني(360)، المحصول للرازي(1/547-576)، محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين(143).

([9]) انظر للجواب عن ذلك: قلب الأدلة(3/ 1367-1459).

([10]) المحصول(2/27)

([11]) نقض الدارمي على المريسي(1/ 534).

([12]) مجموع الفتاوى(3/ 317) بتصرف يسير، وانظر: نفس المرجع(5/ 18), الفتاوى الكبرى(1/ 459) (5/ 12)، درء التعارض(1/ 58)

([13]) انظر: مجموع الفتاوى(8/ 262) (10/ 670)

([14]) انظر: درء التعارض(5/ 54).

([15]) انظر: قلب الأدلة على الطوائف المضلة في توحيد المعرفة والإثبات(3/ 1573-1777).

([16])نقض الدارمي(2/ 828).

([17])نقض الدارمي(2/843- 844).

([18])نقض الدارمي(2/ 855).

([19]) نقض الدارمي(2/ 867-868)، وانظر: نفس المرجع(1/ 394).

([20]) انظر: نقض الدارمي(2/ 893-894).

([21]) انظر: الحدود في الأصول لابن فورك(92)، تمهيد الأوائل للباقلاني(242، 246)، شعب الإيمان للبيهقي(141)، التبصير في الدين للإسفراييني(165)، الغنية في أصول الدين للنيسابوري(110)، تبصرة الأدلة للنسفي(1/245)، أصول الدين للغزنوي(109)، شرح المواقف(1/396)، شرح المقاصد للتفتازاني(1/140) (2/76).

([22]) انظر: الصفدية(1/108).

([23]) انظر: تبصرة الأدلة للنسفي(1/243)، شرح المقاصد للتفتازاني(1/141).

([24]) انظر: منهاج السنة النبوية(2/166، 542).

([25]) انظر: شرح العقيدة الأصبهانية-ت:د السعوي(1/53-54)، منهاج السنة النبوية(2/166 ، 168، 542-546)، بغية المرتاد(426)، مجموع الفتاوى(3/336-337)، الصفدية(1/107، 110)، درء تعارض العقل والنقل(1/282)، الجواب الصحيح(3/289) (5/16-19)، الصواعق المرسلة(3/982-983).

([26]) نقض الدارمي على المريسي (1/ 547)

([27]) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر(60/336)، و:الحجة في بيان المحجة(1/426).

([28]) السنة لعبد الله بن أحمد(1/163)، وانظر كذلك في إيراد هذا السؤال: كتاب تحكيم العقول في علم الأصول، للحاكم الجشمي المعتزلي- مسألة:(في القرآن وسائر كلام الله تعالى)-كتاب إليكتروني.

([29]) انظر: خلق أفعال العباد للإمام البخاري، ت: د. فهد الفهيد، مع مقدمة المحقق(1/ 443).
http://twitmail.com/email/366393977/...%D8%B6%D9%8A--

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق