كشف شبهة التوسّل الشركي في حديث الأعمى
الحمد لله، وبعد؛ فقد روى الإمام أحمد وغيره (1) عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: "إن شئتَ دعوتُ لك، وإن شئتَ أخّرت ذاك، فهو خير". وفي رواية: "وإن شئتَ صبرت فهو خير لك". فقال: ادعه، فأمره أن يتوضأ، فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك، وأتوجّه إليك بنبيّك محمد نبيّ الرحمة، يا محمد، إني توجّهت بك إلى ربي في حاجتي هذه، فتقضى لي، اللهم شفّعه في".
فيتشبث الخرافيون والقبوريون بهذا الحديث زعمًا أن فيه دليلًا على مشروعية التوسل الشركي الذي يقوم عليه بنيان طرائقهم. وقد تكلم العلماء في كشف شبهتهم وبطلان تعلقهم بما وهموه. وممن تكلموا في ذلك ابن تيمية في الرد على البكري، وفي قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة، وابن عبد الهادي في الصارم المُنكي – وهو نفيس جدًّا في هدم شبه القبوريين بعامة - وحمد بن ناصر آل معمر في الرد على القبوريين، وسليمان بن سحمان في الصواعق المرسلة الشهابية، وعبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن جرجيس، ومحمد نسيب الرفاعي في التوصل إلى حقيقة التوسل، والألباني في التوسل أنواعه وأحكامه، وغيرهم كثير، وسنلخص بعض ما كتبوه لعظيم البليّة على من تعلّق به في شركه مما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى قد أمر بالتوسل المشروع لا الممنوع.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علّم رجلًا يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي، اللهم شفّعه فيَّ".. فهذا الحديث فيه التوسل به إلى الله في الدعاء.
فمن الناس من يقول: هذا يقتضي جواز التوسل به مطلقًا حيًّا أو ميتًا... وقول هؤلاء باطل شرعًا وقدرًا، فلا هم موافقون لشرع الله، ولا ما يقولونه مطابق لخلق الله.
ومن الناس من يقولون: هذه قضية عين يثبت الحكم في نظائرها التي تشبهها في مناط الحكم، لا يثبت الحكم بها فيما هو مخالف لها لا مماثل لها، والفرق ثابت شرعًا وقدَرًا بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وبين من لم يدع له، ولا يجوز أن يُجعل أحدهما كالآخر.
وهذا الأعمى شفع له النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلهذا قال في دعائه: "اللهم فشفعه في"، فعُلم أنه شفيع فيه، ولفظه: "إن شئت صبرتَ، وإن شئتَ دعوتُ لك" فقال: ادع لي. فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ويدعو هو أيضًا لنفسه ويقول في دعائه: "اللهم شفّعه فيّ"، فدل ذلك على أن معنى قوله: "أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد" أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبيك فتسقينا".
فالحديثان معناهما واحد: فهو صلى الله عليه وسلم علّم رجلًا أن يتوسل به في حياته كما ذكر عمر أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلًا عنه.
فلو كان التوسل به حيًّا وميتًا سواء، والمتوسِّلُ به الذي دعا له الرسول كمن لم يدع له الرسول؛ لم يعدلوا عن التوسل به، وهو أفضل الخلق وأكرمهم على ربه، وأقربهم إليهم وسيلة، إلى أن يتوسلوا بغيره ممن ليس مثله.
وكذلك لو كان الأعمى توسل به ولم يدع له الرسول بمنزلة ذلك الأعمى لكان عميان الصحابة أو بعضهم يفعلون مثل ما فعل الأعمى، فعدولهم عن هذا إلى هذا - مع أنهم السابقون الأولون المهاجرون والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء وينفع، وما لم يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت الضرورة ومخمصة وجدب يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير وإنزال الغيث بكل طريق ممكن - دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه.
ولهذا ذكر الفقهاء في كتبهم في الاستسقاء ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو لهم وهذا مشروع، فما زال المسلمون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أن يدعو لهم، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه الدعاء لا عند قبره ولا عند غير قبره، كما يفعل كثير من الناس عند قبور الصالحين، يسأل أحدهم الميت حاجته، أو يقسم على الله به ونحو ذلك". أهـ. مجموع فتاوى شيخ الإسلام (1 / 325) مختصرًا. وانظر: فتاوى اللجنة الدائمة (1 / 528).
وقال رحمه الله في الاقتضاء: "وقوله: "يا محمد، يا نبي الله" هذا وأمثاله نداء يُطلب به استحضار المنادَى في القلب فيُخاطَبُ لشهوده بالقلب، كما يقول المُصلّي: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته". والإنسان يفعل مثل هذا كثيرًا يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب.
فلفظ التوسل بالشخص والتوجّه به والسؤال به فيه إجمال واشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فيُراد به التسبب به لكونه داعيًا وشافعًا مثلًا، أو لكون الداعي مجيبًا له – أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم - مطيعًا لأمره مقتديًا به. فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له، وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته". أهـ. اقتضاء الصراط (1 / 415 -416) وانظر أيضًا: الاستغاثة، وتسمى كذلك: الرد على البكري (1 / 114) قلت: ومن شواهد استحضار الغائب في القلب بلا عبادة قول الشاعر:
خيالُكَ في عيني وذِكرُك في فمي ... ومثواك في قلبي فأينَ تغيبُ
وقال الألباني رحمه الله في التوسل: "يرى المخالفون أن هذا الحديث يدل على جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الصالحين، إذ فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم الأعمى أن يتوسل به في دعائه، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيرًا.
وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه وهو التوسل بالذات، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه، لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه. والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة وأهمها:
أولًا: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له وذلك قوله: "ادع الله أن يعافيني"، فهو قد توسل إلى الله تعالى بدعائه صلى الله عليه وسلم، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره. ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقّه لما كان ثمّة حاجه به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الدعاء له، بل كان يقعد في بيته ويدعو ربه بأن يقول مثلًا: "اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني وتجعلني بصيرًا". ولكنه لم يفعل. لماذا؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حقّ الفهم، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة يذكر فيها اسم المتوسل به، بل لا بد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة، وطلب الدعاء منه له.
ثانيًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك". وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه - أي عينيه – فصبر؛ عوّضته منهما الجنة". رواه البخاري ( 5653 )
ثالثًا: إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله: "فادع"، فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، لأنّه صلى الله عليه وسلم خيرُ من وفى بما وعد، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق، فقد شاء الدعاء وأصرّ عليه، فإذن لا بدّ أنه صلى الله عليه وسلم دعا له، فثبت المراد.
وقد وجّه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى - بدافع من رحمته وبحرص منه على أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه - إلى النوع الثاني من التوسل المشروع، وهو التوسل بالعمل الصالح، ليجمع له الخير من أطرافه. فأمره أن يتوضأ، ويصلي ركعتين، ثم يدعو لنفسه، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدّمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهي تدخل في قوله تعالى: ( وابتغوا إليه الوسيلة ). وهكذا فلم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بدعائه للأعمى الذي وعده به، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه ليكون الأمر مكتملًا من جميع نواحيه، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى. وعلى هذا فالحادثة كلها تدور حول الدعاء - كما هو ظاهر - وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون.
رابعًا: أنّ في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم إياه أن يقول: "اللهم فشفّعه فيّ"، وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقّه، إذ أن المعنى: اللهم أقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيّ، أي اقبل دعاءه فيّ أن تردّ عليّ بصري. والشفاعة لغة: الدعاء، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة، وهذا يبين أن الشفاعة أخصّ من الدعاء، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمرًا فيكون أحدهما شفيعًا للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.
خامسًا: إنّ مما علّم النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله: "وشفّعني فيه" أي اقبل شفاعتي - أي دعائي - في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم - أي دعاءه - في أن تردّ علي بصري. هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه، وهذه الجملة صحت في الحديث أخرجها أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وهي وحدها حجة قاطعة على أن حمل الحديث على التوسل بالذات باطل.
سادسًا: إنّ هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب، وما أظهر الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره، ولذلك رواه المصنّفون في دلائل النبوة كالبيهقي وغيره، فهذا يدل على أنّ السرّ في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
إذا تبين للقارئ الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات؛ فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه: "اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم" إنما المراد به: أتوسل إليك بدعاء نبيك أي: على حذف المضاف، وهذا أمر معروف في اللغة، كقوله تعالى: { واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها } أي أهل القرية وأصحاب العير. ونحن ومخالفونا متفقون على ذلك، أي على تقدير مضاف محذوف، وهو مثل ما رأينا في دعاء عمر وتوسله بالعباس، "إني أتوجه إليك بـ(دعاء) نبيك"، و"يا محمد إني توجهت بـ(دعاء)ك إلى ربي". فأما تقديرهم ( بجاهه ) فليس لهم عليه دليل لا من هذا الحديث ولا من غيره، إذ ليس في سباق الكلام ولا سياقه تصريح أو إشارة إلى لذكر الجاه أو ما يدل عليه إطلاقًا، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه، فبقي تقديرهم من غير مرجح فسقط من الاعتبار، والحمد لله.
وثمة أمر آخر جدير بالذكر وهو أنه لو حُمل حديث الضرير على التوسل بالذات لكان معطّلًا لقوله فيما بعده: "اللهم فشفّعه في، وشفّعني فيه" وهذا لا يجوز كما لا يخفى، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها. وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء، فثبت المراد وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات، والحمد لله". أهـ. التوسل للألباني (1 / 70- 76) مختصرًا.
وقال عبد الرحمن دمشقية: ".. وقبول الشفاعة أي قبول الدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ميّت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مئة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه". رواه مسلم ( 947 ) فمعنى "شفّعهم الله فيه" أي قبل دعاءهم له. فيكون معنى "شفّعني فيه" أي اقبل دعائي بأن تستجيب دعاءه.
ومن الصحابة من أصيبوا بالعمى بعد مماته كابن عباس وابن عمر، ولم يُعهد أنهم استعملوا هذا الدعاء، بل تركوا التوسل به، فهذي جادّتهم. وهكذا فهم الصحابة التوسل، فقد تركوا التوسل به إجماعًا، كما في قصة عمر يوم أجدبوا وسألوا الله بدعاء عمّه العباس. وانظر: جلاء العينين (455).
فقوله: "يا محمد إني توجّهت بك إلى ربي" أي أتوجّه بدعائك الذي وعدتني به حين قلت: "إن شئت دعوت لك". وهذا ما فعله الرجل، فإنه توجه إلى النبي وطلب منه أن يدعو له. فهو يُشهِد الله أنه توجه إلى نبيه، وذهب إليه ليسأل الله له، وكأنه يقدم هذه الشهادةَ بين يدي سؤاله ربه، ومثل هذا كثير في الدعاء كقوله تعالى: ( رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا)، وتقديم أصحاب الغار عملهم الصالح بين يدي دعائهم لله. وهذا التوجه هو حكاية حال، يحكي فيه أنه توجه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يدعو ربه. ولم يسأله في غيابه كما يفعل أهل البدع.
وهؤلاء يفهمون من قوله صلى الله عليه وسلم: "إئت الميضأة" وكأنّ معناه عندهم: اذهب إلى بيتك! ولم لا تكون الميضأة قريبة منه صلى الله عليه وسلم كما يفهم من سياق الرواية، وليس هناك دليل على أن الأعمى ذهب إلى مكان آخر وصلى ثم دعا بهذا الدعاء؟! وبتقدير أن يكون كلامه من بعيد. فيكون التوجّه خطابًا لحاضر في قلبه وليس استغاثة، كما نقول في صلواتنا: "السلام عليك أيها النبي"، وكما يقول أحدنا اليوم: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله"، وكما قالت فاطمة حين مات صلى الله عليه وسلم: "وا أبتاه: أجاب ربًّا دعاه". ودليل ذلك قوله في نهاية الدعاء: "اللهم فشفّعه فِيّ" أي اقبل دعاءه في.
وقوله: "يا محمد": ليس دعاء، وإنما هو تكلم مع حي حاضر. بدليل أن الأعمى لم يستغث بالنبي من بعد. وبدليل أن الصحابة لم يفعلوا، ولم يكونوا يخاطبون النبي بقولهم: يا محمد. بل الثابت عدول عمر عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتوسله بالعباس رضي اله عنهما.
فأما التوجه الذي يفهمه الأحباش أي التوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة قبره بعد موته كما علمهم محمد بن حسن الصيادي الرفاعي: أن من أصابته ضراء فليتوجه نحو قبر الرفاعي ويخطو ثلاث خطوات ويسأله حاجته (قلادة الجواهر 434 و239). فهذا من سنن النصارى.
أما سنة نبينا فقد كان صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه، ويسأل الله وحده، وكان يقول في دعاء الاستفتاح في الصلاة: "وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين". رواه مسلم (771) فالتوجه إلى الله بالدعاء هو الملة الحنيفية، ودعوتكم الناس إلى التوجه إلى مقابر الأنبياء والأولياء هو ملة الشرك.
فإنّه توجّه بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا ما حدث حقًّا - فقد توجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له فوعده بذلك. ولذلك قال في آخر دعائه: "اللهم فشفعه في"، أي اللهم اقبل دعاءه فِيّ. والرجل يحكي ما فعله، وليس في صيغة كلامه ما يستدل به على جواز قول المشركين: "شيء لله يا رسول الله"! والدليل على ذلك أن ننظر: ماذا قال الأعمى بعد قوله "يا محمد"، هل قال: أغثني أعد إلي بصري؟ لقد قال: "يا محمد" لكنه لم يسأله، وأنتم إذا قلتم: "يا محمد" تقولون: أغثنا أمدنا بإمدادك، تعطّف تكرّم تحنّن علينا بنظرة! فإن كان سأله بعد قوله: "يا محمد" فقد قامت حجتكم، وإن كان لم يسأله فقد قامت الحجة عليكم. فالحديث حجة عليكم لا لكم.
وليس كل خطاب لغير الحاضر استغاثة به، وإلا فقد خاطب عمر بن الخطاب الحجر الأسود قائلًا: "والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". رواه البخاري (1597) ومسلم (1270)". أهـ. أحاديث يحتج بها الشيعة (1 / 106 - 110) باختصار. وانظر: غاية الأماني للألوسي، والتوصل إلى حقيقة التوسل (1 / 137) وما بعدها. وشرح العقيدة الطحاوية للحوالي (1 / 1209 -1211) وبالله التوفيق.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
.............................
1. المسند (17240) وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات. وصححه الألباني في التوسل (1 / 69) وقال: "ورواه الترمذي ( 4 / 281 - 282 بشرح التحفة ) وابن ماجه ( 1 / 418 ) والطبراني في الكبير ( 3 / 2 / 2 ) والحاكم ( 1 / 313 ) كلهم من طريق عثمان بن عمر: أن شعبة عن أبي جعفر المدني قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان به. وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب" وفي ابن ماجه عقبه: "قال أبو إسحاق: حديث صحيح". ثم رواه أحمد: ثنا شعبة به. وفيه الرواية الأخرى، وتابعه محمد بن جعفر ثنا شعبة به. رواه الحاكم ( 1 / 519 ) وقال : ( صحيح الإسناد ) ووافقه الذهبي. وقد أعلّه بعضهم كصاحب ( صيانة الإنسان ) وصاحب ( تطهير الجنان ص: 37 ) وغيرهما بأن في إسناده أبا جعفر، قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وليس الخطمي". فقالوا: هو إذن الرازي، وهو صدوق، ولكنه سيء الحفظ.
قلت: ولكن هذا مدفوع بأن الصواب أنه الخطمي نفسه. وهكذا نسبه أحمد في رواية له ( 4 / 138 ) وسماه في أخرى: ( أبا جعفر المدني ) وكذلك سماه الحاكم والخطمي هذا -لا الرازي- هو المدني، وقد ورد هكذا في ( المعجم الصغير ) للطبراني، وفي طبعة بولاق من سنن الترمذي أيضًا. ويؤكد ذلك بشكل قاطع أن الخطمي هذا هو الذي يروي عن عمارة بن خزيمة، ويروي عنه شعبة كما في إسناده هنا وهو صدوق، وعلى هذا فالإسناد جيد لا شبهة فيه". أهـ
قلت: وقد رجح شيخ الإسلام الإمام الناقد أبو العباس ابن تيمية أن أبا جعفر هو الخطمي لا الرازي في مجموع الفتاوى (1/266)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق