حقيقة دخول الأشاعرة في مسمى أهل السنة والجماعة
الحمدُ لله والصلاة والسلام على رسول الله ... وبعدُ
يدَّعي الأشاعرة دخولهم في مسمى أهل السنة والجماعة ويدافعون عن هذه الدعوى بشكل كبير ، وهيهات أن يكون لهم أو لغيرهم شرف هذه التسمية مالم يُحَقَّق مقتضاها ويُلتزم به على وِفْقِ فَهْمِ السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة .
ومصطلح أهل السنة والجماعة مصطلحٌ عزيز وشعارٌ عظيم ادَّعاه من ليس منهم ، ونادى به من خالف طريقتهم في العقيدة ، واغترَّ بعض أهل السنة والجماعة بتلك الدعاوى ، وسبب ذلك ( أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول "أهل السنة والجماعة"، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثَمَّ كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة ، لا أعني خسارة الأتباع ، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج ) ([1] ).
والناظر لأصول الأشاعرة وما التزموه وقالوه وسطَّروا به كتبهم يجدهم مخالفين كل المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال على مسائل الاعتقاد ، ومع ذلك يزعمون أنهم من أهل السنة والجماعة متبعون للسلف الصالح ، وهذه من الأمور العجيبة ( أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدَّعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة ، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة ! أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة ، وتلبيس أهل الضلالة والفرقة ؛ فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء دون نكير ولا اعتراض ) ([2] ).
ومن جرأة الأشاعرة انتسابهم لأهل السنة والجماعة ، والزعم بأنهم أتباع السلف الصالح ، والمحاولة لتثبيت هذا اللقب عليهم ورمي غيرهم وتجريحهم .
ومما أوجد اللَّبس في دخول الأشاعرة في مسمى أهل السنة والجماعة ثلاثة أمور :
الأمر الأول :
الفهم الخاطئ لما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الأشاعرة وأنهم من أهل السنة والجماعة ، إذ أنه - رحمه الله - ذكر في مَعْرِضِ كلامه عدَّة اعتبارات حول دخولهم في أهل السنة والجماعة ينبغي التنبُّهَ لها ؛ فيقول رحمه الله : ( قال محمد بن خويز منداد : أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه هم أهل الكلام ، فكل متكلِّم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعرياً كان أو غير أشعري ، وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذِّر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم اقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم) ([3] ).
وينبغي عند النقل لهذا النص عن شيخ الإسلام – رحمه الله – أن لا يُنقل بنوع بترٍ وقطعٍ للسياق ليوافق الأهواء ويُؤيِّد البدعة .
وهنا عدَّة اعتباراتٍ في النص السابق حول دخول الأشاعرة في أهل السنة والجماعة يجب التنبُّه لها وهي :
1-أن الأشاعرة يُعدُّون من أهل البدع والأهواء الذين يجب علينا التحذير منهم .
2-تلبُّس الأشاعرة بعلم الكلام الذي يدَّعون به إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية ، وهي الأدلة العقلية عندهم([4] ) .
3-وصفهم بأنهم من طوائف أهل الكلام ، وهو وصفٌ لا ينبغي إغفاله بأي حجةٍ كانت ، إذ أن المتكلمين من أهل البِدع كما قرَّر ذلك علماء السلف رحمهم الله .
4-يُعدُّ الأشاعرة من أهل السنة والجماعة في مقابل المعتزلة والرافضة .
5-دخولهم في أهل السنة والجماعة في مقابل المعتزلة والرافضة لا يُخرجهم عن طوائف أهل الكلام ولا ينفي عنهم تلبُّسهم بالبدعة وتحذير السلف الصالح من مسالكهم في العقيدة .
وقد صرَّح شيخ الإسلام – رحمه الله – في موضع آخر أن الأشاعرة يُعدَّون من المتكلمين ممن ينتحل مذهب أبي الحسن الأشعري ، وأنهم مخالفون لأهل الحديث ، فيقول – رحمه الله – : ( ...أنَّ أُمَّهَاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخِّرُو المُتكلِّمين - ممَّن ينْتَحِلُ مذهب الأشعري - لأهل الحديث " ثلاثُ مسائل " وصْفُ الله بالعلوِّ على العرْش ، ومسألة القرآن ، ومسألة تأويل الصفات ) ([5] ).
الأمر الثاني :
ما ذكره بعض العلماء عن الأشاعرة وأنهم من أهل السنة والجماعة ، وهؤلاء العلماء هم في الأصل محسوبون على الأشاعرة كابن عساكر والمرتضى الزبيدي والإسفراييني وغيرهم([6] )، أو ممن قصدوا إطلاق أهل السنة والجماعة عليهم في مقابل المعتزلة والرافضة، ومن ذلك قول الإمام السفاريني عن الأشاعرة : ( أهل السنة والجماعة ثلاث فرق : الأثرية : وإمامهم أحمد بن حنبل ، والأشعرية : وإمامهم أبو الحسن الأشعري ، والماتريدية : وإمامهم أبو منصور الماتريدي )([7] ) ، وقد تعقَّبه في الحاشية الشيخ ابن سحمان -رحمه الله – فقال : ( هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول : حروف القرآن مخلوقة ، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت ، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم ، فهم يُقِرُّون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي، ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة اولجماعة ) ، وفي تعليق للشيخ عبد الله بابطين – رحمه الله - قال : ( تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله: (هي الجماعة) ، وفي رواية : (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، أو (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) . قال: وبهذا عُرِف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي r وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة ) ([8] ).
ومن المعلوم أن الأشاعرة لا يفتئون يذكرون في كتبهم أنهم أهل السنة والجماعة ، وأنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية... ومن كتبهم على سبيل المثال : الإنصاف للباقلاني ص 108، والفَرْق بين الفِرَق للبغدادي ص 318، ، والتبصير في الدين لأبي المظفر الإسفرائيني ص 25، ولمع الأدلة للجويني ص 75،92 ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 3 ، ومعالم أصول الدين للرازي ص 65 ، وشرح الجوهرة للبيجوري ص 30-31 ، وكبرى اليقينيات الكونية للبوطي ص 125، وغيرها ...
ومن الأشاعرة المعاصرين الذين لهم جلدٌ وصلفٌ الأستاذ : سعيد فودة ؛ إذ يرى ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في العقيدة مخالفٌ لما عليه أهل السنة والجماعة وهم في نظره الأشاعرة ؛ فيقول في منتدى الأصلين في مقالٍ بعنوان: ( أهل السنة وابن تيمية ) قال فيه : ( هل يمكن أن ندرج العقيدة التي يعتقد بها ابن تيمية، والعقيدة التي يعتقد بها السادة الأشاعرة تحت باب واحد.... من الغباء التام أن يدرج ابن تيمية والأشاعرة تحت اسم واحد.... فالعلماء قد اتفقوا على أن الأشاعرة هم الممثلونالحقيقيون للسنة والجماعة....) ([9] )
ومن له أدنى تأصيلٍ عقدي مبني على فَهْمِ السلف الصالح لنصوص الوحيين يدرك أن ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ما هو إلاَّ قواعد استنبطها من الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، ولم يبتدع شيئاً من عنده رحمه الله .
كما إن بعض المعاصرين - ممن تأثَّر بالأشاعرة - يدَّعي وسطيتهم في العقيدة ، فيقول عبد الفتاح اليافعي : ( وسطية أهل السنة والجماعة الأشاعرة بين عقيدة الشيعة المعطلة وعقيدة المجسمة اليوم )([10] ).
والصحيح أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنة بالإطلاق الخاص وإنما هم أهل كلام ، عدادهم في أهل البدعة .
قال الإمام أبو نصر السجزي – رحمه الله - ( ت 444 هـ ) في فصل عقده في كتابه : الرد على من أنكر الحرف والصوت ؛ لبيان السنة ما هي ؟ وبم يصير المرء من أهلها ؟ قال – رحمه الله - : (...فكل مُدَّعٍ للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله ، فإن أتى بذلك عُلِمَ صدقه ، وقُبِلَ قوله ، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف ، عُلِم أنه مُحدِث زائغ ، وأنه لا يستحق أن يُصغى إليه أو يُنظر في قوله ، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به ، بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بيِّن ، وكتبهم عارية عن إسناد ، بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب ، وقال القلانسي، وقال الجبائي...)([11] ) .
بل يذهب - رحمه الله – إلى أبعد من ذلك ؛ فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة ، فيقول – رحمه الله - : ( ثم بُليَ أهل السنة بعد هؤلاء - أي المعتزلة - بقوم يدَّعون أنهم من أهل الإتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم ، وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري...)([12]).
معللاً رأيه هذا بقوله : ( فهؤلاء يردُّون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة ) ([13] ) .
لذا كان الأسلم والأضبط أن يُقيَّد دخول الأشاعرة في أهل السنة بما سبق وإن كان الأوْلى في التعبير ما ذكره بعض أهل العلم من عدم دخولهم في أهل السنة على الإطلاق (والحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة ،لا شك في ذلك ،أما أنهم من أهل السنة فلا)([14] ).
الأمر الثالث :
السعي وراء وحدة الأمة الإسلامية لمواجهة العدو الخارجي بغض النظر عن الاختلاف ولو كان هذا الاختلاف في العقيدة وأصول الدين ، مما جعل من لوازم هذه الوحدة الدخول تحت شعار واحد هو أهل السنة والجماعة .
وإن كان الهدف عظيماً والمقصد كبيراً إلاَّ أنَّ من يُنادي لهذه الوحدة غفل أو تغافل أن تصحيح المعتقد وسلامة المنهج هو أكبر سبب للنصر والسداد ، وأعظم معين على الوحدة والاتفاق .
وجمع الأمة الذي يقصده من ينادي به من أهل السنة والجماعة هو مقصد حسن ، ولكنه لا يُنال بتغيير الحقائق والعبث بها ومجاملة المخالفين للحق ، وإنما يُنال بدعوة المنحرف بالحكمة والموعظة الحسنة إلى ترك انحرافه وبدعته ، وعرض الحق أمامه ، دون تبديل أومداهنة ، أو إنزال المخالفين محلاً ليس لهم ، ومسايرتهم في دعاواهم .
وفي المقابل نجدُ أن كتَّاب الأشاعرة المعاصرين ينادون بالوحدة وذم التفرُّق فيما مقابل الدخول جميعاً في مسمى أهل السنة والجماعة ([15] ).
ولا شكَّ أن مجرَّد الانتساب إلى أبي الحسن الأشعري هو بحد ذاته أمرٌ بدعي يُنكر على صاحبه لما اشتملت عليه طريقته من مخالفات قد تكلَّم عليها أهل العلم في مظانها ، إلاَّ ما كان في كتاب الإبانة بعد رجوعه - رحمه الله - إلى طريقة أهل الإثبات ، وإن كان بعض الأشاعرة المعاصرين ينفون الحق الموجود في كتاب الإبانة كما قرر ذلك الكوثري - عفا الله عنه - وغيره([16] ).
يقول شيخ الإسلام – رحمه الله - : ( ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصراً نافذًا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء ؛ علم قطعاً أنهم يُلحِدون في أسمائه وآياته وأنهم كذَّبوا بالرسل وبالكتاب وبما أُرسل به رُسُلُهُ ؛ ولهذا كانوا يقولون : إنَّ البِدَعَ مُشتقَّةٌ من الكفر وآيلةٌ إليه ويقولون : إنَّ المعتزلة مخانيث الفلاسفة ؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة . وكان يحيى بن عمَّارٍ يقول : المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث . ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأمَّا من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنَّفه الأشعري في آخر عمره ولم يُظْهِر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة ؛ لكن مجرَّد الانتساب إلى الأشعري بدعةٌ لاسيما وأنَّه بذلك يُوهِمُ حُسْنًا بكل من انتسب هذه النِّسبة وينفتح بذلك أبواب شر ) ([17] ).
([1]) منهج الأشاعرة في العقيدة للحوالي ص 18
([2]) المصدر السابق ص 18
([3]) بيان تلبيس الجهمية 2 / 87
([4]) انظر في تعريف علم الكلام : شرح المواقف1/34 للشريف الجرجاني ، تهذيب الكلام ص8 لسعدالدين التفتازاني
([5]) مجموع الفتاوى 6 / 354
([6]) انظر في ذلك كتاب : أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم ؛ لحمد سنان وفوزي العنجري ص 274
([7]) لوامع الأنوار 1/ 73
([8]) لوامع الأنوار 1/ 73
([9]) انظر : منتدى الأصلين http://www.aslein.net/showthread.php?t=438
([10])http://www.sd-sunnah.com/vb/showthread.php?5441-%DF%ED%DD-%C7%E4%CA%D4%D1-%C7%E1%E3%D0%E5%C8-%C7%E1%C3%D4%DA%D1%ED
([11]) الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 100
([12]) المصدر السابق ص 222
([13]) المصدر السابق ص 223
([14]) منهج الأشاعرة ص 22
([15]) انظر على سبيل المثال : ما يكتبه الدكتور : صهيب السقار في العديد من مؤلفاته والتي يذكر فيها أحوال الأمة الإسلامية وما هي فيه من تفرُّق وشتات بحجة الخلاف في مسائل العقيدة التي هي عنده من الأمور السهلة والتي ينقشع الخلاف فيها في ساعته لولا التعصُّب والتقليد الذي مُني به أهل الحديث .http://www.suhaibalsaqqar.com/ar/Index.asp?Page=31
([16]) انظر : مقدمة الكوثري على كتاب ( تبيين كذب المفتري ) ووافقه على ذلك عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين 1/516
([17]) مجموع الفتاوى 6 / 359
يدَّعي الأشاعرة دخولهم في مسمى أهل السنة والجماعة ويدافعون عن هذه الدعوى بشكل كبير ، وهيهات أن يكون لهم أو لغيرهم شرف هذه التسمية مالم يُحَقَّق مقتضاها ويُلتزم به على وِفْقِ فَهْمِ السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنة .
ومصطلح أهل السنة والجماعة مصطلحٌ عزيز وشعارٌ عظيم ادَّعاه من ليس منهم ، ونادى به من خالف طريقتهم في العقيدة ، واغترَّ بعض أهل السنة والجماعة بتلك الدعاوى ، وسبب ذلك ( أن بعض أهل السنة والجماعة لا يعرفون المضمون الكامل، والمنهج الشامل الذي يحويه مدلول "أهل السنة والجماعة"، ولا يدركون حقيقة مناهج الفرق البدعية وأصولها، ومن ثَمَّ كانت الخسارة الكبرى لأهل السنة والجماعة ، لا أعني خسارة الأتباع ، ولكن اضمحلال الشعار، وضياع الحقيقة في ركام الزيف، وفقدان المنهج المتميز في زحمة المناهج ) ([1] ).
والناظر لأصول الأشاعرة وما التزموه وقالوه وسطَّروا به كتبهم يجدهم مخالفين كل المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاستدلال على مسائل الاعتقاد ، ومع ذلك يزعمون أنهم من أهل السنة والجماعة متبعون للسلف الصالح ، وهذه من الأمور العجيبة ( أن تطغى البدع حتى يبلغ من جرأة أصحابها أن يدَّعوا أنهم هم أهل السنة والجماعة ، وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الضلالة والفرقة ! أو يضيع الحق بين تفريط أهل السنة والجماعة ، وتلبيس أهل الضلالة والفرقة ؛ فيقال: إن هؤلاء من هؤلاء، وأن الفرقتين سواء دون نكير ولا اعتراض ) ([2] ).
ومن جرأة الأشاعرة انتسابهم لأهل السنة والجماعة ، والزعم بأنهم أتباع السلف الصالح ، والمحاولة لتثبيت هذا اللقب عليهم ورمي غيرهم وتجريحهم .
ومما أوجد اللَّبس في دخول الأشاعرة في مسمى أهل السنة والجماعة ثلاثة أمور :
الأمر الأول :
الفهم الخاطئ لما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الأشاعرة وأنهم من أهل السنة والجماعة ، إذ أنه - رحمه الله - ذكر في مَعْرِضِ كلامه عدَّة اعتبارات حول دخولهم في أهل السنة والجماعة ينبغي التنبُّهَ لها ؛ فيقول رحمه الله : ( قال محمد بن خويز منداد : أهل البدع والأهواء عند مالك وأصحابه هم أهل الكلام ، فكل متكلِّم في الإسلام فهو من أهل البدع والأهواء أشعرياً كان أو غير أشعري ، وذكر ابن خزيمة وغيره أن الإمام أحمد كان يحذِّر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب وعن أصحابه كالحارث وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل الفاسدة وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف فإنهم اقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث وهم يعدون من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم) ([3] ).
وينبغي عند النقل لهذا النص عن شيخ الإسلام – رحمه الله – أن لا يُنقل بنوع بترٍ وقطعٍ للسياق ليوافق الأهواء ويُؤيِّد البدعة .
وهنا عدَّة اعتباراتٍ في النص السابق حول دخول الأشاعرة في أهل السنة والجماعة يجب التنبُّه لها وهي :
1-أن الأشاعرة يُعدُّون من أهل البدع والأهواء الذين يجب علينا التحذير منهم .
2-تلبُّس الأشاعرة بعلم الكلام الذي يدَّعون به إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية ، وهي الأدلة العقلية عندهم([4] ) .
3-وصفهم بأنهم من طوائف أهل الكلام ، وهو وصفٌ لا ينبغي إغفاله بأي حجةٍ كانت ، إذ أن المتكلمين من أهل البِدع كما قرَّر ذلك علماء السلف رحمهم الله .
4-يُعدُّ الأشاعرة من أهل السنة والجماعة في مقابل المعتزلة والرافضة .
5-دخولهم في أهل السنة والجماعة في مقابل المعتزلة والرافضة لا يُخرجهم عن طوائف أهل الكلام ولا ينفي عنهم تلبُّسهم بالبدعة وتحذير السلف الصالح من مسالكهم في العقيدة .
وقد صرَّح شيخ الإسلام – رحمه الله – في موضع آخر أن الأشاعرة يُعدَّون من المتكلمين ممن ينتحل مذهب أبي الحسن الأشعري ، وأنهم مخالفون لأهل الحديث ، فيقول – رحمه الله – : ( ...أنَّ أُمَّهَاتِ المسائل التي خالفَ فيها متأخِّرُو المُتكلِّمين - ممَّن ينْتَحِلُ مذهب الأشعري - لأهل الحديث " ثلاثُ مسائل " وصْفُ الله بالعلوِّ على العرْش ، ومسألة القرآن ، ومسألة تأويل الصفات ) ([5] ).
الأمر الثاني :
ما ذكره بعض العلماء عن الأشاعرة وأنهم من أهل السنة والجماعة ، وهؤلاء العلماء هم في الأصل محسوبون على الأشاعرة كابن عساكر والمرتضى الزبيدي والإسفراييني وغيرهم([6] )، أو ممن قصدوا إطلاق أهل السنة والجماعة عليهم في مقابل المعتزلة والرافضة، ومن ذلك قول الإمام السفاريني عن الأشاعرة : ( أهل السنة والجماعة ثلاث فرق : الأثرية : وإمامهم أحمد بن حنبل ، والأشعرية : وإمامهم أبو الحسن الأشعري ، والماتريدية : وإمامهم أبو منصور الماتريدي )([7] ) ، وقد تعقَّبه في الحاشية الشيخ ابن سحمان -رحمه الله – فقال : ( هذا مصانعة من المصنف رحمه الله تعالى في إدخاله الأشعرية والماتريدية في أهل السنة والجماعة، فكيف يكون من أهل السنة والجماعة من لا يثبت علو الرب سبحانه فوق سماواته، واستواءه على عرشه ويقول : حروف القرآن مخلوقة ، وإن الله لا يتكلم بحرف وصوت ، ولا يثبت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم ، فهم يُقِرُّون بالرؤية ويفسرونها بزيادة علم يخلقه الله في قلب الرائي، ويقول: الإيمان مجرد التصديق وغير ذلك من أقوالهم المعروفة المخالفة لما عليه أهل السنة اولجماعة ) ، وفي تعليق للشيخ عبد الله بابطين – رحمه الله - قال : ( تقسيم أهل السنة إلى ثلاث فرق فيه نظر، فالحق الذي لا ريب فيه أن أهل السنة فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عنها بقوله: (هي الجماعة) ، وفي رواية : (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ، أو (من كان على ما أنا عليه وأصحابي) . قال: وبهذا عُرِف أنهم المجتمعون على ما كان عليه النبي r وأصحابه ولا يكونون سوى فرقة واحدة ) ([8] ).
ومن المعلوم أن الأشاعرة لا يفتئون يذكرون في كتبهم أنهم أهل السنة والجماعة ، وأنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية... ومن كتبهم على سبيل المثال : الإنصاف للباقلاني ص 108، والفَرْق بين الفِرَق للبغدادي ص 318، ، والتبصير في الدين لأبي المظفر الإسفرائيني ص 25، ولمع الأدلة للجويني ص 75،92 ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 3 ، ومعالم أصول الدين للرازي ص 65 ، وشرح الجوهرة للبيجوري ص 30-31 ، وكبرى اليقينيات الكونية للبوطي ص 125، وغيرها ...
ومن الأشاعرة المعاصرين الذين لهم جلدٌ وصلفٌ الأستاذ : سعيد فودة ؛ إذ يرى ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في العقيدة مخالفٌ لما عليه أهل السنة والجماعة وهم في نظره الأشاعرة ؛ فيقول في منتدى الأصلين في مقالٍ بعنوان: ( أهل السنة وابن تيمية ) قال فيه : ( هل يمكن أن ندرج العقيدة التي يعتقد بها ابن تيمية، والعقيدة التي يعتقد بها السادة الأشاعرة تحت باب واحد.... من الغباء التام أن يدرج ابن تيمية والأشاعرة تحت اسم واحد.... فالعلماء قد اتفقوا على أن الأشاعرة هم الممثلونالحقيقيون للسنة والجماعة....) ([9] )
ومن له أدنى تأصيلٍ عقدي مبني على فَهْمِ السلف الصالح لنصوص الوحيين يدرك أن ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ما هو إلاَّ قواعد استنبطها من الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح ، ولم يبتدع شيئاً من عنده رحمه الله .
كما إن بعض المعاصرين - ممن تأثَّر بالأشاعرة - يدَّعي وسطيتهم في العقيدة ، فيقول عبد الفتاح اليافعي : ( وسطية أهل السنة والجماعة الأشاعرة بين عقيدة الشيعة المعطلة وعقيدة المجسمة اليوم )([10] ).
والصحيح أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنة بالإطلاق الخاص وإنما هم أهل كلام ، عدادهم في أهل البدعة .
قال الإمام أبو نصر السجزي – رحمه الله - ( ت 444 هـ ) في فصل عقده في كتابه : الرد على من أنكر الحرف والصوت ؛ لبيان السنة ما هي ؟ وبم يصير المرء من أهلها ؟ قال – رحمه الله - : (...فكل مُدَّعٍ للسنة يجب أن يطالب بالنقل الصحيح بما يقوله ، فإن أتى بذلك عُلِمَ صدقه ، وقُبِلَ قوله ، وإن لم يتمكن من نقل ما يقوله عن السلف ، عُلِم أنه مُحدِث زائغ ، وأنه لا يستحق أن يُصغى إليه أو يُنظر في قوله ، وخصومنا المتكلمون معلوم منهم أجمع اجتناب النقل والقول به ، بل تمحينهم لأهله ظاهر، ونفورهم عنهم بيِّن ، وكتبهم عارية عن إسناد ، بل يقولون: قال الأشعري، وقال ابن كلاب ، وقال القلانسي، وقال الجبائي...)([11] ) .
بل يذهب - رحمه الله – إلى أبعد من ذلك ؛ فيرى أن ضررهم أكثر من ضرر المعتزلة ، فيقول – رحمه الله - : ( ثم بُليَ أهل السنة بعد هؤلاء - أي المعتزلة - بقوم يدَّعون أنهم من أهل الإتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم ، وهم أبو محمد بن كلاب وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري...)([12]).
معللاً رأيه هذا بقوله : ( فهؤلاء يردُّون على المعتزلة بعض أقاويلهم ويردون على أهل الأثر أكثر مما ردوه على المعتزلة ) ([13] ) .
لذا كان الأسلم والأضبط أن يُقيَّد دخول الأشاعرة في أهل السنة بما سبق وإن كان الأوْلى في التعبير ما ذكره بعض أهل العلم من عدم دخولهم في أهل السنة على الإطلاق (والحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة ،لا شك في ذلك ،أما أنهم من أهل السنة فلا)([14] ).
الأمر الثالث :
السعي وراء وحدة الأمة الإسلامية لمواجهة العدو الخارجي بغض النظر عن الاختلاف ولو كان هذا الاختلاف في العقيدة وأصول الدين ، مما جعل من لوازم هذه الوحدة الدخول تحت شعار واحد هو أهل السنة والجماعة .
وإن كان الهدف عظيماً والمقصد كبيراً إلاَّ أنَّ من يُنادي لهذه الوحدة غفل أو تغافل أن تصحيح المعتقد وسلامة المنهج هو أكبر سبب للنصر والسداد ، وأعظم معين على الوحدة والاتفاق .
وجمع الأمة الذي يقصده من ينادي به من أهل السنة والجماعة هو مقصد حسن ، ولكنه لا يُنال بتغيير الحقائق والعبث بها ومجاملة المخالفين للحق ، وإنما يُنال بدعوة المنحرف بالحكمة والموعظة الحسنة إلى ترك انحرافه وبدعته ، وعرض الحق أمامه ، دون تبديل أومداهنة ، أو إنزال المخالفين محلاً ليس لهم ، ومسايرتهم في دعاواهم .
وفي المقابل نجدُ أن كتَّاب الأشاعرة المعاصرين ينادون بالوحدة وذم التفرُّق فيما مقابل الدخول جميعاً في مسمى أهل السنة والجماعة ([15] ).
ولا شكَّ أن مجرَّد الانتساب إلى أبي الحسن الأشعري هو بحد ذاته أمرٌ بدعي يُنكر على صاحبه لما اشتملت عليه طريقته من مخالفات قد تكلَّم عليها أهل العلم في مظانها ، إلاَّ ما كان في كتاب الإبانة بعد رجوعه - رحمه الله - إلى طريقة أهل الإثبات ، وإن كان بعض الأشاعرة المعاصرين ينفون الحق الموجود في كتاب الإبانة كما قرر ذلك الكوثري - عفا الله عنه - وغيره([16] ).
يقول شيخ الإسلام – رحمه الله - : ( ومن رزقه الله معرفة ما جاءت به الرسل وبصراً نافذًا وعرف حقيقة مأخذ هؤلاء ؛ علم قطعاً أنهم يُلحِدون في أسمائه وآياته وأنهم كذَّبوا بالرسل وبالكتاب وبما أُرسل به رُسُلُهُ ؛ ولهذا كانوا يقولون : إنَّ البِدَعَ مُشتقَّةٌ من الكفر وآيلةٌ إليه ويقولون : إنَّ المعتزلة مخانيث الفلاسفة ؛ والأشعرية مخانيث المعتزلة . وكان يحيى بن عمَّارٍ يقول : المعتزلة الجهمية الذكور والأشعرية الجهمية الإناث . ومرادهم الأشعرية الذين ينفون الصفات الخبرية وأمَّا من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنَّفه الأشعري في آخر عمره ولم يُظْهِر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة ؛ لكن مجرَّد الانتساب إلى الأشعري بدعةٌ لاسيما وأنَّه بذلك يُوهِمُ حُسْنًا بكل من انتسب هذه النِّسبة وينفتح بذلك أبواب شر ) ([17] ).
([1]) منهج الأشاعرة في العقيدة للحوالي ص 18
([2]) المصدر السابق ص 18
([3]) بيان تلبيس الجهمية 2 / 87
([4]) انظر في تعريف علم الكلام : شرح المواقف1/34 للشريف الجرجاني ، تهذيب الكلام ص8 لسعدالدين التفتازاني
([5]) مجموع الفتاوى 6 / 354
([6]) انظر في ذلك كتاب : أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم ؛ لحمد سنان وفوزي العنجري ص 274
([7]) لوامع الأنوار 1/ 73
([8]) لوامع الأنوار 1/ 73
([9]) انظر : منتدى الأصلين http://www.aslein.net/showthread.php?t=438
([10])http://www.sd-sunnah.com/vb/showthread.php?5441-%DF%ED%DD-%C7%E4%CA%D4%D1-%C7%E1%E3%D0%E5%C8-%C7%E1%C3%D4%DA%D1%ED
([11]) الرد على من أنكر الحرف والصوت ص 100
([12]) المصدر السابق ص 222
([13]) المصدر السابق ص 223
([14]) منهج الأشاعرة ص 22
([15]) انظر على سبيل المثال : ما يكتبه الدكتور : صهيب السقار في العديد من مؤلفاته والتي يذكر فيها أحوال الأمة الإسلامية وما هي فيه من تفرُّق وشتات بحجة الخلاف في مسائل العقيدة التي هي عنده من الأمور السهلة والتي ينقشع الخلاف فيها في ساعته لولا التعصُّب والتقليد الذي مُني به أهل الحديث .http://www.suhaibalsaqqar.com/ar/Index.asp?Page=31
([16]) انظر : مقدمة الكوثري على كتاب ( تبيين كذب المفتري ) ووافقه على ذلك عبد الرحمن بدوي في كتابه مذاهب الإسلاميين 1/516
([17]) مجموع الفتاوى 6 / 359
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق