العفاف ضرورة الزمان
الحمد لله، وبعد: فإن العفاف تاج أخلاق المؤمنين، وشمس صفات المتقين، وقد أجمعت أمم الأرض على استحسانه، ورفعت صاحبه للمقامات العالية، ذلك أنه لا يكون إلا لشريف النفس سامي الخُلق، مأمون الجوانب الغادرة.
ولقد أثنى الله تعالى على أهله، وجلّلهم بحفظه ومعونته، ووعدهم أجزل العطايا وأكبر الهبات لأنهم تساموا بنقاء أرواحهم وحسن تدينهم عن كل ما يشوب ذلك النقاء أو يخدش جناب الإيمان.
وإنه لخُلُقٌ قلبي قبل أن يكون ظاهرًا، فالقلب العامر بمحبة الله تعالى والحياء منه وحسن الرجاء فيه وعظم الخوف منه وتمام التوكل عليه لا بد أن يثمر ذلك صحيح العفاف، فالعفاف عمل قلب لأنه حركة القلب للصلاح والمباح وكفه وسكونه عن الحرام، فهو عمل من هذه الحيثية، وهو كذلك ثمرة من ثمار أعمال القلوب الزاكية، وظهوره في الثمرة أجلى من العمل.
وحَدُّ العفاف: كف النفس عما لا ينبغي لها. وعلى قدر تحقيقه يقترب صاحبه من كماله في نفسه ورفعته عند ربه.
هذا والعفة أنواع عديدة، وجماعها الكف عن الحرام والاستيحاش منه والازورار بعيدًا عن ذرائعه. وهي منقسمه على الجوارح، وأصولها ثلاثة:
عفة الفرج وعفة اللسان وعفة البطن، والبقية متفرعة عنها كالعفة في المال والرئاسة والمدح والتكاثر ونحو ذلك.
وإذا ضبط المرء عفته في أنواع العفة الثلاث فقد انتظمت له سائرها، وتيسرت له عواقبها، ويكون حينها قد لبس ثوب العفاف. وهي كالتالي:
أولًا: العفة عما في أيدي الناس:
وهي أن يعفَّ عما في أيدي الناس، سواء ببصره أو سمعه أو لسانه أو حتى فكره، وأن يقنع برزق الله له، فهو أحكم وأعلم وأرحم. قال الله تبارك وتعالى: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) وكذلك بأن يترك مسألتهم، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يكفل لي ألا يسأل الناس شيئًا وأتكفَّل له بالجنة". فقال ثوبان: أنا. فكان لا يسأل أحدًا شيئًا. (1)
ثانيًا: كف اللسان عن الأعراض:
فيجب على المسلم كف لسانه عن أعراض الناس، وألا يقول إلا طيبًا. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه، ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (2) ويتبع اللسان القلم والكتابة. فالقلم هو اللسان الثاني. ويلحق به الكف عن الدماء والازورار عن تخوّضها بلا برهان شريعة. ويتبعه كذلك لحظ العين أو حركة اليد أو غيرهما بازدراء أو همز أو لمز، أو أي أذيّةٍ لأي كائن – حتى لو كان كافرًا أو بهيمة أو طيرًا - لم يأذن بها الله عز وجل.
ثالثًا: عفة الفرج عمّا حرم الله:
وهي أن يعفَّ فرجه عن المحرمات والفواحش. وقد اشتدت الحاجة في هذا الزمان للتذكير به والتنويه بشأن أهله والتحذير من تدنيسه، والله المستعان.
الفرج الحرام حفرة إلى الجحيم، وأكثر أهل النار إنما دخلوا منها ومن اللسان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله وحسن الخلق»، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار. فقال: «الفم والفرج». (3)
ويتبع عفاف الفرج عفافُ رُسله كالسمع والبصر والكلام وغيرها. يكفي في خبث المعصية مسمّاها لأنها جرأة على مخالفة الجبار جل جلاله ونوع كفر لنعمه التي لا تعد ولا تحصى، فكيف نعصي من لا قوام لنا إلا به؟!
قيمة العفّة وضرورة المؤمن إليها!
إن العفاف برهان التقوى ودليل الاستقامة، فالدنيا بأسرها امتحان صبر واختبار صدق، فمن عفّ وكفّ وصبر لله على الاستقامة فهو المؤمن حقًّا والفاضل صدقًا.
والعفاف ضرورة الزمان، لأنا نعيش زمانًا عاصفًا بكل المقاييس، فأبواب الشهوات المحرمة مشرعة على القلوب الضعيفة بلا رقيب إلا من لدن علام الغيوب!
بل قد تسلطت الشهوات على الشبهات حتى استبطنتها خفية، فصارت الشبهات سلّمًا لبلوغ حظوظ النفس الأمارة بالسوء والفحشاء، ففي الأموال ضعف وازع الخوف من الربا – على سبيل المثال – بسبب اشتباه معاملات الحلال بالحرام، وساعد على ذلك فتاوى لمتفقّهة التيسير – زعموا – الذين يسوّغون للناس أبوابًا ما كان الشيطان يحلم بها في الزمن الأول! فابتدعوا للعامة معاملات تدور هي والربا على رحى واحدة وتصدر من نبع سوء واحد، قد يقترب بعضها حتى يكون ربًا صريحًا أو يتأخر قليلًا بحسب حقيقته، لكنه لا يخرج من المشتبه المذموم. ولا يعني هذا التعميم بحال لا بأوصاف ولا بأشخاص، فثم علماء أهل فضل وورع، وثمّ معاملات أحدثها الناس لا لبس فيها ولا اشتباه، إنما القصد تنبيه النبيه.
وفي الأنكحة اخترع الشيطان للناس طرقًا قذف زخرفها في قلوب بعضهم فروّجوها حتى اشتبه السفاح الذميم بالنكاح الشريف. وحتى لو خالفه في بعض صوره وشروطه لكنه باقٍ في قبيل المشتبهات. فإذا استمرأ العبد المشتبه والمكروه سهل عليه خوض الحرام الصريح، إذ ثوب الإيمان يتقلص عن المؤمن شيئًا فشيئًا مع كثرة اختلاط المشتبهات والمكروهات في قلبه، وينقص حتى لا يطيق مدافعة الباطل ولا مجاهدة الأمّارة!
حتى في أمور السلطان جرت ببعضهم كلاليب شُبَهٍ ارتضعت لَبَانَ الشهوات، فصار دين بعضهم شهوة سلطانه بلسان حاله فأشبهوا إمامية الرفض وطُرُقية الخرافة.
وفي أمور الرئاسات وسباع الغضب وأدخنة اللهو وقتار الغفلة ما لا يكاد يُحصى تنظيرًا وتطبيقًا.
لذا، كانت قيمة العفاف عزيزة جدًّا في هذا الزمان.
إن العفيف سيد نفسه، غير مستعبد لهواه وطمعه، بل قد علّق ناصية عبادته على وفق شرع ربه، كلّما هبت على نفسه عواصف الشهوات ثبت به العفاف الراسخ في قلبه كالجبل الأشم، يسمو ببصيرته صُعُدًا في مراقي الفلاح، يتنسّم وحي ربه فيتسنّم سبيل رضوانه.
قلبه العامر بالغنى بربه كفاه عفافًا عما سواه، كان في بداية أمره يجاهد نفسه الأمارة حتى رقّاها لتكون لوّامة، فما زال بها حتى اطمأنت وسكنت وابتهجت واغتنت، وأيقنت أن الغِنى - كل الغنى - في الاستعفاف عما لا يحل؛ فكانت من المفلحين. حينها التفت بقلبه العفيف إلى ما خلّفه من حطام وبهرج ثم أشاح عنه عازمًا على لزوم ذلك المنهج، وأي منهج؟! إنه سبيل الله وصراطه ودينه ورضوانه.
يقرأ قول ربه الحاضّ على لزوم طريق العفة بكل أنواعها في البطن والفرج والمال والجوارح وهو يرى تكرار الأمر به في الشريعة: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) فغض البصر يسبقه غض القلب عن خطرات الحرام ويثمر منه حفظ الفرج وصيانته.
وقال سبحانه آمرًا أمرًا حاسمًا جازمًا قاطعًا لكل تسويل باطل وتسويغ ذريعته: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) فعليهم العفاف ومن الله لهم الغنى. والفقر ليس بعذر في الخطيئة: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) وقد تكفّل الله تعالى لأهل العفاف بالغنى والمعونة، فقد بشرنا صلى الله عليه وسلم بوعد الله تعالى للمتعففين، وهو الوعد الذي أحقّه على نفسه كرمًا وامتنانًا وهو لا يخلف الميعاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف». (4)
ويتذكّر الصدّيق الذي رمى كل شهوة الدنيا خلف ظهره صارخًا في وجه الهوى: (معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون) فعافاه مولاه: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) حفظه ربه بالعفاف لإخلاصه ونقائه وصدق توحيده فصرف حفرة الغفلة عنه عليه السلام.
لقد كانت العفة محورًا من محاور دعوة النبي العفيف الكريم صلوات ربي وسلامه وبركاته عليه، فلقد كان العفاف حاضرًا في حياته يفعله قبل قوله، فقد كان العفيف الكامل في زمنٍ لم يكن يُستنكر فيه طمع الهوى الظلوم، فقد كان هو الصادق الأمين، والأمين هو المستأمَن على كل ما يخشى عليه تلف الاستطالة من دم أو عرض أو مال.
لقد كان العفاف من الأصول الأولى للإسلام، فقد كان الأمر به واضحًا صريحًا من البداية، فقد ذكره أبو سفيان رضي الله عنه لهرقل حينما سأله عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شأن كلام هرقل لأبي سفيان ومن معه من رجالات قريش، وفيه: "ويأمرنا بالصلاة، والصدقة، والعفاف.." (5)
والعفيف غني بقناعته وطيب نفسه وانشراح صدره، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفّة في طعمة». (6)
لقد كان العفيف الأكبر صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يعلي قيمة العفة ويُثنى على الناس بها، إذْ كان العفاف من معايير الإيمان لديه.
وتأمل حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه في أوصاف أهل الجنة وأهل النار وكيف كان العفاف ظاهرًا جليًّا معتبرًا ويكأنه الميزان لغيره من الخصال، فحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا". وقال: "وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم. وعفيفٌ ذو عيال". (7)
وحتى عند أعنف أمر وهو القتل فعفاف المؤمن حاضر هنالك، فلا يتعدى ولا يمثّل فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعفّ الناس قتلة: أهلُ الإيمان». (8)
ومن أدعيته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه لربه تعالى: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى". (9)
والعفيف موعود على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بالجنة، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». (10)
واعلم أن من أعظم أسباب العفاف صدق الدعاء والثقة بالعطاء وحسن الظن بمن هو أرحم بنا من أنفسنا، والعطاء أحب إليه من المنع، ويفرح إن دُعي وسُئل واستُعين واستُغيث واستُنصِر واستُغنِي.
وأكرِم بهذه البشارة النبوية للمتعففين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُرض عليّ أولُ ثلاثة يدخلون الجنة: شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه». (11)
فتأمل كيف وصفه بالعفاف والتعفف، ذلك أن النفس مهما كانت سامية عن الدنايا فإنه لا يزال يعرض لها ما يكاد يصرفها عن استقامتها، فكان العبد في حاجة دائمة للمجاهدة بالتعفف، وفيه معنى استمرارية المجاهدة بالتعفف.
إن العفاف خلق يسموا بالنفس جدًّا ويرفعها وينزهها عن الإهانة والمذلة حتى مع ضيق ذات اليد، ولا بد للعفيف من قناعة تبرد لواعج حاجته وتشبع نهمة فاقته.
ولله أبي الحسن النعيمي إذ يقول:
إِذَا أَظْمَأَتْكَ أَكُفُّ الِّلئام ... كَفَتْكَ القَنَاعَةُ شِبْعاً وَرِيَّا
فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ فِي الثَّرَى ... وَهَامَةُ هِمَّتِهِ فِي الثُّرَيَّا
أَبِيّاً لِنَائِلِ ذِي ثَرْوَةٍ ... تَرَاهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ أَبِيَّا
فَإِنَّ إِرَاقَةَ مَاءِ الحَيَاة ... دُوْنَ إِرَاقَةِ مَاءِ المُحَيَّا (12)
هذا ويتأكد العفاف جدًّا – بمعناه العام - في أزمنة المجاعات أو الفتن التي يختلط فيها الحق بالباطل ويستطيل البشر في الدماء والأموال والأعراض، وهو حديث عزيز جدًّا حريّ بنشره وإشهاره، ففعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وأردفني خلفه وقال: «يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك، كيف تصنع؟" قال: الله ورسوله أعلم. قال: «تعفّف».
قال: "يا أبا ذر، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد - يعني القبر- كيف تصنع؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «اصبر».
قال: «يا أباذر، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضًا حتى تغرق حجارة الزيت (13) كيف تصنع؟». قال: الله ورسوله أعلم. قال: «اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك». قال: فإن لم أُتْرَك؟ قال: «فائت من أنت منهم (14) فكن فيهم». قال: فآخذ سلاحي؟ قال: «إذًا تشاركهم فيما هم فيه! ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف (15) فألقِ طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك». (16) إذن فمن العفاف ما يكون في الدماء، وهو أعظم العفاف، والله المستعان.
وهاتِكَ لفتةً عظيمة جميلة في شأن العفاف وهي أن المرء في سيره لإعفاف نفسه ومن يعول فهو مكتوب من أهل سبيل الله، فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنه قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جَلَدِه ونشاطه. فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟ (17) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان خرج يسعى على ولده (18) صغارًا (19) فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان (20)». (21)
هذا والعفاف الخالص لله عز وجل من أكبر أسباب كشف الكربات بإذن الله تعالى، وتأمل حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار. وفيه: "فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا، ففرج الله عنهم فخرجوا". (22)
هذا وعفيف البطن موعود بالفلاح، ولفظ الفلاح هو أشمل لفظٍ لخيري الدنيا والآخرة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه». (23)
فسِرُّ العفاف إذن هو القناعة!
وقال الحسن البصري: "لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخفوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه". قلت: تصديق ذلك في حديث أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". (24)
ذلك أن المال عزيز بأيدي أصحابه ولا يهون عليهم أخذه من أيديهم، بل إنهم ليصولون دونه صيال السباع الضواري (وتحبون المال حبًّا جما) فكما أنه يهمّهم ويسوقهم تحصيله فكذلك يؤرقهم ويروقهم حفظه، فالشّح مغروز في نفوس البشر، فمن أراد مزاحمتهم عليه قَلوه وأبغضوه إلا من سخت نفسه منهم لأمر خارج عن ذلك كزهد أو غياث أو تحبّب أو صدقة ونحو تلك الرغائب. فأقل الناس أهل القناعة، وأقل قليلهم أهل الزهادة!
واعلم أن فتنة النساء أشد من فتنة المال عند بعضهم، والعكس صحيح لدى آخرين، وكل امرئ قد ركّب فيه ضعف وميل بحكم بشريّته فيستحكم في جهة دون الأخرى، وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من الفتنتين فقال في شأن النساء: «ما تركت بعدي فتنة هي أضرّ على الرجال من النساء». (25) وقال في فتنة شأن المال: «لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال». (26) فلدى بعض الناس ميل غريزي للنساء أكثر بكثير من ميله لجمع المال، ولدى آخرين طمع وجشع وشح وهلع للمال مع زهده في أمر النساء، والشيطان يشمّ قلب عدوه وابن عدوه آدم فحيثما وجد ضعفًا ولج منه، سواء من هذين البابين أو من سواهما كحب الرئاسة أو محبة الظلم أو غير لك.
وقد جمعهما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدنيا حلوة خَضِرة (27) وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون، فاتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء». (28) ففتنة المال من أوّليات فتنة الدنيا للعالمين.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم يإحسان.
إبراهيم الدميجي
.....................................
1. أبو داود (1643) وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1643)
2. البخاري (10)
3. أحمد (2/ 472، 2/ 291) قال محقق جامع الأصول (11/ 694): رواه ابن حبان في صحيحه، وهو حديث صحيح بشواهده. وابن ماجه (4246)
4. أحمد (7416) والترمذي وحسّنه (1655) وجوّد إسناده ابن باز في حاشية بلوغ المرام (765)
5. البخاري، الفتح 6 (2941) واللفظ له. ومسلم (1773)
6. أحمد (2/ 177) (6661) واللفظ له وقال الشيخ أحمد شاكر (10/ 139): إسناده صحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 301) (886)
7. مسلم (2865)
8. أبو داود (2666) واللفظ له. وأحمد (1/ 393) (3727) وقال شاكر: إسناده صحيح (5/ 275)
9. مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (2721)
10.البخاري (6474)
11.الترمذي (1642) وقال: حديث حسن واللفظ له. أحمد (2/ 425) وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده حسن (18/ 137)
12.سير أعلام النبلاء (17 / 447)
13.حجارة الزيت: موضع بالمدينة في الحرة سمى بها لسواد الحجارة ولمعانها حتى كأنما طلبت بالزيت، والمراد: أن الدم يعلو حجارة الزيت ويسترها لكثرة القتلى. وهذه إشارة إلى وقعة الحرة التي كانت زمن يزيد من الدماء.
14.أي: أهلك وعشيرتك ممن كان على عفافك وورعك.
15.أي: إن غلب ضوء السيف وبريقه عينك ونفسك وخشيت أن تقاتل فغطّ وجهك حتى يقتلك فتكون ابن آدم المقتول لا القاتل. وهذا خاص في أزمنة الفتن أما في غيرها فالمدافعة هي السنة لما رواه مسلم 1/87 (140) (225) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: "فلا تعطه مالك" قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: "قاتله" قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: "فأنت شهيد" قال: أرأيت إن قتلتُه؟ قال: "هو في النار".
16.أبو داود (4261) وصححه الألباني (3/ 803) وابن ماجه (3958) والحاكم (4/ 424) وأحمد (5/ 149، 163) واللفظ له.
17.قالوا هذا لمحبتهم الجهاد في سبيل الله وضنّهم بأشداء الرجال إلا يتوانوا عن تلك المواقف التي يُعزّوا بها دين الله، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم بلطفه المعهود إلى أن فضل الله واسع وأن سبيله يشمل من كان ساعيًا في شأن عفافه وعفاف عياله.
18.الولد يشمل الذكر والأنثى، وفي التنزيل: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين).
19.يتبع الصغار من كان في حكمهم لمرضه أو إعاقته ونحو ذلك، وخصهم بالذكر إخراجًا للأقوياء من الأولاد حتى لا يتواكلوا ويكونوا عالة يقتاتون على جهد غيرهم وقد أغناهم الله بالقوة.
20.فالاعتبار أنما هو بالنيات.
21.رواه الطبراني في الكبير (19/ 129) وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (3/ 63)
22.البخاري (3465)
23.مسلم (1054)
24.أخرجه ابن ماجه ( 4102 ) والحاكم ( 4/313 ) وحسنه النووي في الرياض.
25.متفق عليه.
26.الترمذي ( 2336 ) وقال: حديث حسن صحيح غريب.
27.خَضِرَة: غضَّة ناعِمَة طريَّة نضِرة كالثمرة الطيبة.
28.مسلم ( 7124 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق