حَسّن إسلامك
مرَّ رجلٌ بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحًا وبقلًا، فقال له: يا عبد الله، أرضيتَ من الدنيا بهذا؟ فقال: "ألا أدلُّك على من رضيَ بشرٍّ من هذا"؟ قال: بلى، قال: "من رضيَ بالدنيا عوضًا عن الآخرة". وكان محمد بن واسع رحمه الله يُخرج خبزًا يابسًا فيبلُّه بالماء ويأكلُه بالملح ويقول: "من رضي من الدنيا بهذا؛ لم يحتج إلى أحد". قال شيخ الإسلام: "إخراجُ فضولِ المال والاقتصار على الكفاية أفضلُ وأسلمُ وأفرغُ للقلب وأجمعُ للهمِّ وأنفعُ في الدنيا والآخرة".
وأبلغُ من ذلك قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همَّهُ؛ فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتب له، ومن كانت الآخرة نيّته؛ جمعَ الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة".
قُمْ في الدِّجَى واتلُ الكتاب ولا تنمْ ... إلا كنَومةِ حائرٍ ولْهانِ
فلربَّما تأتي المنيّةُ بغتةً ... فتُسَاقُ من فُرُشٍ إلى الأكفانِ
يا حبَّذَا عينانِ في غَسَقِ الدُّجَى ... من خشيةِ الرحمن باكيتانِ
فيا عبد الله؛ دع ما لا يعنيك. فمن انشغل بعيوب نفسه وتحصيل مصالحها؛ اشتغل عن عيب غيره وتتبع أموره. قال طاووس بن كيسان رحمه الله: "نِعْمَ صومعةُ الرجلِ بيته؛ يكف فيها سمعه وبصره". إنّ عمر الإنسان للدنيا كعمرِ شهابٍ عابرٍ بالنسبة لعمره، وبعدَ فوات الأوان ستدرك أنّك قد أهدرت بلا طائلٍ أثمنَ ما لديك: وقتك. وتذكّر أنّ صلاحيةَ جسدك قرابةَ الستين سنة أو السبعين، وهو معرّض للتلف قبلها، ومُعتركُ المنايا من الستين إلى السبعين، فمن تجاوز السبعين فهو من القليل. ولو علمَتِ الوردةُ قِصرَ عمرها ما تبسّمَتْ.
فهنّ المنايا أيّ وادٍ سلكتُه ... عليها طريقي أو عليّ طريقُهَا
وفي العشرين بدايات نضج العقل حتى الأربعين مع طروء عوارض طيش. ومن الأربعين حتى الستين استحكام العقل والجسد، وغالبُ منجزات البشر قد نحتوها في خريطة الزمان وهم في هذه المرحلة التي تُعَد رأس الهرم الإنساني. وحقيقٌ بما بعد الستين أن يُسمّى العمر الجميل، إذِ اجتمع فيه الهدوء والسكينة والراحة والحكمة والزهد لمن سلم من آفات الروح. كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهيا.
دَعْ عَنكَ ما قَدْ فات في زَمَنِ الصِّبا ... واذكر ذنوبكَ وابكها يا مذنبُ
واخشَ مناقَشَة َ الحِسَابِ فإِنَّه ... لا بدّ يُحصى ما جنيتَ ويُكتبُ
لم يَنسَهُ المَلِكانِ حين نَسِيتَه ... بَل أَثبَتَاهُ وَأَنتَ لاهٍ تَلعَبُ
والروحُ فيكَ وديعةٌ أودِعْتَها ... سترُدَّها بالرغم منكَ وتُسلبُ
فيا صاحب العشرين والثلاثين: اعلم أنّ أكثر أهلَ القبور من الشباب. ويا من طرقت الأربعين والخمسين: هلّا تنبّهت إلى أنّك في ثلث عمرك الأخير إن سرتَ كما رحل الأكثرون، ويُسارُ بك وإن لم تسِر، وتأمل طلائعَ مشيبك فهي رسل نضوج ثمرة العمر التي اقترب قِطافُها. ويا أيها الكهل الستيني: أَعْذَرَ اللهُ إليكَ أنْ بلّغَكَ الستين فما عُذْرُك إليه! فيا محطةَ الرحيل الأخير: أغلقي باب الإقلاع؛ فقد حان السفرُ للآخرة، وقد أنْجَدَ من رأى حَضَنًا، (وأن إلى ربك الرجعى). قال ابن الجوزي: "أعجبُ خلائقِ الخلائق: محسنٌ في ليل شبابه، فلمّا لاح الفجرُ؛ فَجَر".
أضحتْ خَلاَءً وأضحى أهلُها احْتَمَلوا ... أَخْنَى عليها الذي أَخْنَى على لُبَدِ
وكلّ ذنب -مهما تعلّقت نفسُك به -سيأتيك يومٌ وترحلُ عنه للأبد، إن لم يكن بتوبتك واختيارك؛ فبعجزك أو وفاتك، فاتركه الآن قبل ألا يتركك غدًا أمام الديّان. وعند دنو الرحيل؛ تُشرق حقائقُ الضمائر، فالزمخشري الذي قعّد لنفي الصفات الاختيارية عن الله تعالى، لمّا دنت وفاته؛ لم يرحل إلا وقد طبع الكاغد بماتع ابتهاله: يا من يرى مدّ البعوض جناحها..
وتفكّر طويلًا في آية طه فهي كافية في تعريةِ جسدِ الدنيا وكشفِ حقيقةِ زيفِها: (ولا تمدنّ عينيك إلى ما متعنا به أزوجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى). وما بكت العرب على شيء كما بكت على الشباب، وقد بكاه الفضلاء والعقلاء والعلماء والعُبّاد.
شَيئَانِ لَوْ بَكَت الدُّمُوعَ عَلَيهمَا ... عينَايَ حتى يُؤذِنَا بذَهَابِ
لم يَبلُغَا المِعشَارَ مِنْ حقَّيهِما ... فَقدُ الشَّبابِ وفُرقَةُ الأَحبابِ
فلماذا هذه اللوعة على مرحلة عمريّة مضت؟ الجواب: أنّ الصالحين يبكونها لأنها النشاط والقوة لصالح الأعمال، فالشابّ يتهجّد ما شاء من الليل، فيتّخذ الليل جَمَلًا يحمله لعِلّيّين، ولا يشتكي حكّةَ جِلْدِهِ وضعْفَ نفَسِهِ ووهنَ عظامِهِ، ويحفظ ما شاء من القرآن والأذكار والعلم فلا تخونه ذاكرته بضعفه وتشويشه ونسيانه، ويصوم ما شاء ولا يشتكي ضعفه وظمأهُ وهزاله، ويضرب وجوه الكافرين بيده لا يشتكي عجزه وارتخاءه وزمانته، ويقرأ ما شاء من كتاب الله بقوةِ بصرٍ وصفاء ذهن واستظهارٍ للتدبر والتفكّر، وغير ذلك من العبادات التي يساعد عليها التلذُذ بها وقودُ الشبيبة. فتلذَّذ بطاعات مولاك قبل ذبول الجسد وانحناء الظهر وصياح نقيِّ العظام من أمراض الشيخوخة.
ونُحْتُ على الشبابِ بدمعِ عينِي ... فمَا نَفَعَ البُكاءُ ولا النَّحِيبُ
فَيَا ليتَ الشَّبابَ يعودُ يومًا ... فأُخبرهُ بمَا فَعَلَ المَشِيبُ
أما من بكى عليه لضياع شهواته؛ فقد خاب وخسر، بل الأَولى أن يفرح بها مِنْ هذه الحيثيةِ؛ كي لا تشوّش عليه مسيره الذي اقتربت نهايته. وقد سئل شيخ كبير حكيم عن حالِه مع كِبَره فقال بفرح: "الحمد لله، ذهب الشبابُ وشرُّه، وأقبل المشيب وخيرُه، إن قمتُ؛ قلتُ: باسم الله، وإن قعدت؛ قلتُ: الحمد لله، فأنا أحبّ هذا الخير".
إنّ الحياة غالية جدًّا، ولا تُبذل إلا لما هو أغلى وأحب، والوقتُ هو الأجزاء المُقيمة لهذه الحياة، فلا يُجاد به إلا لما هو أنفس، فيا هذا: وقتُك هو حياتك. ألم ترَ أن الزمن يمضي أسرع من أن نتأمله! هكذا هي الأعمار، فكلها أيام باقية دونها أيام، ونستكمل رزقنا في هذه الدنيا، ثم نرحل عنها إلى ربنا. ولقد قال السلف: "علامةُ المقتِ؛ إضاعة الوقت".
توفي رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لا تدري، فلعلّه تكلّم بما لا يعنيه، أو بخلّ بما لا يغنيه". وجِماعُ ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه". فَحَسِّنْ إسلامك - رعاني الله وإياك -. ومن جميل ما قالوا: "تَمْضِيةُ ﻭﻗﺘﻚ ﺑﺎﻟﺴﻌﻲ ﻹﺩﺧﺎﻝ ﻧﻔﺴﻚ ﺍﻟﺠﻨﺔ، ﺃﻭﻟﻰ بك ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻌﻲ لإﺛﺒﺎﺕ ﺃﻥّ ﻏﻴﺮﻙ ﺳﻴﺪﺧﻞ ﺍﻟﻨﺎﺭ".
لذا فمن المهمات: أن ينشغل المؤمن بما ينفعه مما خُلق لتحقيقه وهو العبادة، وألّا يستغرق وقته فيما لا ينفع، حتى وإن نَزَعَتْ نفسُه إليه وحاولت تزيينه في عينيه، فلها مع العقل مسارب وحِيَل تُتِيهُهُ فيها أحيانًا، فلا يصحو إلا بعد مضي زمان من نفيس عمره.. فقد ذهبت ليلى فما أنت صانعُ!
ولكم سلبت شبكاتُ التواصل من أوقاتٍ لو صرفت في عمارة آخرة أو حراثة دنيا؛ لكانت ثمارها نافعة، ولكنّها فتنة الزمان وهي الثقب الأسود للأوقات. وأشدّ من ذلك السيلُ المغرق بالشبهات والشهوات في هذا العصر. وإنه لمن الغبن الشديد أن ترى عدوّك يشاركك في تربية ولدك رغمًا عنك، فقد دخل بقنواته وأفلامه وأفكاره لداخل غرف نومهم، والله المستعان.
ولك أن تعلم أن العمليّات الذهنية لطلب العلم كالحفظ والتفهّم والتأمل ونحوها يحتاج العقل فيها نَفْسًا صافية، غير مزدحمة المشاعر فرحًا أو ترحًا أو غيره، لذلك أرشد الله تعالى لناشئة الليل وقرآن الفجر، لأن الذهن فيهما أصفى ما يكون. فأين ذهنك في تلك الأوقات!
ولقد كان أبو بكر رضي الله عنه يتمنّى أنه كان طيرًا يؤكل أو شجرة تعضد مع بشارته التامة بالجنة، وبنحو ذلك قال عثمان وطلحة وعائشة وهم بالجنة مبشّرون، ومن الناس من يمشي بين الناس آمنًا مكرَ الجبار كأنّما قد بُشّر بالجنة! فإنما يخاف المرء من الله ويخشاه على قدر علمه به، قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) والخشيةُ خوف مع علم. وإنّ خوف المُبّشّرين بالجنة؛ إنما هو خوف الهيبة والجلال والخشية، لمعرفتهم عظمة الله وكبرياءه وإحاطته وغناه سبحانه، وليس كخوف القانطين. والجمهور على تغليب الخوف وقت العافية والنشاط، وعلى تقديم الرجاء حال المرض، مع الموازنة بينهما.
واحذر غدرات الخطايا الخفيّات، فعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأعلمنَّ أقوامًا مِن أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضًا؛ فيجعلُها اللهُ عزّ وجلّ هباءً منثورًا". قال ثوبان: يا رسول الله، صِفْهُمْ لنا، جَلِّهِمْ لنَا؛ ألّا نكوَن منهم ونحن لا نعلم. قال: "أما إِنّهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوامٌ إذا خلَوا بمحارم الله انتهكوها". ومن رام المكارم اجتنب المحارم. ومن درر الإمام الشافعي رحمه الله: "أعزّ الأشياء ثلاثة: الجودُ من قلّة، والورعُ في خلوة، وكلمةُ الحق عند من يُرجى أو يُخاف".
واجعل بينك وبين المحرمات حاجزًا مِنْ ترك المكروهات حِمىً لورعك وحفظًا لأمانتك، قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: "أعمالُ البِرِّ يُطيقها البرُّ والفاجرُ، ولكن لا يصبر عن المعاصي إلا صدِّيق". وقال الحجاج بن يوسف: "الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه". والقاعدة المضطردة التي لم ولن تنخرم: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. وتأمل عَقْرَ سليمان عليه السلام خيله غضبًا لله إذ ألهته عن صلاة العصر؛ فعوّضه الشكور الحميد عنها بالريح: (تجري بأمره رخاء حيث أصاب).
ولقد قال صلى الله عليه وسلم: "كلّ مُيَسَّرٌ لما خُلِق له". فاحذر أن يكون تيسيرك لعمل أهل الشقاوة! ولا تأمن مكر الله تعالى، وتذكر صفات جلاله كما تتذكر صفات جماله. وتدبر قوله تعالى: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) فقد بُغتوا بعذاب ليس له مقدمات.
يا راقدَ الليلِ مسرورًا بأوّلِهِ ... إنّ الحوادثَ قد يطرُقنَ أسحارًا
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق