من أخبار الراضين بالله رب العالمين
بكيتُ على ذاك الزَّمانِ وطيبِه ... وكلُّ فتًى لا شكَّ يومًا سيرحلُ
الحمد لله، وبعد؛ فإنّ للراضين برب العالمين صحائفُ بالعطر مسطورة، وأخبار بالفوز مشهورة، ومقاماتٌ لعِلِّيينَ – برحمة الله – مبرورة. ففي القرآن ميعادهم، وفي السنة بشاراتهم، وفي ألسُنِ العالمين عَبَقُ أخبارِهم. كتب الله أن من حفظ دينه حفظه، ومن صدق عهد الله صدقه، ومن أحسن عمله كان عند الله من الفائزين، (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون)، فشمِّرْ يا عبد الله للفردوس فقد رُفعت سُهمانها للمُقرّبين، ونُشرت راياتها للمشمّرين، (فتوكل على الله إنك على الحق المبين).
يا حبّذا رندُ العقيقِ وبانُهُ ... سُقِيَ العقيقُ وأهلُهُ وزمانُهُ
راقتْ خمائلُه ورقَّ نسيمُهُ ... وصَفَتْ على حصبائه غدرانُهُ
وشَكَتْ تباريحُ الصّبابة وُرْقُهُ ... وتمايلتْ بِيَدِ الصَّبَا أفنانُهُ
يا مُفْرَدًا في حسنِهِ ذا مُدْنَفٌ ... في حُزنِه لعِبتْ به أشجانُهُ
صبًّا إذا ذكَرَ العقيقَ وأَهْلَهُ ... صابَتْ مدامعُهُ وجُنّ جَنَانُهُ
أخبارُهم نثْرُ العبير، ونشْرُ المسك الذّرير، يَضُوعُ في الآفاق، ويجمع السالف بالشاهد المُقيم، ذلك أن أخبار الراضين للصالحين مُرْضِيَة، ولِقلوبهم – بإذن الله- رابطة، فالسالك يفرح لأثرِ السابق، يشدُّ بسيرته أزْرَ فؤادِه إذا لم تَرَ عينُه المُؤنسين، (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين).
وصلوات الله وسلامه وبركاته ونعماؤه على إمامِ الراضين، وقائدِ الشاكرين، وسيّدِ الصابرين، وأطيبِ الحامدين، رسول الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. لولا أنَّ الله ابتعثه للناس رحمةً ما نجا من نجا من أمته، ولا وصلَ من رام الفلاحَ حينَ الحشرِ من نُقلته، فله حقوقٌ عظيمةٌ وصنائعُ جسيمةٌ في عنق كلِّ مؤمن إلى يوم القيامة.
عَمَّت فَواضِلُهُ وَعَمَّ مَصابُهُ ... فَالناسُ فيهِ كُلُّهُم مَأجورُ
رَدَّت صَنائِعُهُ إِلَيهِ حَياتَهُ ... فَكَأَنَّهُ مِن نَشرِها مَنشورُ
إنّ من أسباب الثبات على دين الله أوقات الشدائد والفتن، وانشراح الصدر بالرضا بالله تعالى مطالعةُ سير المرسلين.
وَجَاءَ حَدِيثٌ لاَ يُملُّ سمَاعُهُ ... شَهيٌّ إلَينَا نَثرُهُ وَنِظَامُهُ
ومن ذلك الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وتدبرْ وصف الله تعالى له عليه السلام بكونه أمّة: (إن إبراهيم كان أمة)، وتأمل كيف كانت صفة الرضا بالله وعن الله معلَمًا واضحًا من معالم شخصيته وآثار سيرته عليه السلام، وكيف كان إمام المستسلمين لأمر الله، (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لله رب العالمين)، وكيف أتمّ الكلمات التي ابتلاه الله بها، (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن)، وكيف سلّم أمره وابنه تمامًا لربّه تعالى، (فلما أسلما وتله للجبين)، ثم جاهَدَ في الله حق جهاده في الدعوة والجهاد باللسان والحجة واليد – بكسر الأصنام – والصبر العظيم والرضا العجيب والحمد الكبير لربه حينما كان يُبتلى فيه بحرقه في النار وبالأذى فيرضى ويسلّم، ويجاهد لوحده أمّة كافرة جائرة لوجه ربه تبارك وتعالى.
قال سبحانه: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين. شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين). قال الإمام المجدد رحمنا الله وإيّاه في الكلام على هذه الآية الكريمة: (إن إبراهيم كان أمّة): "لئلّا يستوحش سالكُ الطريق من قلّة السالكين، (قانتا لله)، لا للملوك ولا للتّجار المُترفين، (حنيفًا)، لا يميل يمينًا ولا شمالًا كفعل العلماء المفتونين، (ولم يك من المشركين)، خلافًا لمن كثّر سوادهم وزعم أنّه من المسلمين". (1)
ثمّ تأمّل كيف نسب الله كل نبي في سورة الشعراء لقومه (إذ قال لهم أخوهم نوح)، (إذ قال لهم أخوهم هود)، (إذ قال لهم أخوهم صالح)، (إذ قال لهم أخوهم لوط)، خلا ثلاثة أنبياء، ولكل منهم سبب، وهم الخليل وموسى وشعيب عليهم السلام.
أما موسى عليه السلام فلعل من الأسباب؛ ابتداءُ خبرِه بنداء ربه تعالى له فقال جل شأنه: (وإذ نادى ربك موسى)، وهذه التَّقدُمة الهائلة شرَفٌ ما بعده شرف، وبهذا فكأنّه خرج عن هذا العالم إلى عالم الملكوت السماوي الربّاني برفعه لرتبةِ أن يكلّمه الله تعالى بلا واسطة مع وجود الحجاب. وحُقَّ له أن يكون وجيهًا عند الرحمن، (وكان عند الله وجيهًا).
وأما شعيب عليه السلام فلعل ذلك راجع إلى وصف الله تعالى لأمته بأصحاب الأيْكَة، والأيكة: هي الشجر الملتفّ، وهي الغيضة، وقيل إنها من الدّوم (3)، وقيل من المَقْل (4)، فلمّا عبدوا الشجرة من دون الله؛ نسبهم الله إليها، ثم نزّه الله رسوله عن الانتساب إليهم وإليها، صيانة لاسمه عن فعلهم ووصفهم. قال ابن جُزَي رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ }: "لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره، وقيل: إنّ شعيبًا بُعث إلى مدين، وكان من قبيلتهم، فلذلك قال: { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ، هود : 84 ، العنكبوت : 36 ]، وبُعث أيضًا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم، فلذلك لم يقل أخوهم، فكان شعيبًا - على هذا - مبعوثًا إلى القبيلتين.
وقيل: إنّ أصحاب الأيكة مدين، ولكنه قال: (أخوهم) حين ذَكرهم باسم قبيلتهم، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها، تنزيهًا لشعيب عن النسبة إليها". (5)
وفي نفس السياق وذات السورة كذلك ذَكَرَ الله تعالى تكذيب الأمم بأعيانها، فقال سبحانه: (كذبت قوم نوح المرسلين)، (كذبت عاد المرسلين)،(6) (كذبت ثمود المرسلين)، (كذبت قوم لوط المرسلين)، (كذب أصحاب الأيكة المرسلين)، أما إبراهيم عليه السلام فلم يذكر ذلك في قومه، كذلك موسى عليه السلام.
أمّا موسى عليه السلام فلعلّ السبب راجعٌ إلى إرساله إلى أُمَّتَي القبط وبني إسرائيل، فأصالةً لبني إسرائيل، وتبَعًا لمن تيسّر له من الفراعنة، وإن كان هو رسولٌ خاصٌّ بقومه بني إسرائيل، فقد ذكّر القبط بالله تعالى وخوّفهم نِقَمه، كما في دعوته للملأ من قوم فرعون: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين)، وإن كانت هذه في مقام المناظرة والمُحاجّة ليُرسل فرعونُ معه بني إسرائيل، وقال لسحرة فرعون يخوّفهم عقوبة الله للمفترين: (قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى)، وإن كانت هذه مُسبّبة بالسبب الأول كذلك، وقد أسلموا – بحمد الله على يديه -. فرسالته إنما كانت لبني إسرائيل خاصّة كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصّة، وبُعثت إلى الناس عامّة". (7) ولكن لأنّه عالج الأمّتين أشدّ المعالجة، وقد كان لبثُه بينهم، فصار له نوعٌ من دعوة القبط إلى الإسلام، والله أعلم.
أما خليل الرحمن أبو الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والبركة والسلام فله شأن آخر في ذلك كلّه، فابتداء لم ينسبه ربه إلى قومه كبقية إخوته الأنبياء، كما لم يذكر قومه بنفس ذكر بقية الأقوام وتكذيبهم المرسلين، والله أعلم بمراده من ذلك، ولعل من الأسباب أنّه كان أمّة وحده تقتدي به مِن بعدِه جميعُ الأمم برسلهم وأنبيائهم، وإليه تنسب الملّة الحنيفيّة، فهو لهم جميعًا إمامٌ، فهو شيخ الأنبياء وإمام الحنفاء حتى ختم الله أنبياءه ورسله بالنبي الرسول الأمّة الحنيف الخاتم الإمام محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ساد كل من سبقه من الأنبياء والمرسلين، والذي صلّى بجميع الأنبياء إمامًا في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، وقد أخذ الله على جميع الأنبياء والمرسلين عهدًا باتّباعه ولم يستثن في الآية أحدًا، فقال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82). والإصْرُ: هو العهد والميثاق. وقد قال على بن أبى طالب، وابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم: "ما بعث الله نبيًّا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق، لئن بعث محمدًا وهو حيٌّ ليؤمننّ به ولينصرَنَّه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته: لئن بُعث محمد وهم أحياء ليؤمننّ به ولينصرنّه". (8) وعن جابر بن عبد الله رضى الله عنه، أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى رسولَ الله بنسخة من التوراة، فقال: يا رسول الله، هذه نسخة من التوراة، فسكت فجعل يقرأُ ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغيّر، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل، ما ترى بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم! فنظر عمر إلى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لو بدا لكم موسى فاتّبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حيًّا وأدرك نبوّتي لاتّبعني".(9) وكان صلى الله عليه وسلم أشبه الناس بأبيه إبراهيم عليهما السلام خَلْقًا وخُلُقًا. فمحمدٌ مجدِّدٌ لدين إبراهيم وزيادة، صلى الله عليهما وآلهما وسلّم وبارك.
والمقصود؛ أنّ الله تعالى قد وصف الله خليله عليه السلام بقوله: (إنّ إبراهيم كان أمة) فإبراهيم عليه السلام معروفٌ نسبه في أُمّته، وقد بُعث فيهم رسولًا عظيمًا، ولكن لمّا كان إبراهيم عليه السلام بهذه المثابة في التأسّي بمِلّته وإمامته صار انتساب خيارِ الأمم إليه بدلًا من مجرد قومه.
وتأمل كيف طلب الخليل أن يُلحقه الله بالصالحين فقال: (رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين)، والحُكْم هو النبوّة، ولم يُذكر أنْ قد سبقه أصلح منه، فلا أخير منه سوى ابنه رسولنا محمد صلى الله عليهما وسلم، فلاحِظْ تواضعه، ولاحِظْ محبته للصالحين.
وتدبّر وَصْفَ الله تعالى الأممَ القديمة كنوح وعاد وثمود بتكذيب جميع المرسلين، فـ"أل" في المرسلين استغراقية فتعمّ جميع الرسل، وسبب نسبة كفرهم برسلٍ لم يُخلقوا أصلًا إلا بعد قرون من فناء تلك الأمم؛ لأنّ من كَفَرَ بنبيّ واحد فهو كافر بجميع الأنبياء والمرسلين.
ولنمضِ قليلًا في هدايات سورة الشعراء وما فيها من أخبار المرسلين أئمة الراضين بالله رب العالمين، فمن ذلك: تواضع الكليم عليه السلام للحق، فحينما ذكّره فرعون بقتله القبطي بقوله: (وفعلت فعلتك التي فعلن وأنت من الكافرين) وكان المقام مقام حٍجاج وإفحام خصم، لم يتلكّأ عليه السلام أو ينكر أو يحيد بل قال بكل ثبات ورباطة جأش على الحق: (فعلتها إذن وأنا من الضالين). ومن وضوح حجته أن أقرّ بالفعل لكنه لم يقرّ فرعون على وصفه بالكفر، فقد أقرّ على نفسه أنّه لم يُوفّق للصواب بقتله القبطي، وكان قصد فرعون كفر النعمة، ولكن لِعلم موسى عليه السلام أنّ المُنعِم على الحقيقة هو الله تعالى، وأنّ فرعون مجرّد سبب إن شاء الله أمضاه وإن شاء ردّه؛ فلم يكن لفرعون إذلال موسى بذلك، ولمّا أقرّ بالخطأ ولم يتكبّر على الاعتراف به دُهش فرعون بهذا الجواب المليء بالثقة والتواضع. ثم قلبها موسى عليه حينما وسّع ميدان النظر كثيرًا بقوله: (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل)؟! أي هل لأنّك غذوت واحدًا نسيت استعبادك واستسخارك قومه! أهذه نعمة تعدّها مع علمك بأنّك إن وضعت الأمرين في الميزان استبان الفرق لكل ذي عينين.
فلُطم فرعون بذلك لدرجة أن فتح باب التساؤل والمناظرة في الربوبية، فزعم أنّه لا يعرف الله، مع أنّه على يقين من وحدانية الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف عاقبة المفسدين)، فليس مجرد علم بوحدانيّة الله ألوهيّةً وربوبية، بل يقينٌ مستقر في قلوبهم، لكن ردّهم الظلم وإرادة العلوّ في الأرض.
قال فرعون متسائلًا مستبعدًا مكذّبًا: (وما رب العالمين)؟! وهنا تظهر العظمة الرساليّة لموسى عليه السلام، ويتجلّى عظيم صبره، ووافر حلمه، وغزير علمه، وإحكام منطقه، وجميل منطوقه، فقال: (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) موقنين بعقولكم وبالسماء التي تُظلكم والأرض المقلّةِ لكم، فابدؤا بهذه اليقينيات التي تبنون عليها الحجة الدامغة والسلطان العلميّ الواضح، فاستدلّ على وجود الله وربوبيته بمخلوقاته العظام، وهزّ يقينياتهم وحرّكها علّها أن تثور من عقال كفرها وكبرها لفطرتها الأولى وتوحيدها السابق، فهزئ فرعونُ به قائلًا لملئه: (ألا تستمعون)، أي ألا تعجبون للعجب العُجاب من هذا الإنسان الذي يقول كلامًا ليس تحته حقائق. فأجابه الكليم مباشرة مُصرًّا على مبدئه القويم وحجته المستقيمة وبرهانه الساطع، غير آبهٍ بتُرّهات الخصم الذي ذهب لأوديةٍ شتّى من سخرية وتشتيتٍ وإخراجِ محلّ الخلاف عن دائرة تركيز النظر، وكلُّ هذا خلاف ما أقيمت المناظرة لأجله، فقال: (ربكم ورب آبائكم الأولين)، فعاد إليهم بعبارة أشدّ وحجّة أدحض، وخلاصتها: أنّك يا فرعون مربوب لست بربّ، وأنت ولدٌ لآباءٍ سبقوك، إذن فلست بخالق ولا مالك ولا مُدبّر ولا ربّ ولا إله، وكذلك حال الملأ الذين يسمعون هذه المناظرة وحال آبائهم السالفين.
هنا غضب فرعون واشتدّت غطرسته وتيهه وكبره فلجأ إلى حيلة الجهلة ضعفاء العقول والعلوم والنفوس على مرِّ الأزمان، وهي اتّهام المُصلحين في عقولهم وعلومهم وأديانهم، فقال: (إن رسولكم الذي أرسل أليكم لمجنون)! أي: إنه يقول ما لا يعقله العقلاء. وهل استُفزَّ الكليم الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بذلك؟ كلّا، بل كان رابط الجأش، ثابت الفؤاد، شديد الشكيمة، وافر الحلم، رَحْبَ الخُلُق والفطنة والعلم والحكمة، فعاد إلى نفس الحُجّة المباركة، ونفس الهدف الدعويّ الرساليّ، ونفس المعنى المقصود بدعوته أوَّلًا، لكن بعبارات أخرى ومعنًى أوسع، فقال بعدما اتُّهم بالجنون: (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون)، فأراد تحريك ذلك الشيء الجوهريَّ المطمور في غمرات قلوبهم ودفائن رؤوسهم الذي اتهموه بفقدانه وهو العقل، فاستفزّ بقوّةٍ قريحَتهم بقوله: (إن كنتم تعقلون). فإن كنت يا فرعون تتهمني بالجنون؛ فأولى بك أن تتأكد من سلامة عقلك وصحّة ذهنك وملئك كذلك، أمّا هذه المناظرة فهي لإقامة التوحيد لله رب العالمين وحده لا شريك له.
هنا سقطت حجة فرعون في الأرض، وأُسقط في يده، وعاد خاسئًا حسيرًا في مقام الحجاج، فعاد لجُحْرِ أخلاق الجبابرة؛ فأعلن الوعيد بالعذاب لمن خالفه، فقال كقول من سبقه ولحقه من أزواجه وأشباهه وأقرانه: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين). فهل استفزّ ذلك موسى أو أخافه؟ كلّا، لم يستفزَّهُ طيشُه، ولم يهزَّ شيئًا من كيانه ولا قلبه ولا إيمانه ولا يقينه، ولا علمه بربه، ولا تعلّقه به، فكان خوفه من الله لا من غيره، فهو مُحقّق للتوحيد، ومن حقّقه فلا يخاف إلا ربّه، كما قال تعالى في شأنهم: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا).
فلمّا توعّده هذا الطاغية الجبار بالسجن طوى ما مضى من سجلّات الحِجَاج، ثم عرض عليه بألطف أسلوب وأجمل بيان وأحسن أداء وأقرب بلاغ فقال عارضًا مُشدّدًا حازمًا جازمًا: (أولو جئتك بشيء مبين)، فطوى حِجاج المعاني الذهنيّة ليخلي الميدان للبراهين الحسّية، والمعاني الذهنية هي الأقوى لدى العقلاء، لأنها مبنيّة على قطعيّات يقينية مُركّبة على مرّ عمر عقل المرء وتأمّلاته لعلاقة الأشياء ببعضها، وأكثرُ براهين القرآن من ذلك القبيل، فدلائله وبيّناته وتوجيهاته تشحذ القريحة العقلية للنظر والتدبّر والتفكّر، كذكر ابتداء الخلق، وأنّ مَن خلقهم من عدم قادر على بعثهم بطريق الأولى، ثم تُثنّي بحفزِ نَظَراتٍ حسّية لبلوغ مآلاتها العقليّة وغايايتها الذهنية، من التفكّر في عظمة المخلوقات، وكِبَرها، واتّساعها، واتّساقها، وجَودة صنعها، وإحكام تدبيرها ونحو ذلك، وتُردِفها بمثال حسّي نافذٍ للذهن السليم وهو التفكّر في المطر والنبات ومراحله وهشيمه، ومقارنة نبتةِ الزرع ومراحلها بنبتةِ الجنين، وأنّ خالق الاثنين واحد وهو الرب القادر المدبر والإله العظيم العليم، ثم تثلّث بالشعور والعاطفة بالتذكير بالفطرة التوحيديّة الأولى للإنسانية بل للمخلوقات، ثم بعد ذلك بشحن عواطف بني الإنسان بجنة الوعد ونار الوعيد، فتصفو حينها الروحُ من القروح، فتسمُو صعدًا في السماوات، مرتّلة أجملَ آيات التوحيد والإيمان.
وبالجملة؛ فقد أحسن موسى عليه السلام أيّما إحسان في المناظرة بجميع مراحلها، وكيف لا يكون كذلك وهو من هو عليه الصلاة والسلام؟! فقال بعد إتمام المقاصد الذهنيّة الصادقة التي يغلب عليها العقل إلى المقاصد البرهانيّة الواضحة التي يغلب عليها الحسُّ الذي قد استبطنه العقلُ السليم الصحيح، لأنّ ذات البرهان حقيقة محسوسة مشاهَدَة، وليست فقط خيال ذهنيّ صحيح، فهي عند قسمين من الناس أوقع أثَرًا وأفلَجُ نظَرًا؛ وهم أهل كثافة الفهم وزَمَانَة الكبر، وحقيقٌ بفرعون وملئه أن يكونوا منهم. فقال عليه السلام: (أولو جئتك بشيء مبين)، أي: آية حسّية واضحة لكل أحد، غير ما أسلفت لك من الكلام النظري البرهاني الصحيح.
فالقسم الأول من المناظرة مفتقرٌ لقياس عقليّ من قِبَلِ المُناظَر، مع ضميمة ما استودع في فطرته من معانٍ صالحة وأصول توحيدية مستقيمة، وهذا ما رفضة الفراعنة ابتداء فخذلهم الله تعالى لسوءِ مادّتهم، وخبثِ معدنهم، وشرِّ طبيعتهم كما قال تعالى: (سَأصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وإنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وكانُوا عَنْها غافِلِينَ).
أما القسم الثاني فهو ملموس حسّا فيراه المُناظَرُ بجارحة عينه، ويسمعه بأذنه، بل ويلمسه بيده إن شاء، فالأُولى تُدرك بالتأمل والتفكّر والقياس، والثانية بالمشاهدة والسماع والحسّ، فانتقل الكليم عليه السلام من تغليب المعنى لتغليب الحسّ، حتى يُفرَغَ على عدوّ الله كلَّ الحجج الكبار، ويصبّ على بنيانِ أباطيله وابلَ الأحجار، ويُبطل عذره بالجهل، فلا يبقى سوى العناد والاستكبار.. وهو ما كان!
(أولو جئتك بشيء مبين)، واضح على صدق دعوتي، وثبات كلمتي، واستقامة حجّتي، فأجابه الفرعون: (فأت به إن كنت من الصادقين). ولاحِظْ استمرار التكذيب والسخرية من هذا الطاغية الجبار. (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناضرين)، فعاد فرعون لشبهة من سبقه ولحقه من سفهاء الرؤساء فزعم قائلًا: (إن هذا لساحر علين يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره).. الآيات.
وتدبّر ما ورد في قصة فرعون وطبّقها على الطغاة الجبابرة في كل مكان وزمان، إذ بضاعة المفسدين واحدة، وزاملة المبطلين واحدة، وقد قال ربنا تعالى فيهم: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا. فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا)، فتأمل كلام فرعون وهتافه الشقيّ بقوله وهو على سرير غفلته، وعرش طغيانه، وأُبَّهة جبروته، وراحلة خُذلانه، وحفرة سوء منقلبه: (إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون)، فوصف الصالحين والمُصلحين بالشرذمة، والشرذمة: الطائفة القليلة من الناس، وخصّها بعضهم بالحُقراء والأخسَّاء والسّفلة منهم، وقصد بذلك أنهم بمنزلة العبيد والخدم لي ولكم. وذُكر عن مجاهد رحمه الله قال: "هم يومئذ ستّ مئة ألف، ولا يُحصى عدد أصحاب فرعون". ولعل في هذا العدد مبالغة. وأظهر فرعون غيظه وغضبه، وألزم أتباعه بفعل فعلته، ولبس لأمة حرب الصالحين، فقال: (وإنهم لنا لغائظون وأنا لجميع حاذرون)، آخذين أُهبتنا مستعدّين لتدميرهم، فما هي نتيجة ذلك الطغيان: أنها الاستئصال! ولله الأمر من قبل ومن بعد، قد هانوا عليه فخذلهم وعذّبهم، ولو عزّوا عليه لعصمهم وأكرمهم.
قال تعالى: (فأخرجناهم من جنات وعيون . وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل)، فساق الله مال أعدائه لبني إسرائيل، سنة ماضية، وآية باقية، وناموس ثابت: (استكبارا في الارض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أولم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الارض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا).
ومن هدايات سورة الشعراء كذلك أن البلاء موكل بالمنطق، بيان ذلك أن قوم شعيب عليه السلام لمّا كذّبوه وتعنّتوا عليه بقولهم: (ما أنت إلا بشر مثلما وإن نظنك لمن الكاذبين . فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين)، أي قِطَعًا من السماء، فانظر كيف يتحيّنون عذابهم، ويستجلبون هلكتهم بألسنتهم! فأحالهم الرسول الكريم إلى علّام الغيوب ومَن بيده مقاليد الأمور وتصاريف الأقدار قائلًا: (ربي أعلم بما تعملون)، فما ذا كان جواب الله تعالى لهم: (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم). وأخرج ابن المنذر عن السُّدّي قال: "فتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنم، فغشيهم من حرِّه ما لم يطيقوه، فتبرَّدوا بالماء وبما قدروا عليه، فبينما هم كذلك إذ رُفعت لهم سحابة فيها ريح باردة طيّبة، فلمّا وجدوا برْدها ساروا نحو الظُّلّة، فأتوها يتبرّدون بها، فخرجوا من كل شيء كانوا فيه، فلما تكاملوا تحتها؛ طبَّقتْ عليهم بالعذاب"! (10)
وقد فعلت قريش فعلتهم، فلمّا التقى القوم في بدرٍ قال أبو جهل: "اللهم أقطَعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف؛ فأحنه الغداة"، فكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، (11) أي النصر، لكنّه عليكم لا لكم! فأُحنوا وقُتلوا وأسروا وهُزموا، نعوذ بالله من النار وحال أهل النار.
ومن هدايات هذه السورة الجليلة الجميلة: حسنُ الخطاب، ومن ذلك أن الكفرة لما قالوا لنوح عليه السلام: (أنؤمن لك واتبعك الارذلون)، فوصفوا أتباعه بالرذالة والدناءة؛ لم يسكت على الباطل، بل مدح أتباعه فوصفهم بأحسن وصف للإنسان؛ وصف الإيمان، فقال عليه السلام: (وما انا بطارد المؤمنين)، أمّا الكفرة السبابة فقد أعرض عنهم ولم يسبّهم. ولمّا وسموه بالضلالة؛ لم يردّ العدوان بمثله، بل اكتفى بهذا الجمال والبهاء والسكينة والثقة والنصح والشفقة فقال: (يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61) أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون).
وهذا القول الحسن سلوك راسخ في الرسل الكرام، قال سبحانه: (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (24) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم)ـ وتدبر مليًّا قوله الأكرم: ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)، وهذا الأسلوب مفيد جدًّا في المناظرات من جهتين:
الأولى: الأدب وحسن الخطاب وجمال التأتّي، مما يزيل وحشة صدر المخالف، ويُوقِذُ من عَرَامِه، ويكسر من أنَفَتِه، ويقرّبه بعد البعاد.
الثانية: قوّة الإلزام، وسطوة الحجاج، وسطوع البرهان، وشدّة الإلجاء المُبعِد غشاوة الحَيْدَات ومهارب الإلزامات.
وقد ختم ربنا تعالى سورة الشعراء بذكر غواية الشعراء! وكثير منهم من أبعد الناس عن مواطن الرضا، بل إنّ كثيرًا من تسخّط البشر إنّما يأتي على أفواههم، ويجري على ألسنةِ أبياتهم، فيسبّون الدهر والزمان والأيام، ويسيرُ سبُّهم وتسخّطهم بين العالمين مسير الشمس، فيتبعهم الناس ويتناقلون سخطهم وجزعهم وسبّهم للدهر، لِمَا ظنّوه من حكمتهم إذ أرسلوا أبياتهم فذاعت، وبين الناس قد طارت، قال سبحانه: (والشعراء يتبعهم الغاوون)، نعوذ بالله من الغواية عن الهداية، ومن الجهل بعد الحلم، ومن الحَوْر بعد الكور، وكفى بحرمانهم من التعرّف على أعظم وأجمل وأحقّ مطلوب خسارةً وغبنًا، فالعلم بالله هو أشرفُ وأجملُ وألذُّ العلوم بإطلاق. وقد ذكر الله تعالى في ذات السورة – الشعراء- جزاء الغاوين فقال: (وبرزت الجحيم للغاوين).
ولكن من اتقى الله في شعره فهو عن الغواية بمعزل، وللهداية بالمُرتقى، وللجهاد للذروة برمي سهام قصيدِه في أعين الكفرة وقلوبهم وأكبادهم، وفي بناء معاني الصلاح بالأبيات الهادية، وتنشئةِ مرابع الاستقامة بالأبيات القويمة، ورَفْدِ محاضن التربية بالقريض النافع، وتسهيلِ علوم الشريعة بنظمها للراغبين، وترقيقِ القلوب بأبيات الحنين والشوق للدار الآخرة، وما يتبع ذلك من الصالحات، والحمد لله رب العالمين. فلقد قال سبحانه مستثنيًا أولئك: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). وقد أيّد الله حسانًا في شعره بروح القدس، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اهجُوا قريشًا، فإنّه أشدُّ عليها من رَشْقِ النَّبل". فأرسل إلى ابن رَوَاحةَ، فقال: "اهّجهُمْ"، فلم يُرْضِ، فأرسلَ إلى كعب ابن مالك فلم يُرْضِ، ثم أرسل إلى حسان بن ثابت، فلما دخل عليه قال حسانُ: قد آن لكم أن تُرْسِلوا إلى هذا الأسدِ الضَّاربِ بِذَنَبِهِ، ثم أدْلَعَ لسانه، فجعل يُحرِّكُه، فقال: والذي بعثك بالحق، لأفرينَّهُمْ بلساني فرْيَ الأديم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَعْجلْ، فإن أَبا بكر أعلمُ قريش بأَنسابها، وإن لي فيهم نَسَبًا، حتى يُخْلَصَ لك نسَبي". فأتاه حسان، ثم رجع، فقال: والذي بعثك بالحق، لأسُلَّنَّكَ منهم كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، قالت عائشة رضي الله عنها: فسمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان: "إن رُوحَ القُدُس لا يزال يُويِّدُكَ ما نَافحتَ عن الله ورسوله". وقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هَجاهُم حسان، فشَفى واشْتَفى". فقال حسّان:
هَجَوْتَ محمدًا فأجبْتُ عنه ... وعندَ الله في ذاكَ الجَزَاءُ
هَجوتَ محمدًا برّاً تقيًّا ... رسولَ الله شيمتهُ الوَفَاءُ
فإن أَبي وَوَالدَهُ وعِرضي ... لِعِرْضِ محمد منكم وِقَاءُ
عدِمنا خيلنا إن لم تَرَوْهَا ... تُثِيرُ النَّقْعَ من كَنَفي كَداءُ
يُبَارِينَ الأعنَّةَ مُصْعِدَات ... على أَكتافِها الأسَلُ الظِّماءُ
تَظَلُّ جِيَادُنا مُتَمَطِّرَات ... تُلَطِّمُهُنَّ بالْخُمُرِ النِّسَاءُ
فإنْ أَعْرَضْتُمُ عنا اعْتَمَرنا ... وكَان الفَتْحُ وَانكَشَف الغِطَاءُ
وإلا فَاصْبِرُوا لِجِلادِ يَوْمٍ ... يُعِزُّ الله فيه من يشاءُ
وقال الله قد أرْسَلْتُ عبدًا ... يقولُ الحقَّ ليس به خفاءُ
وقال الله قد يَسَّرتُ جندًا ... هُمُ الأنصارُ عُرْضتها اللِّقَاءُ
لنا في كلَّ يوم من مَعَدٍّ ... سِبَابٌ أَو قتالٌ أو هِجاءُ
فَمَنْ يَهْجُوا رَسولَ الله منكم ... ويَمدَحُه وَينصُرُهُ سَوَاءُ
وجبريلٌ رسولُ الله فينا ... وروُحُ القُدْسِ ليس له كِفاءُ" (12)
فهنيئًا لأبي الوليد ما شفى من صدر الحبيب صلى الله عليه وسلم. ومن منافحته عن رسول الهدى صلوات الله عليه وسلامه وبركاته. ولما أُنشدَتْ قريش شعر حسان قالت: إن هذا الشتم ما غاب عن ابن أبي قحافة! لعلمهم بتفوّقه في الأنساب والأيام والأخبار. وجعل بعضهم يقول: "لقد قال أبو بكر الشعر بعدنا". وفي المستدرك بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما وصححه، قال: لما دخل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة رأى النِّسَاء يلطمن وُجُوه الْخَيل بِالْخمرِ، فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أبي بكر فَقَالَ: "كَيفَ قَالَ حسان بن ثَابت يَا أَبَا بكر"؟ فأنشده أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ:
عدمتُ بنيّتي إِن لم تَرَوْهَا ... تُثيرَ النَّقْعَ من كَتِفي كداء
ينازِعْن الأعِنَّةَ مشعفات ... تُلطّمهن بِالْخمرِ النِّسَاء
فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من حَيْثُ قَالَ حسان". فَدخل رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كداء أَعلَى مَكَّة. (13)
وورد أنّ حسّانًا رضي الله عنه حينما جاء لمفاخرةِ تميمٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام؛ أخرج لسانه فضرب به أَرنبة أَنفه، وقال: "والله يا رسولَ الله؛ إنّه ليخيّل لي أنّي لو وضعته على حَجر لفَلَقَهُ، أو على شَعَر لحَلَقَهُ". (14) وفي الصحيح عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع لحسان منبرًا في المسجد، يقوم عليه، فإما يُفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما يُنافح. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله". (15)
وفي الترمذي أن عائشة رضي الله عنها سُئلت: هل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَمثَّل بشيء من الشِّعْر؟ قالت: كان يتمثَّلُ بِشِعْرِ ابنِ رَواحَة، وَيَتَمثَّلُ ويقول: "ويأتيكَ بالأخبَارِ مَن لم تُزَوِّد". (16) وروى البخاري (17) عن أبي هرَيرة رضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه كَان يَقُول فِي قصصه يذكر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: "إِن أَخًا لكم لَا يَقُول الرَّفَث". (18) قال:
وَفينَا رَسُولُ الله يَتْلُو كِتَابه ... إِذا انشقَّ مَعْرُوفٌ من الْفجْر سَاطِعُ
أرانا الْهدى بعد الْعَمى فَقُلُوبنَا ... بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنّ مَا قَالَه وَاقعُ
يبيت يُجَافِي جنبه عَن فرَاشه ... إِذا اسْتَقَلّت بالكافرين الْمضَاجِعُ
ويُذكر أن ابن رواحة أنشد أبياته هذه لما غاضبته امرأته حينما رأته خارجًا عن جاريته، واتهمته بجماعها فأنكر. فقالت: إذن فاتلُ من القرآن (19) فاحتال بأن أنشدها الأبيات الآنفة، فزال ما بها.
وخرَّج مُسلم (20) عَن عَمْرو بن الشريد عَن أَبِيه قَال: أردفني رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: "هَل مَعَك من شعر أُميَّة بن أبي الصَّلْت شَيْء"؟ قَالَ: نعم. قَالَ: "هيه". قَالَ: فَأَنْشَدته بَيْتا فَقَالَ: "هيه". قَالَ: فَأَنْشَدته حَتَّى بلغت مئَة بَيت. وَفِي رِوَايَة أنشدت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة قافية من قَول أُميَّة بن أبي الصَّلْت كل ذَلِك يَقُول: "هيه، هيه". ثمَّ قَالَ: "إِن كَاد فِي شعره ليُسْلِم".
وقد كان يهجو المشركين ثلاثةٌ من الأنصار؛ حسانُ بن ثابت، وكعبُ بن مالك، وعبدُ الله بن رواحة. فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويعيّرانهم بالمثالب، ويرميهم كعب بتخويفهم بالحرب، ويثلمهم حسان بالقدح في أنسابهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيّرهم بالكفر. فكان في ذلك الزمان أشدّ القول عليهم قول حسان وكعب، وأهون القول عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان شعر ابن رواحة أشدّه عليهم.
وعند الشيخين عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله؛ هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان؛ أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم أيّده بروح القدس"؟ قال أبو هريرة: نعم". (21) وعن سعيد بن المسيب، أن عمر مرّ بحسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر به عمر فلَحَظَهُ، (22) فقال حسان: قد أنشدتُ فيه من هو خير منك. (23) فانطلق عمر. (24) وخبر المفاخرة مع بني تميم في عام الوفود من السنة التاسعة يُظهر منزلة الشعر والخطابة في العهد النبوي، وأصل الخبر عند ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما بأسانيدهما، وجيّدٌ سياق أبي الفرج في أغانيه بسنده عن محمد بن الضحاك عن أبيه.
ومن مآثر الشعر ما ذكره ابن سيرين رحمه الله بقوله: بلغني أنّ دَوسًا إنما أسلمتْ فَرَقًا من كعب بن مالك صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم حيث يقول:
قَضينا من تِهامة كُلّ رَيْبٍ ... وخَيْبرَ ثم أَجْمَمْنا السيوفَا
نُخيِّرُها ولو نَطقتْ لقالت ... قواضبُهنَّ دَوْسًا أو ثَقِيفًا
وفي التاريخ الكبير للبخاري (25) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن مالك : "أيا كعب؛ ما نسيَ ربُّك -وما كان ربك نسيًّا- بيتًا قلتَهُ". قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: "أنشِده يا أبا بكر" فأنشده أبو بكر:
زعمتْ سَخِينَةُ (26) أنْ ستغلب رَبَّها ... ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلاّبِ
وذكر ابن عبد ربه في عَقْدِه (27) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن رَواحة: "أَخْبرني ما الشعرُ يا عبد الله"؟ قال: شيءٌ يَختلجُ في صَدْري فيَنطق بهِ لساني. قال: "فأَنْشِدني" فأَنشده شعره الذي يقول فيه:
فثبَّت الله ما آتاك مِنْ حَسَنِ ... تثبيتَ موسى ونصرًا كالَّذي نُصِروا
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "وإياك ثَبَّت الله، وإياك ثَبّت الله". فثبّته الله حتى مات شهيدًا.
وكان الذي هاج فتْح مكة أنّ عمرو بن مالك الخْزاعِيّ، أحدَ بني كَعب، خَرج من مكة حتى قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكانت خُزاعة في حِلْف النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي عهده وعَقْده، فلمّا انتقضت عليهم قريش بمكة وأصابوا منهم ما أصابوا، أقبل عمرو بنُ مالك الخُزاعيّ بأبيات قالها. فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال (28):
يا رب إنّي ناشدٌ مُحمدًا ... حِلْفَ أَبينا وأَبيه الأتْلدَا
قد كنتُم وُلْدًا وكُنّا وَلدًا ... ثمّت أسلمنا فلم ننزع يدا
إنّ قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكّدا
وجعلوا لي في كَداءٍ رَصدًا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا
وهم أذلّ وأقل عددًا ... هُم بيّتونا بالوتير هُجَّدا
وقَتّلونا رُكعّا وسُجّدا ... فانصرُ هَداك الله نَصْرًا أَيِّدا
وأدْع عبَاد الله يأتوا مَدَدًا ... فيهِم رسولُ الله قد تجرّدا
إنْ سِيم خَسْفًا وجهُه تَربّدا ... في فَيْلق كالبَحر يَجْري مُزْبدا
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "نُصرت يا عمرو بن سالم". ثمَّ عَرض عارضٌ من السماء، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه السحابة تستهلّ بنَصْر بني كعب". (29)
هذا؛ ولقد كان الشعر ميسورًا على سليقة العرب وسجيّتهم وصفاء قريحتهم، وقال سعيد بن المُسيِّب: كان أبو بكر شاعرًا، وعُمر شاعرًا، وعليُّ أشعرَ الثلاثة. ولما نظم حسان قوله:
نسوِّدُ ذا المالِ القليلِ إذا بدتْ ... مروءتهُ فينا وإنْ كانَ مُعدَما
أعجب به، فصعد أطمةً، ونادى: واصاحباه، فاجتمع قومه إليه، وقالوا: ما وراءك؟ فأنشدهم البيت!
وقال أنس بن مالك خادمُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: قَدِم علينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وما في الأنصار بيت إلاّ وهو يقول الشعر. قيل له: وأنتَ أبا حمزة؟ قال: وأنا. (30)
وأعظم الناس رضًا برب الناس هو خير الناس محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان المثل البشريّ الأعلى للرضا بالمولى الحق سبحانه وبحمده، وتأمل سيرته العطرة، وكيف كان حاله الكامل الشريف مع طوارق المحن، وترادف الشدائد والفتن، وضغط الصعوبات، وموت الناصر من القرابات، وقلّة المعينين من البشر والمُعينات، فأطبقت على كاهله الشديدات؛ ولكن كل ذلك لا شيء بالنسبة لرضاه عن رب البريّات، ومالك الأرض والسماوات، وقاضي الأمر والحاجات، (إلا تنصروه فقد نصره الله)، (والله يعصمك من الناس)، (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه)، (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي)، (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، (أمن يجيب المضطر إذا دهاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون)، (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا).
لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم نسيج وحده في كل كمالات الصفات اللائقة بالبشر، فما من خلق إلا وقد حاز كماله، لقد خلقه الله تعالى وهيّأه لأعلى المنازل وأسمى الرتب، فجلّله بأكمل الفضائل وأجمل السجايا حتى كان خلقه القرآن، (وإنك لعلى خلق عظيم)، فأيُّ شَرَفٍ فوق هذا الشرف، وأيُّ مديحة تعلوه، فصلوات الله وسلامه وبركاته وملائكته والصالحون من عباده عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، صلاة دائمة متعاقبة لا تنقطع على مرّ الدهور والأزمان. (31)
أنْتَ الَّذِي لَمّا رُفِعْتَ إلى السَّما ... بِكَ قَدْ سَمَتْ وتَزَيَّنَتْ لِلِقاكا
نادَيتَ أشْجارًا أتَتْكَ مُطِيعَةً ... وشَكا البَعِيرُ إلَيْكَ حِينَ رَآكا
والماءُ فاضَ بِراحَتَيْكَ وسَبَّحَتْ ... صُمُّ الحَصى للهِ في يُمْناكا
والجِذعُ حَنَّ إليكَ حِينَ تَرَكتَهُ ... وعلى سِواهُ أُوقِفَتْ قَدَماكا
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وخُلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق. وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله، فيعفو عن حقّه ويستوفي حقّ ربه.
والناس في الباب أربعة أقسام: منهم من ينتصر لنفسه ولربه، وهو الذي يكون فيه دين وغضب. ومنهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه، وهو الذي فيه جهل وضعف دين. ومنهم من ينتقم لنفسه لا لربه، وهم شر الأقسام. وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحقّ الله ويعفو عن حقّه، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: "خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قط. وما قال لي لشيء فعلتُه: لم فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: "دعوه، لو قُضي شيء لكان".(32) (33) فقد كان صلى الله عليه وسلم تجسيدًا للرضا بالله تعالى، فمهما ابتلي في دنياه وجسده وروحه وأحبابه وأصحابه فإنه ثابت الجنان في الرضا، راسخ الفؤاد فيه، لا تزيده الخطوب إلا رضًا عن ربه ويقينًا به، وعبودية حقّةً له.
وإنّ من أعظم خَلْقِ الله رضًا بالله خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام والبركات، فهو بحق أنموذج كامل للرضا بالله تعالى بعد نبينا محمد صلى الله عليهما وسلم، ومن تأمل سيرته الشريفة وما مرّ به من أهوال تتضعضع دون بعضها أعظم قلوب الرجال، ويتقاصر دونها صبرهم، ويبعُد رضاهم، وينزوي حمدهم؛ نراه في ذلك كله بحرًا واسعًا ساكنًا تذوب فيه كل بليّة، وتذوي فيه كل عاصفة، وينكسر أمام عظمة دينه وإيمانه وتقواه كلّ شيطان مريد.
قال شيخنا محمد المختار الشنقيطي حفظه الله تعالى: "هذا نبيُّ الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أوذي في الله فصبر، فجمع له قومه ذلك الوادي العظيم من النار، حتى إذا تأجّج ذلك الوادي بناره، واصطلى بجحيمه وسعيره، أُلقي عليه الصلاة والسلام، حتى إذا صار مقبلًا على ذلك البلاء العظيم، مسلّمًا لله عز وجل فيما ابتلاه، فلما قدم قال له جبريل: هل لك من حاجة؟
ذلك المَلَك الذي لو أذن الله له لخسف الأرض ومن عليها بجناحه، قال: يا إبراهيم؛ هل لك من حاجة؟ قال: "أما إليك فلا، وأما إلى الله، فحسبي الله ونعم الوكيل"، فقال الله تعالى: { يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء:69] قال بعض العلماء: "لو قال الله يا نار كوني برْدًا لأهلكته من بردها" (34)، ولكن قال: { كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ }. [الأنبياء:69]
ثم خرج عليه الصلاة والسلام طريدًا عن قومه، مهانًا من عشيرته، وحيدًا لا مال لا بنون لا إخوة لا أصحاب لا أحباب، فخرج من داره مؤذًى في الله مضطهدًا، فلما ولّى وجهه قال عليه الصلاة والسلام: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات:99-100] فخرج من دار فعوّضه الله أطهر من الدار التي خرج منها، عوّضه الله الأرض المقدّسة، وجعل ذريته ذرية النبوة والصلاح، وجعل فيها ميراث الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك باليقين بالله. فكل إنسان أصابته مصيبة فعلم أنه لا ينجيه منها إلا الله عز وجل فرَّج الله همّه وغمّه.
ثم أمره الله تبارك وتعالى أن يخرج بهاجر مع صبيها ورضيعها، أن يخرج من دارٍ كلها جنات وأنهار إلى دارٍ لا ماء فيها ولا أشجار، فجاء فوضعها في ذلك الوادي الذي لا أنيس فيه ولا جليس، فتعلقت به تلك المرأة المفجوعة، وقالت: يا إبراهيم، إلى من تدعنا؟! فولى وجهه عليه الصلاة والسلام قبل الدابة، فتعلقت به ثانية وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ امرأة ضعيفة وصبي ضعيف ليس معهم أحد، تقول له وتتعلق به: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فلما كانت المرة الثالثة، تعلقت به وألحّت فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟! فقال: "لله"، فقالت: إذًا لا يضيعنا الله، ورجعت إلى صبيها وقلبها كله يقين بالله تبارك وتعالى، فتولى عليه الصلاة والسلام، حتى إذا نزل في الوادي وتغيب عن نظرها رفع كفه إلى الله فقال: { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]
الله أكبر! إلى يومنا هذا والقلوب تحنّ وتئن إلى رؤية البيت العتيق، إلى يومنا هذا والنفوس تشتاق إلى رؤية البيت العتيق، فلما جلست تلك المرأة المفجوعة مع صبيها، وعاينت ما هي فيه من البلاء، جاءت تلك الساعة التي صاح فيها الصبي يطلب الماء، وعندها خرجت لكي تلتمس الأسباب، فرقت على الصفا فصاح صبيها فلم تر أحدًا، ثم مضت إلى المروة وتعلّقت بالله عز وجل تدعوه وترجوه، حتى إذا كانت المرة السابعة؛ أبى الله إلا أن يفرّج همّها بالصبي نفسه، فجعل تفريج الكرب من تحت قدم الصبي الذي دحس برجله الماء! من أيقن بالله تعالى جعل الله فرجه في نفسه قبل أن يكون بعيدًا عنه". (35)
ومن أخبار الراضين بالله تعالى خبر آل إبراهيم عليه السلام، كأمّنا هاجر رضي الله عنها، وكذا ما ورد في قصة إسماعيل وأبيه عليهما السلام وزوجتيه. فعن سعيد بن جبير رحمه الله قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أوّلُ ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقًا (36) لتُعفي أثرها على سارة، ثُمَّ جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثُمَّ قفّى (37) إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم؛ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها (38) فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيّعنا (39).
فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنيّة (40) حيث لا يرونه (41)؛ استقبل بوجهه البيت (42) ثمَّ دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه، فقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
وجعلت أم إسماعيل تُرضع إسماعيلَ، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت، وعطش ابنها (43)، وجعلت تنظر إليه يتلوّى (44)، أو قال: يتلبّط. (45) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثُمَّ استقبلت الوادي، تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرَف دِرْعَها (46)، ثُمَّ سعت سعي الإنسان المجهود (47)، حتى جاوزت الوادي، ثُمَّ أتت المروة، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما"، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه - تريد نفسها - ثُمَّ تسمّعت فسمعت أيضًا فقالت: قد أسمعتَ إن كان عندك غواث (48). فإذا هي بالمَلَك (49) عند موضع زمزم، فبحث بعَقِبِه، أو قال: بجناحه حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه، (50) وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لولم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعِينًا". (51) قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك: لا تخافوا الضَّيْعة، (52) فإن هاهنا بيت الله، يَبنِيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضَيِّعُ أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية (53)، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرَّتْ بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كَدَاء، (54) فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرًا عائِفًا (55)، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء؛ لَعهدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء! فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّيْن (56)، فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا، قال: وأُمُّ إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ (57) فقالت: نعم، ولكن لا حقَّ لكم في الماء (58) قالوا: نعم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأُنْس"، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشبَّ الغلامُ (59)، وتعلّم العربيَّة منهم، وأنفَسَهم (60) وأعجبهم حين شبَّ، فلما أدرك زوّجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل، يطالع تَرِكَتَهُ (61)، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا (62). ثُمَّ سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرٍّ، نحن في ضيق وشدّة، فشكت إليه. (63)
قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يغيّرُ عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنسَ شيئًا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم. جاءنا شيخ، كذا وكذا، فسألَنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدّة، قال: فهل أوصاك بشيء (64)؟ قالت: نعم ؛أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غيّر عتبةَ بابك. قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلّقها، وتزوج منهم أخرى.
فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثُمَّ أتاهم بعْدُ، فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله (65). فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذٍ حبّ (66)، ولو كان لهم دعا لهم فيه"، قال: "فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلاَّ لم يوافقاه". (67) قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يثبّت عتبة (68) بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه (69)، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبّت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العَتَبَة، أمرني أن أمسكك.
ثُمَّ لبث عنهم ما شاء الله. ثُمَّ جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة (70) قريبًا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثُمَّ قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا، وأشار إلى أَكَمَة مرتفعة على ما حولها (71)، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر (72)، فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }. قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم )". (73)
ومن أعظم الراضين بالله رب العالمين، الصادقين في دعواهم، الشاكرين في بلواهم، نبي الله أيوب عليه السلام، الذي قد ضرب الناس به المثل في الصبر والرضا بما قدّره الله تعالى عليه (74). قال الشنقيطي حفظه الله تعالى: "نبي الله أيوب عليه السلام مكث طريح الفراش أكثر من سبع سنين، كان ذا مال وثروة ونعمة وجاه، قال إبليس: اللهم سلطني على عبدك أيوب، فسلطه الله على ماله فأحرق جميع ماله، فلما رأى ذلك البلاء في ماله قال: الحمد لله، حمد الله تبارك وتعالى، وقال في كلام معناه: اللهم وهبتني المال، وأنعمت علي بالمال حتى شغلني عن ذكرك، فها أنت قد فرّغتني لذكرك وشكرك، فلك الحمد رب العالمين!
رضي عن الله تبارك وتعالى، وشاء الله تبارك وتعالى أن لا يبقى البلاء عند هذا، وإذا بذلك العدو يسأل الله أن يسلطه على أهله وولده، وشاء الله تبارك وتعالى أن يُمكّنه من ذلك، ففقد فلذات كبده وفقد أهله واحدًا تلو الآخر حتى فجع بهم جميعًا إلا زوجةً واحدة، بقيت هذه الزوجة مع ذلك النبي المصاب، ومع ذلك العبد المبتلى تواسيه وتسلّيه، فقال عليه الصلاة والسلام: الحمد لله رب العالمين، وشكر الله على البلاء الذي أصابه، فقال إبليس عليه لعنة الله: اللهم سلطني على نفسه، فقال: لك كل شيء إلا لسانه وقلبه، فبقي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفتر له لسان عن ذكر الله تبارك وتعالى، ولا يمكن أن يفتر له جنان عن حسن الظن بالله تبارك وتعالى.
تولّى عنه الناس حتى أصبح أنتن ما يكون رائحة، وتركوه إلى جوار المزابل -كما ورد في الأخبار- ولم يبق معه إلا زوجته التي بقيت معه تهتم به، فلما بلغ به الأذى مبلغه، وأصابه ما أصابه من الضر والبلاء؛ عندها تذكر الله تبارك وتعالى، وأحس بعظيم البلاء الذي يجده، فقال الله تعالى يصور ساعة اليقين من ذلك القلب الموقن: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } [الأنبياء:83-84] ولما أراد الله أن يفرج كربه أمره بكلمةٍ واحدة { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } [ص:42] ما أمره أن يقوم وما أمره أن يذهب إلى أحد، وما أمره أن يسأل أحدًا أن يفرّج كربه، ولكن أمره بأمر واحد: { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ } [ص:42] فجعل تفريج كربه من تحت قدمه، فلا إله إلا الله رب العالمين!
في طرفة عين تفجّرت العين، ثم اغتسل منها؛ فما بقي به مرض في جسده، وما بقيت به عاهةٌ في بدنه، فقام عليه الصلاة والسلام قويًّا سويًّا من لحظته وساعته، الله أكبر! ما أيقن أحد بالله فخاب في يقينه، ولا رجاهُ أحد فخاب في رجائه.
ثم أعاد الله تبارك وتعالى عليه أهله وذريته، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "أعاد إليه الأهل والذرية بأعيانهم، فردّ عليه الزوجات وردّ عليه الأبناء والبنات، ثم ردّ عليه أضعاف ما كان فيه من النعمة". (75)". (76)
ومن أئمة الراضين بالله تعالى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو أول من دافع عن رسول الله ﷺ، فلما أراد المشركون أن يضربوا رسول الله ﷺ أو يقتلوه بمكة دافع عنه الصديق طاقته فضربوه حتى كادوا أن يقتلوه، فعن عروة بن الزبير قال سألت عبد الله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله ﷺ، قال: "رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي ﷺ وهو يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه فقال: (أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)" (77). وفي حديث أسماء رضي الله عنها: "فأتى الصريخُ (78) إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك. قالت: فخرج من عندنا وله غدائر أربع (79)، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله. فلهَوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا رجع معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام". (80) فتأمل طمأنينته بالله ورضاه عنه وهو يثني عليه وهو في حاله هذا.
وعن علي رضي الله عنه قال: "لقد رأيت رسول اللَّه ﷺ وأخذته قريش، فهذا يحادّه، وهذا يتلتله (81)، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فواللَّه ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويُجاهد هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلا أن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾، ثم رفع عليٌّ بردةً كانت عليه، ثم بكى حتى اخضلّت لحيته، ثم قال علي: أنشدكم اللَّه، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم. ثم قال: ألا تجيبوني؟ فواللَّه لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه". (82)
وتأمل هذا الموقف الهائل المليء بالفداء والمحبة والرضا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "لما أسلم أبو بكر قام خطيبًا، فكان أول خطبته دعا إلى الله ورسوله، فثار المشركون على أبي بكر، فضربوه ضربًا شديدًا، ودنا منه عتبة بن ربيعة وجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويحرّفهما بوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يُعرف أنفُه من وجه.
فجاءت بنو تيم فحملت أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، لا يشكّون في موته، وجعل أبوه وبنو تيم يكلّمونه، فأجابهم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله ﷺ؟ فنالوا منه بألسنتهم وعذلوه وفارقوه، فلم يزل يسأل عن رسول الله ﷺ حتى حُمل إليه، فأكبَّ عليه رسولُ الله ﷺ يقبّله، ورقّ عليه رسول الله ﷺ رِقّة شديدة، فقال أبو بكر: يا رسول الله هذه أمي، وأنت مبارك، فادع لها، وادعها إلى الإسلام، لعل الله أن يستنقذها بك من النار. فدعا لها رسول الله ﷺ ودعاها إلى الله تعالى فأسلمت" (83). وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ( يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية ). قال: نزلت وأبو بكر جالس، فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا، فقال: "أما إنّه سيقال لك هذا". (84)
وسُمِّيتَ صِدِّيقًا وكُنْتَ مُهاجِرًا … سِواكَ يُسَمّى بِاسْمِه غَيْر مُنْكَرٍ
وبِالغارِ إذا سُمِّيتَ بِالغارِ صاحِبًا … وكُنْتَ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ المُطَهَّرِ
سَبَقْتَ إلى الإسْلامَ واللهُ شاهِدٌ … وكُنْتَ جَلِيسًا بِالعَرِيشِ المُشَهَّرِ
وحين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزلزل عقله هذا الخطب المهول، بل ثبت قلبه في جبل الرضا بالله تعالى، فسلّم أمره لله رب العالمين، فلما أتاه الخبر أقبل على فرس من مسكنه بالسُّنح، حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يُكلّم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمّم رسول اللَّه ﷺ وهو مُغَشَّى (85) بثوب حِبَرَة، فكشف عن وجهه، ثم أكبّ عليه فقبّله وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، واللَّه لا يجمع اللَّه عليك موتتين، أما الموتة التي كُتبتْ لك فقد مُتَّها، ثم خرج أبو بكر - وعمر يُكلم الناس - فقال: أيها الحالف على رسْلِك، وقال: اجلس يا عمر، فأبي عمر أن يجلس، فلما تكلم أبو بكر أقبل الناس إليه وتركوا عمر، فجلس عمر رضي الله عنه فحمد اللَّه أبو بكر وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا ﷺ قد مات، ومن كان منكم يعبد اللَّه فإن اللَّه حي لا يموت، قال اللَّه تعالى : ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن يَنقَلِبْ عَلىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وسَيَجْزِي اللَّهُ الشّاكِرِينَ}. فواللَّه لكأنّ الناس لم يكونوا يعلمون أن اللَّه أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه. وقال عمر: واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعُقِرْتُ حتى ما تُقلّني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي ﷺ قد مات. وقال الراوي: فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، ونشج الناس يبكون. (86)
لا يلبث الأحبابُ ان يتفرّقوا ... ليلٌ يكرُّ عليهم ونهارُ
صلّى الملائكةُ الذين تُخُيِرُوا ... والطيبون عليك والأبرارُ
ولا يمكن احتمال هذا الخطب الثقيل المزعزع الجسيم إلا لمن امتلأت نفسه بالرضا عن الله تعالى، فدار مع أمره وقضائه حيث دارا، فالتنظير والتأطير والقول يسيرٌ على الناس، ولكن حينما تحقّ الحقائق، وتجثم الخطوب، وتتزلزل أفئدة الرجال؛ حينها يظهر الراضي التامّ حقًّا وصدقًا.
ولقد كان عمر رضي الله عنه من سادة الرضين بالله تعالى، وكان يكثر من حمد الله على البلاء، فلما سُئِل عن ذلك قال: "ما أُصبت ببلاءٍ إلاَّ كان لله عليَّ فيه أربع نعم: أنَّه لم يكن في ديني، وأنَّه لم يكن أكبر منه، وأنِّي لم أُحْرَم الرضا والصبر، وأنِّي أرجو ثواب الله تعالى عليه".
هذا وإن من سادة الراضين بالله تعالى الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنهما، المبرأةُ من فوق سبع سماوات، التي جعلها الله فرقانًا بين أهل الإيمان والإحسان والسنّة وأهل النفاق والرفض والبدعة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن تأمل قول الصديقة وقد نزلت براءتها فقال لها أبواها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله؛ عَلِمَ معرفتها وقوة إيمانها وتوليتها النعمة لربها، وإفراده بالحمد في ذلك المقام، وتجريدها التوحيد، وقوّة جأشها، وإدلالها ببراءة ساحتها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصلح الطالب له، وثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها. قالت ما قالت إدلالًا للحبيب على حبيبه، ولا سيّما في مثل هذا المقام الذي هو أحسن مقامات الإدلال، فوضعته موضعه. ولله ما كان أحبّها إليه (87) حين قالت: "لا أحمدُ إلا الله، فإنه هو الذي أنزل براءتي". ولله ذلك الثبات والرزانة منها، وهو أحبّ شيء إليها، ولا صبر لها عنه، وقد تنكّر قلب حبيبها لها شهرًا، ثم صادفت الرضا وقربه، مع شدة محبتها له، وهذا غاية الثبات والقوة". (88)
إن الرضا بالله تعالى قد اختلط بأرواح الصحابة رجالًا ونساءً، وكل مصاب بين أعينهم يصغر إزاء مصيبة الدين بفقد الرسول صلى الله عليه وسلم، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «مرَّ رسول الله ﷺ بامرأة من بني دينار، وقد أُصيب زوجها وأخوها وأبوها (89) مع رسول الله ﷺ بأحد، فلما نُعُوا لها، قالت: فما فعل رسول الله ﷺ؟ قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه؟، قال: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل! تريد صغيرة». (90)
ومن جميل الأخبار لأهل الرضا واليقين خبر جابر وأبيه وزوجه رضي الله عنهم، فقد روى الإمام أحمد بسنده في مسنده (91) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى المشركين ليقاتلهم، وقال لي أبي عبد الله: يا جابر، لا عليك أن تكون في نَظَّارِي (92) أهلِ المدينة، حتى تعلم إلى ما يصير أمرنا، فإني والله لولا أني أترك بنات لي بعدي، لأحببت أن تقتل بين يديّ (93). قال: فبينما أنا في النظّارين إذ جاءت عمّتي بأبي وخالي، عادِلَتَهُما على ناضح (94)، فدخلَتْ بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا، إذ لحق رجل ينادي: "ألا إنّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمركم أن ترجعوا بالقتلى، فتدفنوها في مصارعها حيث قُتلت"، فرجعنا بهما فدفنّاهما حيث قُتلا، فبينما أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان؛ إذ جاءني رجل فقال: يا جابر بن عبد الله، والله لقد أثار أباكَ عُمّالُ معاوية (95)، فبدا فخرج طائفةٌ منه، فأتيتُه فوجدته على النحو الذي دفنته، لم يتغيّر إلا ما لم يدع القتل، (96) فواريتُه. (97) قال: وترك عليه دينًا من التمر، فاشتدّ عليّ بعض غرمائه في التقاضي، فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله، إن أبي أصيب يوم كذا وكذا، وترك عليه دينًا من التمر، وقد اشتدّ عليّ بعض غرمائه في التقاضي، فأحبُّ أن تعينني عليه لعلّه أن يُنظرني طائفةً من تمره إلى هذا الصِّرام المقبل (98)، فقال: "نعم، آتيك إن شاء الله قريبًا من وسط النهار"، وجاء معه حوارِيُّوه (99)، ثم استأذن، فدخل وقد قلت لامرأتي: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءني اليوم وسط النهار، فلا أرينّك، ولا تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي بشيء، ولا تكلّميه، فدخل ففرشت له فراشًا ووسادة، فوضع رأسه فنام، قال: وقلت لمولى لي: اذبح هذه العَنَاق (100)، وهي داجن سمينة، والوَحَا (101) والعَجَل، افرغ منها قبل أن يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا معك، فلم نزل فيها حتى فرغنا منها، وهو نائم، فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ يدعو بالطَّهور (102)، وإني أخاف إذا فرغ أن يقوم، فلا يفرغنّ من وضوئه حتى تضع العَناق بين يديه، فلما قام قال: "يا جابر، ائتني بطَهور"، فلم يفرغ من طهوره حتى وضعت العَناق عنده، فنظر إلي فقال: "كأنك قد علمت حبّنا للّحم، ادع لي أبا بكر"، قال: ثم دعا حوارييه الذين معه فدخلوا، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه وقال: "بسم الله، كلوا"، فأكلوا حتى شبعوا، وفَضلَ لحم منها كثير قال: والله إن مجلس بني سَلِمَة (103)، لَيَنظرون إليه، وهو أحبّ إليهم من أعينهم (104)، ما يقربه رجل منهم مخافة أن يؤذوه، فلما فرغوا قام، وقام أصحابه فخرجوا بين يديه، وكان يقول: "خلّوا ظهري للملائكة" (105)، واتبعتهم حتى بلغوا أُسْكُفَّةَ الباب (106)، قال: وأخرجت امرأتي صدرها (107)، وكانت مستترة بسَفِيفٍ (108) في البيت، قالت: يا رسول الله صلِّ عليَّ وعلى زوجي (109) صلّى الله عليك. فقال: "صلّى الله عليك وعلى زوجك".
ثم قال: "ادع لي فلانًا" لغريمي الذي اشتدّ علي في الطلب، قال: فجاء فقال: "أَيْسِرْ جابر بن عبد الله (110) طائفةً من دَينك الذي على أبيه إلى هذا الصِّرَام المقبل"، قال: ما أنا بفاعل، واعتلَّ (111) وقال: إنما هو مال يتامى، فقال: "أين جابر"؟ فقال: أنا ذا يا رسول الله، قال: "كِلْ له، فإنّ الله سوف يُوفِّيه"، فنظرتُ إلى السماء، فإذا الشمس قد دَلَكَت (112)، قال: "الصلاة يا أبا بكر"، فاندفعوا إلى المسجد فقلت: قرّب أوعيتَك، فكِلتُ له من العَجوة فوفّاه الله، وفَضل لنا من التمر كذا وكذا، فجئتُ أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، كأني شرارة (113). فوجدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلّى (114)، فقلت: يا رسول الله ألم تر أني كلت لغريمي تمره، فوفّاه الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا، فقال: "أين عمر بن الخطاب؟" فجاء يهرول، فقال: "سل جابر بن عبد الله عن غريمه، وتمرَه" فقال: ما أنا بسائله قد علمتُ أن الله سوف يوفّيه، إذ أخبرتَ أنّ الله سوف يوفّيه، (115) فكرر عليه هذه الكلمة ثلاث مرات، كل ذلك يقول: "ما أنا بسائله، وكان لا يُراجع بعد المرة الثالثة (116)، فقال (117): يا جابر؛ ما فعل غريمُك وتمرُك؟ قال: قلت: وفّاه الله، وفضل لنا من التمر كذا وكذا. فرجع إلى امرأته، فقال: ألم أكن نهيتك أن تكلّمي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أكنتَ تظنُّ أنّ الله يوردُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيتي، ثم يخرج، ولا أسأله الصلاة عليّ وعلى زوجي قبل أن يخرج (118).
وعن نافع قال: اشتكى ابن لعبد الله بن عمر رضي الله عنه، فاشتدّ وجْدُهُ عليه (119)، حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ أن يَحدث بهذا الغلام حَدَث، فمات الغلام. فخرج ابن عمر في جنازته، وما رجل أشدّ سرورًا منه، فقيل له في ذلك، فقال ابن عمر: إنما كان رحمةً له، فلما وقع أمر الله رضينا به. (120)
وخبر عروة بن الزبير رحمه الله عجيب في شأن الرضا بالله تعالى، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "قد ذكر غير واحد أن عروة بن الزبير لما خرج من المدينة متوجّهًا إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وقعت الآكلة (121) في رجله في واد قرب المدينة، وكان مبدؤها هناك، فظنّ أنها لا يكون منها ما كان، فذهب في وجهه ذلك، فما وصل إلى دمشق إلّا وهي قد أكلت نصف ساقه! فدخل على الوليد، فجمع له الأطباء العارفين بذلك، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها أكلت رجله كلها إلى وركه، وربما ترَقَّت إلى الجسد فأكلته. فطابَتْ نفسُه بنشرِها.
وقالوا له: ألا نَسقيك مُرَقِّدًا حتى يذهب عقلك منه؛ فلا تُحس بألم النشر؟ فقال: لا والله ما كنت أظنّ أن أحدًا يشرب شرابًا أو يأكل شيئًا يُذهِب عقله! ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة، فإني لا أحسّ بذلك، ولا أشعر به. (122)
قال: فنشروا رجله من فوق الآكلة، من المكان الحيّ؛ احتياطًا أنه لا يبقى منها شيء، وهو قائم يصلي، فما تضوّرَ ولا اختلَج، فلما انصرف من الصلاة عزّاه الوليد في رِجله. فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة فأخذت واحدًا، فلئن كنتَ قد أخذتَ فقد أبقيت، و إن كنت قد أبليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، وعلى ما عافيت.
قال: وكان قد صحب معه بعض أولاده من جملتهم ابنه محمد، و كان أحبّهم إليه، فدخل دار الدوابّ فرفسته فرس فمات، فأتوه فعزَّوه فيه، فقال: الحمد لله، كانوا سبعة فأخذتَ منهم واحدًا وأبقيت ستةً، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، و لئن كنت قد أخذت فلطالما أعطيت.
فلما قضى حاجته من دمشق رجع إلى المدينة. قال: فما سمعناه ذكر رجله ولا ولده، ولا شكا ذلك إلى أحد، حتى دخل وادي القرى، فلما كان في المكان الذي أصابته الآكلة فيه قال: { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً } [ الكهف : 62 ]، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه، و يُعزُّونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه. فأنشد عروة في ذلك أبياتًا لمعن بن أوس يقول فيها:
لعمرُك ما أهويتُ كفِّي لريبةٍ *** و لا حَمَلتني نحو فاحشةٍ رجلِي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها *** ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي
ولستُ بماشٍ ما حييتُ لمنكَرٍ *** من الأمر لا يمشي إلى مثله مثلي
ولا مؤثرٌ نفسي على ذي قرابة *** وأوثر ضيفي ما أقامَ على أهلي
وأعلم أنّي لم تصبني مصيبةٌ *** من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي" (123)
وعن مغيرة قال: اشتكى ابن أخي الأحنف إلى الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى وجَع ضرسه، فقال له الأحنف: لقد ذهبت عيني منذ أربعين سنة ما ذكرتُها لأحد (124). وهذا الصنيع العزيز بالكفّ عن الشكوى لغير الله تعالى هو امتثالٌ لقوله تعالى في شأن يعقوب عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).
ولله هذه العائلة المُعاذيّة الطّيّبة، فعن شهر بن حوشب رحمه الله تعالى قال: طُعن عبد الرحمن بن معاذ بن جبل رضي الله عنه (125)، فدخل عليه أبوه فقال له: كيف تجدك أي بني؟ قال له: يا أبت: ﴿الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ [البقرة ١٤٧] فقال له معاذ: ﴿سَتَجِدُنِي إن شاء الله مِنَ الصّابِرِينَ﴾ [الصافات ١٠٢]. (126)
وعن الحسن رحمه الله تعالى قال: عاد نفرٌ من الصدر الأول رجلًا، فوجدوه في الموت، فقال له بعض القوم: ما عندك في مصرعك هذا؟ قال: "الرضا". (127) وكفى به للمؤمنين من العاديات ملاذًا.
هذا؛ ولإمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مواقف عاطرة طاهرة جميلة في رضاه بأقدار مولاه سبحانه، ودورانه مع أمره، والسباحة في بحر الرضا به، والسكون في دار الطمأنينة بإلهه تبارك وتعالى. ولمّا قضى الله تعالى أمره، وأراد رفعته كتب في اللوح أن يكتويَ مع أصحابه في كَيْرِ فتنة القول بخلق القرآن العظيم، ثم وفّقه بأن أخرجه منها ذهبًا خالصًا إبريزًا، وجبلًا شامخًا عظيمًا، وعَلمًا للمُؤتَمّين بسنة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فمن بداية الفتنة، ثبّتَ الله سبحانه قلب الإمام أحمد، وعَصَمَ لسانه من النطق تقيّةً بخلق القرآن، وأصرّ على رفض هذه المقولة، وأعلن السنة: «القرآن غير مخلوق». والدولة من ورائه من سُدَّتِها العليا إلى أخلاف السوء. فهذا ظهور للسنة وأهلها من أول يومها، وكسر للبدعة والضلالة وأهلها.
ولهذا ساق ابن الجوزي بسنده إلى ابن أبي أسامة قال: "حُكِيَ لنا أن أحمد بن حنبل قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله ألا ترى الحق، كيف ظهر عليه الباطل؟ فقال: كَلّا، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعْدُ لازمة للحق» (128). ثم أظهر الله تعالى أحمد السنة على أحمد البدعة، بالبرهان والحجة، وسقوط أحمد البدعة، وتهافت شبهه، واختفاء مقالته، وهلك ابن أبي دؤاد ببغداد، ولم يشهد جنازته مخلوق (129). وصدق ابن المديني رحمه الله تعالى في قوله: «أعَزَّ الله هذا الدِّين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة». (130)
ثم ابتلاه الله تعالى بالمحنة الثانية، وهي مكيدة يديرها الحاقدون بعد ثلاث سنين من إخماد محنة القول بخلق القرآن، فأشعل المفتونون حينها محنة ثانية للإمام أحمد، من باب الكيد له، خلاصتها: أن المتوكل كان يكره العلويّين، ومن يؤويهم، فأعلن أخلافُ السوء أن الإمام أحمد كان يؤوي علويًا من خراسان في داره، واستطاعوا بهذا تحريك المتوكل ضده سنة (٢٣٧ هـ) فبعث له المتوكل بواسطة واليه على بغداد، فريقًا من الرجال والنساء، فكبسوا عليه داره ليلًا، يُفَتّشُون عن وجود ذاك العلوي في داره، فخاب الفاتنون، وظهرت براءة أحمد، فَفَرحَ المتوكل.
ثم ابتلاه ربه بالمحنة الثالثة وهي محنة الدنيا، فقد بعث المتوكل للإمام أحمد جائزة الظهور بالحجة على ابن أبي دؤاد، وهي عشرة آلاف درهم، مع مندوبه، بكتاب رقيق العبارة واعتذار، وإجلال للِإمام أحمد، وتأكيد عليه بقبول الجائزة، ودعوته للمجيء إليه. فوقف أحمد حيران، ثم فُتح له بقبولها، لكن ما طلع الفجر إلا وقد وزَّع الدراهم كُلَّها على أولاد المهاجرين والأنصار وفقراء عامة المسلمين.
ثم ابتلاه الله تعالى بالمحنة الرابعة، وهي محنة الدنيا الثانية، فقد خرج الإمام أحمد إلى المتوكل إجابة لدعوته، وفي طريقه - لما علم المتوكل بخروجه- بعث بعشرة آلاف درهم لأولاد الإمام أحمد، ورغب إليهم عدم إخبار أحمد بها. واستقبل قصر المتوكل الإمام أحمد، بما فيه من حَشَمٍ وخَدَمٍ ووزراء، والعيون تنظر إليه بالتقدير والحب والِإجلال، في قصص يطول ذكرها. لكن الإمام أحمد يرى أنه إن كان بالأمس- أيام محنة القول بخلق القرآن- في سجن البدن، فهو اليوم في سجن الروح، فهو يتمنّى الخلاص والإذن له بالعودة إلى داره في بغداد، والإمام يرفض العطاء، ويرفض السكنى عند المتوكل، ويرفض قبول شراء دار له في بغداد. ويبعث بالكتاب بعد الكتاب لولده في بغداد بعدم قبول الجوائز والصلات، ويوصيه بالحرص على الزهد والقناعة.
وأحمد رحمه الله تعالى يصبر ويحتسب ويرضى بقضاء الله تعالى أمام هذه المواجهات والمِحَن والفتن، وما زال في رِفعة وعلو، وجلالة قَدْرٍ مَلأت قلوب الناس، وصار لقلوبهم مثل العافية لأبدانهم. وما أجود ما قاله الذهبي حينما امتحن الإمام مالك رحمه الله تعالى في مسألة أَيمانِ البيعة: "وهذا ثمرة المحنة المحمودة؛ أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، «ومن يُرد الله به خيرًا يُصِب منه». (131) وقال النبي ﷺ: «كل قضاء المؤمن خير له» (132). وقال تعالى: (ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ المُجاهِدِينَ مِنكُمْ والصّابِرِينَ) [محمد /٣١] وأنزل في وقعة أحد قوله: (أوَلَمّا أصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا قُلْ هُوَ مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ) [آل عمران/١٦٥]، وقال: (وما أصابَكُمْ مِن مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ويَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى/٣٠]، فالمؤمن إذا امتُحن؛ صبر واتَّعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حَكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له" (133). (134)
وههنا موقف معاصر في الغاية من الجمال لمن كان بالله راضيًا، يقول الشيخ حسن حبنّكه الميداني رحمه الله: "كنتُ عائدًا إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يوم من أيّام رمضان، فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون على درسي في المسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمَعَتْ عينيَّ، وقال لي: أستحلفك بوجه الله أن تفطر عندي اليوم! يقول الشيخ : عقدتْ لساني لهفته، وطوّقت عنُقي رغبتُه، فقلتُ له: يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح، ولكن!
يقول الشيخ: وجدتُ نفسي أتبعه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت الحرج من موعد الإفطار. يقول: وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغير مكشوفٌ على سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم. كانت السعادة تملأ قلب الرجل، وعبارات الشكر والامتنان تتدفّق من شفتيه وهو يقول: هذا البيت ملكي (والملك لله) لا أحد في الدنيا له عندي قرش، انظر يا سيدي، الشمس تشرق على غرفتي الصبح، وتغرُب من الجهة الثانية، وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب، والله يا سيدي كأني أسكن في الجنّة. (135)
يتابع الشيخ: كل هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذر. وصلنا الغرفة، وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعته يقول لزوجته بصوت خافت: جهزي الفطور، الشيخ سيفطر عندي اليوم، وصوت زوجته تقول له: والله ما عندنا غير فول، ولم يبق على أذان المغرب إلّا نصف ساعة، ولا شيء عندنا نطبخه. يقول الشيخ: سمعت هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلت له: يا أخي، لي عندك شرط؟ أنا أفطر مع أذان المغرب على ماء ومعي التمر، ولا آكل إلّا بعد نصف ساعة من الأذان، بعد ما أهضم التمر والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلّا فول مدمّس وبطاطس. فقال الرجل: أمرك.
يقول الشيخ: لقد اخترت البطاطس لأنها زادُ الفقراء، وأحسبها عندهم، وقد خرجتُ وكلّي سعادةٌ وبهجة، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل الذي خرجت من فمه عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله بهذا البيت الذي ملّكَهُ الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها.
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعتْ ... أسباب دنياك عن أسباب دنيانا
يقول الشيخ: ثم دُعيت بعد أيام مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار، وكان ممن أنعم الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب. وكانت الدعوة في مزرعةٍ فخمة فيها مما لذّ وطاب، يتوسّطها منزل أقرب ما يكون للقصر، يطلُّ على مسبحٍ ومرْبَط خيل فيه نوادر الخيل الأصيلة. أفطرنا عند الرجل، وأثناء المغادرة انفرد بي، وشكى لي من ضيق الحياة، وهموم التجارة، وسوء طباع زوجته، وطمع من حوله، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع، وسأَمِه من هذه الحياة، ورغبته بالموت!
يقول الشيخ: من باب المنزل إلى باب سيارتي، سوَّد هذا الرجل الدنيا في عيوني، وأطبق عليَّ صدري وأنفاسي. فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ بسيّارتي وأنا أقول في قلبي: الحمد لله على نعمةِ الرضا، فليست السعادة بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادة حُسنُ صِلَةٍ بالله، ورضًا بما قسم لنا عزّ وجل". أهـ. ومن عيون شعر الحطيئة:
ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ … ولكنَّ التقي هو السعيدُ
وتقوى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخرًا … وعندَ اللهِ للأتقى مزيدُ
وما لا بدَّ أن يأتي قريبٌ … ولكنَّ الذي يمضي بعيدُ
قال علي الوردي: "يتوهّم الإنسان أن الوظيفة ستجعله سعيدًا، ثم يتوهّم أن الزواج سيجعله سعيدًا، ثم يتوهم أن الأطفال سيجعلونه سعيدًا، وسيظل يتوهم ويتوهم حتى يموت". قلت: هذا وهم من لم يوفق لحلاوة الإيمان، أما من ذاقها بلسان قلبه، وهشّت له روحه، واستضاء منها قلبه؛ فهو في جنّة من الآخرة عُجّلت له، نسأل الله الكريم من فضله، أرأيتكَ (136) يا صاحبي ترى السعادة في المال وتوابعه أم في الإيمان والتقوى؟ قال أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى، ويعني بهدي الأئمة: أئمة الدين:
فَإن كُنتَ فِي هَدي الأَئِمَّةِ رَاغِبًا ... فَوَطِّن عَلَى أَن تَنتَحِيكَ الوَقَائِعُ
بِنَفسٍ وَقَدرٍ عِندَ كُلِّ ملمَّة ... وَقَلبٍ صَبُورٍ وَهُوَ في الصّورِ مَانعُ
لِسَانُكَ مَخزُونٌ وَطَرفُكَ مُلجَمٌ ... وَسِرُّكَ مَكتُومٌ لَدى الرَّبِّ ذَائعُ
وَذِكرُكَ مَغمُورٌ وَبَالُكَ مُغلَقٌ ... وَثَغرُكَ بَسّامٌ وَبَطنُكَ جَائِعُ
وَقَلبُكَ مَجروحٌ وَسُوقكَ كَاسدٌ ... وَفَضلُكَ مَدفُونٌ وَطَيفُكَ شَائعُ
وَفِي كًلِّ نَومٍ أنتَ جَارعُ غصَّةً ... مِنَ الدَّهرِ وَالإخوَانِ وَالقَلب طَائِعُ
نَهَارُكَ شُغلٌ وَالنَّاسُ مِن غَير مِنَّةٍ ... ولَيلُكَ شَوقٌ غَابَ عَنهُ الطَّلاَئِعُ
فَدُونَكَ هَذَا اللَّيلُ خُذهُ ذَرِيعَةً ... لِيَومٍ عَبُوسٍ عَزَّ فِيهِ الذَّرائِعُ
ومن النساء الراضيات بالله تعالى الصابرات على البلاء الشاكرات على النعماء مزنة المحمد البسام رحمها الله تعالى، فقد كانت رحمها الله تعالى قدوة في الرضا بالله تعالى والحمد والشكر. وهي مزنة بنت محمد بن حمد البسام، فجدها حمد هو الذي قدم عنيزة من بلدة حرمة، اما والدها فهو صاحب ثراء واسع وصاحب إحسان، وقد توفي والدها حاجًّا عام 1246هـ بمكة المكرمة. زوَّجها والدها في حياته ابن أخيه حمد سليمان البسام، وكان يعلم أنه ليس صاحب مال، ولكنه لم يبلغه ولم يتحقق أن الحاجة بلغت معه الواقع الذي هو عليه.
فلما رحلت اليه في منزله وعلمت حاله كتمت ذلك حتى عن أمها وأبيها، وصارت تنفق ما عندها من أبيها حتى نفد. وكان منزلهما خاليًا من كل شيء ذي بال، فصارت تخفي أمرها عن الناس، ولا تمكّن أحدًا من دخول وسط المنزل حتى لا تُحرج زوجها بفاقته. وجعلت لها مكانًا من مقدّمة البيت تستقبل به من يزورها من نساء أقاربها، ولا تمكّنهم من رؤية المنزل والاطلاع على ما فيه حتى والدتها.
وقد كانت هي الشابة الناعمة المترفة، التي عاشت حياتها في بيت والدها صاحب الثراء الواسع، فزارتها والدتها في ساعة لم تكن تزورها فيها في عادتها مما مكّنها من دخول وسط المنزل. وإذا به خالٍ من كل شيء من مقومات الحياة، فلامتها على هذا التستّر، وعلى هذا الصبر الطويل، وقالت لها: إنّ والدك بخير كبير، وأنت ابنته، وزوجك ابن أخيه، وإحسانه شامل للبعيدين، فكيف بكما وأنتما ولداه؟! فأجابتها بأنه لم يقصّر عليها بشيء، وقالت: لا داعي لإظهار أمرنا إلّا لله تعالى.
فلما علم والدها محمد البسام بالأمر طلب ابن أخيه ولامه وعاتبه، وأعطاه مبلغًا جيدًا من النقود ليعمل به مضاربة مع عمه حمد السليمان، يتّجر بجلب البضائع من سوق الشيوخ في أطراف العراق إلى القصيم، ففعل حتى نمّى الله تعالى المال بيده، فصار صاحب رأس مال كبير. وصار من بعض أعماله التجارية أن يشتري ثمار النخيل من الفلاحين بطريق بيع السَّلَم، فإذا استلمه منهم في حينه أيام الجذاذ يكنزه في حياض كبار تسمى (الصوبة) ثم يبيعه في أوان بيعه، وهكذا.
وفي إحدى السنين سافر للتجارة إلى الخميسية وسوق الشيوخ، وكان هذا السوق هو ميناء أهل نجد في ذلك الزمان، وطالت سفرته، فلما عاد إلى وطنه عنيزة قابله في الطريق بعض التجار والمورّدون فصار يسأله عن أخبار البلاد. فكان مما أخبروه أن نجدًا أصابتها مجاعة شديدة، وأن الناس أصابهم ضرر بالغ فيها. فقال: عسى لنا فيها حظّ ونصيب؟ فأجابه رجل منهم: بأن لك يا أبا سليمان أكبر الحظ والنصيب، فزوجتك تصدّقت بجميع ما ادخرْتَه من حياض التمر. فسُرَّ بذلك، وحمد الله عليه، وسأله القبول.
فلما قدم عنيزة واستراح من وعثاء السفر، جاءته زوجته مزنة بزنبيل مليء بالريالات الفرنسية التي قيل إنها تبلغ ستة آلاف ريال، وهو مبلغ كبير جدًّا في ذلك الزمان، وقالت له: هذا قيمة التمر، وبسبب الحاجة زادت قيمته زيادة كبيرة، فبعناه وهذه قيمته تفضل بقبضها.
فقال: أخبريني بالحقيقة. وبعد إلحاح أخبرته أنها تصدقت به كلّه في هذه المسغبة، وأن هذه النقود هي ثمن مصاغها، باعته لأنّها تصدّقت محتسبة ذلك منها. فقال لها: الأجر الذي تريدينه إن شاء الله تعالى أنه صدقة مقبولة مني. فقالت له: وأنا شريكة في الأجر معك؟ فقال: وانت شريكة إن شاء الله تعالى. (137)
وَأَذكُرُ أَيّامَ الحِمَى ثُمَّ أَنثَنِى ... عَلَى كَبِدِى مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعَا
وَلَيسَت عَشِيّاتُ الحِمَى بِرَواجِعِ ... عَلَيكَ وَلَكِن خَلِّ عَينَيكَ تَدمَعَا
بَكَت عَينِى اليُمنَى فَلَمّا زَجَرَتُها ... عَنِ الجَهلِ بَعدَ الحِلمِ أَسبَلَتا مَعا
اللهم رضاك والجنة، إله الحق.
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
................................
1. تيسير العزيز الحميد (1 / 78)
2. أما بدون حجاب فهو الكِفَاح، وهو الكلام مع المواجهة والرؤية، ومنه حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لقِيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مُهْتَمّ، فقال: "ما لي أراك مُنكسرًا"؟ قلتُ: اسْتُشْهِدَ أبي يومَ أُحُد، وترك عيالًا ودَيْنا، فقال: "ألا أُبَشِّرُكَ بما لقي اللهُ به أباك"؟ قلتُ: بلى، قال: "ما كلَّم الله أحدًا قطُّ إلا من وراء حجاب، وإنه أحيَى أباك، فكلَّمه كِفاحًا، فقال: يا عبدي؛ تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قال: يا ربِّ، تُحييني فأُقتل ثانية، قال سبحانه: قد سَبَقَ منّي أنَّهم إليها لا يرجعون"، فنزلت: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أمْوَاتا بَلْ أحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون}". رواه الترمذي (3010) وابن ماجه (190) وحسنه الألباني وأيمن صالح شعبان. وفي النهاية لابن الأثير (٤/ ١٨٥): "قوله: "فكلّمه كِفاحًا": أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول". وقال السيوطي في شرح سنن ابن ماجه (١/ ١٧): "وفي الحديث إشكال، وهو أنّ الله تعالى قال: (وما كان لبشر ان يكلمه الله الا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بأذنه ما يشاء). فالجواب: أنّ الآية مخصوصة بدار الدنيا، فلا يُتصوَّرُ في الدنيا كلام الله تعالى مع عبده مواجهة، لأنّ أجساد الدنيا كثيفة لا يليق بها التَّجلِّي الذاتي، لأنّ الله تعالى لما تجلّى للجبل جعله دكًّا وخرَّ موسى صَعِقًا، وأما في الآخرة فالتجلّياتُ تحصل للأرواح أو للأجساد المثاليّة لأجساد الجنة". وقال مُلّا علي القاري في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (١٨/ ١٢١): "فيه إيماءٌ إلى أنه بخصوصه أفضل من سائر الشهداء الماضية، حيث ما كلّم الله أحدًا منهم إلا من وراء حجاب، وفيه إشارة إلى أن قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) مقيّدُ بالدنيا لقوله: "وأحيا أباك فكلّمه كِفَاحًا"، أي مواجهًا عيانًا". وقال شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك في شرح كلمة الإخلاص لابن رجب (١/١٣٦) «كَلَّمَه كِفاحَا»: يعني أنّه كَلَّمَه من غَيرِ حِجابٍ، وهذا في عالم الآخرة، وليس في عالم الدنيا". والله أعلم.
3. وهو شجر كالنخيل لكن ثمره قليل النفع، ويكثر في السباخ.
4. وهو السّدر، ويسمّى كذلك النّبق.
5. التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي (1 / 1305)
6. عاد قد أُهلكت بالريح وبالصيحة كذلك. قال تعالى في فصلت: (مثل صاعقة عاد وثمود)، وهي الصيحة الصاعقة للقلب. كذلك فقد ذكر الله في سورة المؤمنون بعد ذكر قوم نوح أمةً تفاصيل أمرهم مشابه لقوم عاد، وهو يتلون عاد في توالي الذكر وفي الزمن، فقال سبحانه: (ثم انشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم) إلى قوله: (فأخذتهم الصيحة بالحق).
وفي العنكبوت ذَكَر الله تبارك وتعالى تتابع الأمم، ثم ذكر تتابع المَثُلَاتِ عليهم، فذكر جميع عقوباتهم بقوله: (فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا)، وهم قوم لوط (ومنهم من اخذته الصيحة)، ومن المعلوم أن ثمود أخذتهم الصيحة. وقد ذكرهم هنا مقرونين ببعضهم: (وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم)، فلعل في هذا إيماء إلى أن الصيحة كانت لهما جميعًا. وقد اكتفى في هود بذكر وصفِ غِلَظِ عذابهم فقال ممتنًّا على هود عليه السلام ومن معه: ( من عذاب غليظ). أما في سورتي القمر والحاقة فقد ذكر عقوبتهم بالريح الصرصر، عياذًا بالله من النار ومن حال أهل النار. (ومنهم من خسفنا به الأرض)، وهو قارون (ومنهم من أغرقنا)، وهما فرعون وهامان وقومهما. وفي الأعراف قطعُ الدابر: (وقطعنا دابر)، وقطع الدابر هو الاستئصال بإهلاك الجميع، والدابر بمعنى الآخِر. وبالله التوفيق.
7. البخاري واللفظ له (٣٣٥، ٤٣٨) ومسلم (٥٢١) بلفظ: «وبُعثتُ إلى كلّ أحمر وأسود». قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: "وأما قوله: "وبعثت إلى الناس عامة"، فوقع في رواية مسلم: "وبعثت إلى كل أحمر وأسود"، الإنس والجن، وعلى الأول التنصيص على الإنس من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه مرسل إلى الجميع، وأصرح الروايات في ذلك وأشملها رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (٧٢٣): "وأرسلت إلى الخلق كافّة". أهـ.
وقال عبد الحق الدِّهْلوي في لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح (٩/٢٢٦): "قوله: "وأرسلت إلى الخلق كافة" قيل: لم يكن في زمن نوح عليه السلام نبي فيكون مبعوثًا إلى أهل ذلك الزمان كافة، وأيضًا دعا على جميع من في الأرض بإهلاكهم بالغرق، وهو دليل على أنه كان مبعوثًا إليهم، ولم يمتثلوا أمره، وسليمان عليه السلام كان يسير في الأرض، ويأمر الناس بالإسلام كالبلقيس وغيرها، ويهددهم بالقتال، وذلك دليل على عموم الرسالة. وأجيب بأن عموم رسالة نوح لم يكن من أصل البعثة بل إنما اتفق بالحادث، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما دعاؤه على جميع من في الأرض فمن جهة أن دعوته قومه إلى التوحيد بلغ سائر الناس بطول مدته، فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، ذكره ابن عطية.
وقال ابن دقيق العيد: يجوز أن يكون التوحيد عامًّا في بعض الأنبياء، والتزام فروع شريعته لم يكن عامًّا، ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرساله إلا قومه، فبعثته خاصة بهم لكونها إلى قومه، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، ولكن إن اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثًا إليهم.
ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام في الحديث عن الإشكال بحال سليمان أنه قال: معنى الرسالة خاصة، أي: في الواجبات والمحرمات، أما في المندوبات فهم مأمورون بها، وأما التهديد بالقتال الذي هو من خصائص الواجب في بادي الرأي فلا نقول: إنه من خصائصه بل العقاب في الدار الآخرة، كذا نقل عن السيوطي في حاشيته على النسائي (١/ ٢١١). وقيل: يحتمل أن يقال: إن تهديد بلقيس وقتاله مع الناس على التوحيد لأجل ملكيّته لكونه ملِكًا على الدنيا، لا لأجل رسالته وبعثته على الناس كافة، فلا إشكال، كذا نقل عن الشيخ، فتدبر". أهـ. وقال محمد الأمين الهرري في تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (١٤/٣٣٠): "كان نبينا محمد ﷺ مبعوثًا إلى الناس كافة، قال تعالى في حقه: ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ﴾ ولم يقل: لتخرج قومك كما قال في موسى عليه السلام: (أن أخرج قومك) وخصّص. وقال هنالك: ﴿بِإذْنِ رَبِّهِمْ﴾ وطواه هنا؛ لأن الإخراج بالفعل قد تحقق في دعوته ﷺ، فكانت أمته أمة دعوة وإجابة، ولم يتحقق في دعوة موسى، إذ لم يجبه القبط إلى أن هلكوا، وإن أجابه بنو إسرائيل". أهـ.
وأما كيفية وصول رسالته إلى الجن، فقد بينها القرآن، وذلك باستماع بعض الجنّ للنبي ﷺ وهو يقرأ القرآن، قال تعالى: (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به).. الآيات. وقد ثبت في صحيح مسلم (450) بسنده قال علقمةُ: قلتُ لابنِ مسعودٍ: هل صحبَ النبيُّ ﷺ ليلةَ الجنِّ منكُم أحُد؟ قال: ما صحبهُ منّا أحدٌ، ولكنّا كنا معهُ ذاتَ ليلةٍ ففقدناهُ، فالتمسناهُ في الأوديةِ والشعابِ، فقلنا استُطيرَ أو اغتيلَ، فبتنا بشرِّ ليلةٍ باتَ بها قومٌ، فلمّا أصبحنا إذا هُو جاءَ من قبلِ حراءٍ، فقلنا يا رسولَ الله: فقدناك فطلبناكَ فلم نجدكَ، فبتنا شر ليلةٍ باتَ بها قومٌ، قالَ: «أتاني داعي الجنِّ، فذهبتُ معهُ، فقرأتُ عليهمُ القرآن». فانطلقَ بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقالَ: «لكُم كلُّ عظمٍ ذكر اسمُ الله عليهِ يقعُ في أيديكُم، أوفرُ ما يكونُ لحمًا، وكلُّ بعرةِ علفٍ لدوابكُم»، فقال ﷺ: «فلا تستنجُوا بهما فإنهما طعامُ إخوانكُم». وفي رواية (450): "وكانُوا من جنِّ الجزيرةِ". وعن زِرٍّ عن عبد الله قال: «هَبَطُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ وهُوَ يَقْرَأُ القُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمّا سَمِعُوهُ، قالُوا: أنْصِتُوا، قالُوا: صَهٍ، وكانُوا سَبْعَةً – وفي رواية تسعة -أحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأنْزَلَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا﴾ الآيَةَ، إلى ﴿ضَلالٍ مُبِينٍ﴾». رواه الحاكم في المستدرك (٢/ ٤٥٦) ووافقه الذهبي، والبيهقي في دلائل النبوة (٢/ ٢٢٨)، وقال الهيثمي (٧/ ١٠٩): رواه البزار، ورجاله ثقات. وقال سليم الهلالي: قلنا: وهذا سند حسن؛ رجاله ثقات رجال الصحيح، وفي عاصم كلام معروف لا ينزل عن رتبة الحسن.
8. جامع البيان (6/555)، وتفسير القرآن العظيم (2/56)، والدر المنثور (2/252)
9. الدارمي (1/126) (435)، وأحمد (3/387)، وابن أبي عاصم (1/27) (50) وصحح إسناده الحافظ ابن كثير من رواية أحمد، وقال: "تفرّد به أحمد، وإسناده على شرط مسلم". البداية والنهاية (2/123)
10. الدر المنثور (11 / 292)
11. تفسير ابن كثير (4 / 32)
12. البخاري (4/225) (5/154) ومسلم (2490) واللفظ له.
13. المستدرك (3 / 72) (4442) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
14. الروض الأنف للسهيلي (4 / 341)
15. البخاري (4/225) معلّقًا، ومسلم (7/163)
16. أحمد (6/138) والبخاري في الأدب المفرد (867) والترمذي (2848) وصححه الألباني.
17. البخاري (2 / 68)
18. يَعنِي بذلك عبد الله بن رَوَاحَة. والرفث: هو فحش القول.
19. لأن الجنب ممنوع من تلاوته.
21. البخاري (453) ومسلم (2485)
22. أي نظر إليه بغضب.
23. يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
24. أحمد (٢١٩٣٩)
25. التاريخ الكبير (٣٥٥) والنسيان يأتي في لغة العرب على معنيين:
الأول: الغفلة وذهاب الوهل وعزوب العلم، وهذا منفيّ عن الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: (وما كان ربك نسيا)، كذالك: (لا يضل ربي ولا ينسى).
الثاني: الترك. وهذا غير منفيّ عن الله تعالى، بل من أفعاله الترك لمن يستحق ذلك، ومن ذلك قوله جل وعلا: (نسوا الله فنسيهم) أي: تركهم في غفلتهم وخيبتهم وضلالهم، ولم يوفّقهم للهدى والرشاد.
26. السخينة: هي طعام حارٌّ يتخذ من دقيق وسمن، وقيل: دقيق وتمر، أغلظُ من الحساء، وأرقّ من العصيدة، وكانت قريش تكثر من أكلها فعُيّرتْ بها، حتى سمّوا سَخِينة.
27. العقد الفريد (6/ 128)، وأخرجه البرهان فوري في كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال (13 / 451)، والخبر بنحوه في طبقات فحول الشعراء (٢٢٥ – ٢٢٦)، وطبقات ابن سعد (٣/ ٥٢٨)، وتهذيب الآثار (٩٧٧)، والمعجم الكبير للطبراني (١٣/ ٤٣٧)، وسير أعلام النبلاء (١/ ٢٣٤)
28. وتأمل تماثل قافيتي الصدر والعجز في اشتراكٍ راقصٍ بديعٍ، وهذا ما ميّز الأراجيز واستحلاها من أفواهِ الحُدَاة.
29. السنن الكبرى للبيهقي (9 / 233) ومعنى ناشد: طالب، وذكّر. الأتلد: القديم. نصرًا أعتدًا: أي حاضرًا. المدد: العون. تجرّدا: شمّر، وتهيّأ لحربهم. سيم خسفًا، معناه: طلب منه، وكلّفه. تربّدا: تغيّر. عن: حاشية سيرة ابن هشام، (٤/ ١١)
30. وانظر للمزيد من بيان مكانة الشعر في الإسلام: وقد يجمع الله الشتيتين. للمؤلف.
31. وانظر: محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم. للمؤلف.
32. البخاري 4/230 ( 3561 )، ومسلم 7/81 ( 2329 ) ( 82 ) أما زيادة "وكان بعض أهله.." فهي عند أبي نعيم، وأوردها شيخ الإسلام في رسالة الاحتجاج بالقدر (1 / 43) وصححها الألباني.
33. مجموع الفتاوى (30 / 369)
34. وقالوا: ولو لم يخصص إبراهيم بذلك ما انتفع أحد بحرّ نار بعدها.
35. دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي (49 / 7)
36. المِنْطَق: النِطاق، وجمعُه: مَناطِقُ. وهو أن تَلْبَسَ المرأةُ ثوبَها، ثم تَشُدّ وَسَطها بشيء، وتَرْفَع وسَط ثوبها وتُرْسِله على الأسفل عند مُعاناة الأشغال لئلا تَعْثُرَ في ذَيْلها. وبه سُمِّيَت أسماء بنت أبي بكر ذاتَ النِّطاقَين، لأنها كانت تُطارق نِطاقًا فوق نِطاق. وقيل: كان لها نِطاقان تَلْبَس أحدَهما وتَحْمِل في الآخر الزادَ إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأبي بكر وهما في الغار. وقيل: شَقَّت نِطاقَها نصفين، فاستَعملت أحدَهما، وجعلَتِ الآخر شِدادًا لِزادِهما. وفي حديث عائشة: "فَعَمَدْن إلى حُجَزِ مَناطِقِهِنّ فَشَقَقْنَهَا واخْتَمَرْن بها". النهاية في غريب الأثر (5 / 166)
37. أي: أدبر، وولّى لهم قفاه.
38. وتأمل صعوبة الموقف وشدته وثقله على قلبه لولا أنه كان مطمئنًّا بربه الذي أمره، راضيًا كل الرضا به، واثقًا تمام الثقة به، عليه السلام، لذلك مدحه ربه تبارك وتعالى بأنه أتمّ كلمات الله عليه فصيّره إمامًا للعالمين: (وإذ ابتلى أبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما).
39. وصدقت هذه الوليّة التّقيّة المؤمنة البارّة الرّاشدة، فالله لا يضيع أولياءه ولا يخلف وعده، ومن كان مع الله كان الله معه، ومن كان الله معه فلا ضيعة عليه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لمّا كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان؛ خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شَنّة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنّة فيدرّ لبنُها على صبيّها، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة، ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى لما بلغوا كداء نادته من ورائه: يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال: إلى الله. قالت: رضيتُ بالله». رواه البخاري (3365) وفي رواية: "قالت: رضيتُ بالله، ثُمَّ رجعت". والشَّنّة: القربة الصغيرة. فلما رضيت بالله أرضاها الله في الدنيا بالأمن والرزق وبرّ الولد النبي الصالح، وفي الآخرة رضوان الله والجنة، (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين).
40. الثنيّة: الطريق في العقبة، وقيل: هو المرتفع من الأرض فيها.
41. إمعانًا في الإخلاص، كذلك لم يردها أن تراه يدعو لهما حتى لا ينقطع تعلقها التام بالله وحده، فإنها لمّا قطعت حبال الخليقة وتعلقت بمولاها؛ ظهر إخلاصها لربها وتوحيدها وإيمانها وثقتها ورضاها.
42. وفيه استحباب استقبال القبلة عند الدعاء، وكان نبيّنا صلى الله عليه وسلم يفعله كما عند مسلم (1763) من حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم في غزوة بدر: فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة، ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني"، وكما في حديث ابن بن عمر رضي الله عنهما في صفة حجته عليه الصلاة والسلام: "أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات، يكبّر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيقوم مستقبلًا القبلة قيامًا طويلًا فيدعو ويرفع يديه"، رواه ابن حبان في صحيحه (3887) قال شعيب الأرناؤوط رحمه الله: حديث صحيح إسناده قوي.
43. لجفاف ثدييها لما عطشت.
44. وهو موقف شديد جدًّا على الأمهات لِمَا جبلهن الله تعالى من عظيم الرحمة والشفقة بأولادهنّ.
45. التلبّط: الاضطراب والتقلّب ظهرًا لبطن.
46. أي: ثوبها.
47. أي: أجهدت نفسها في السعي مخافة تلف ابنها جوعًا وعطشًا، فبذلت السبب وقلبها معلّق بالمُسبِّب تبارك وتعالى.
48. فطلب الغوث من المخلوق الحاضر القادر جائز، ومن ذلك: (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه). أما الشرك الوخيم والذنب العظيم فهو الاستغاثة بمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الخالق جل جلاله، أو بمخلوق غائب، كمن يستغيثون بأهل القبور أو الجن أو الغائبين، ولا يعلم الغيب إلا الله. وهذا شرك ناقل عن ملّة الإسلام، والمشرك مخلّد في الجحيم، حرام عليه جنة النعيم، قال سبحانه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، وقال سبحانه: (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
49. هو أمين الوحي وسيّد الملائكة جبريل عليه السلام.
50. تحوضه: أي تجعل له حوضًا يجتمع فيه الماء.
51. المَعِين: الماء الظاهر الجاري الذي لا يتعذّر أخذه.
52. الضيعة: الضياع والحاجة.
53. الرابية: المرتفع من الأرض.
54. ثمّ ثلاثة أماكن في مكة في أسمائها تشابه، كَدَاء في أعلاها (الحَجُون حاليًّا)، وكُدَى في أسفلها جهة المدينة (الشبيكة حاليًّا)، وكُدَي – بالياء- أسفل مكة من جهة اليمن، وفيها حاليًّا مواقف سيارات كُدَي.
فكَدَاء، بالفتح والمدّ: الثنيّة من أعلى مكة مما يلي المقابر، وكُدَى بالضم والقصر: من أسفلها مما يلي باب العمرة، وكُدَي بالياء من أسفلها جنوبًا. وقال الشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله تعالى في مفيد الأنام (١/٢٥٧): " ثنية كَدَاء بفتح الكاف والدال مع المد، وهي التي تسمى بالحَجُون بأعلى مكة، وبها باب المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي أشار إليها حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته المشهورة وجعلها موعد خيل المسلمين في قوله:
عدمنا خيلنا إن لم تروها … تثير النقع موعدُها كَدَاءُ
ودخل منها رسول الله ﷺ يوم فتح مكة وقال ﷺ: "ادخلوها من حيث قال حسان". وقال ابن حجر في الفتح: ثنية كداء بفتح الكاف والمد، وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها الحَجُون بفتح المهملة وضم الجيم، وكانت صعبة المرتقى فسهّلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي، على ما ذكره الأزرقي، ثم سهّل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمان مئة موضع، ثم سُهّلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمان مئة، وكلّ عقبة في جبل أو طريق عال تسمى ثنية. أهـ
قلت: ثم سُهّلت في زمن الشريف الحسين بن علي في حدود الثلاثين وثلاث مئة وألف، ثم سهلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ثم سهلت تسهيلًا كاملًا بعده.
وسنَّ خروجٌ من مكة من أسفلها من ثنية كُدًى بضم الكاف والتنوين، دون ذي طوى من جهة مكة بقرب شعب الشافعيين، وهي الثنية التي تسمى ثنية الشافعيين، وتعرف الآن بريع الرسام، وهي التي خرج منها رسول الله ﷺ، ويقال لها باب شبيكة، لقول ابن عمر: "كان رسول الله ﷺ يدخل من الثنيّة العليا التي بالبطحاء، ويخرج من الثنيّة السفلى" متفق عليه. قال: هي ثنية كُدَى بضم الكاف كهُدى وقُرى، لا ثنية كُدَي كسُمَي بالتصغير، لأن هذه لمن خرج من مكة إلى اليمن.
(فائدة): وأهل مكة يقولون: ادخل وافتح، واخرج وضُمّ. وهذا ضابط طريف".أهـ بتصرف يسير.
55. أي يدور في السماء حول شيء في الأرض.
56. أي الأجير أو الوكيل، وسمّي به لأنه يجري مجرى موكله.
57. وهذا من أدبهم وحسن شيمتهم وعفافهم، فهي امرأة وحيدة في صحراء خالية.
58. أي: إلا بإذني.
59. أي: إسماعيل صادق الوعد الرسول النبي عليه السلام.
60. من النفاسة وهي السبق إلى الطيب والخير. والمراد: صار عندهم نفيسًا مرغوبًا فيه.
61. أي: أهله الذين تركهم في مكة.
62. أي: يجلب لهم ما يصلحهم من طعام ونحوه.
63. فلم ترض بقضاء الله تعالى لهم، ولم تثن على الله تعالى خيرًا، ولم تحمده، وزادت فشكت الحال إلى إبراهيم عليه السلام.
وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابْنِ آدَمَ إِنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لَا يَرحَمُ
وسلام الله على يعقوب إذ قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله).
64. وهذا من فطنته عليه السلام.
65. تأمل الفارق بين المرأتين، فمع اتحاد العيش إلا أن قلب الثانية راض بالله تعالى مسرور به، قانعٌ مكتف بالبلغة من هذه الدنيا. ومن سرور ابن آدم زوجٌ صالح، فعن عبد اللَّه بن عمرٍو رضي الله عنه أن رسول اللَّهِ ﷺ قال: "الدُّنيا مَتاعٌ، وخَيرُ مَتاعِ الدُّنيا المَرأةُ الصّالِحَةُ". رواه مسلم (١٤٦٧)، والمرأة الصّالحة: هي الصالحة في دينها، ونفسها، والمُصلِحَةُ لحال زوجها. وهذا كما قال في الحديث الآخر: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء"؟ قالوا: بلى. قال: "المرأة الصالحة؛ التي إذا نظر إليها سرّته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته". رواه أبو داود (١٦٦٤)، والحاكم (١/ ٤٠٨)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وصحح إسناده العراقي في تخريج الأحياء (٢/ ٣٦) وضعّفه الألباني في الضعيفة (١٣١٩).
66. أي: زراعة.
67. دعا عليه السلام لأهل مكة بالبركة في اللحم والماء، فكانوا يقتصرون عليهما دون أن يتضرّروا منهما، وأصبح ذلك خاصًّا بمكة دون غيرها من البلاد، فإنه لا يقتصر أهل بلد عليهما إلاّ تضرر منهما. وعليه؛ فلو اقتصر أهل مكة على اللحم والماء كفاهم، وأما غيرهم فلا. والمقصود: أن المداومة عليهما لا يوافق الأمزجة إلا بمكة، وهذا من جملة بركاتها وأثر دعاء إبراهيم عليه السلام، لذلك دعا نبيّنا صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة في الزرع والكيل والوزن صلى الله عليه وسلم.
68. وكانوا يسمّون العتبة الأُسكفّة. وقد استفاد أهل التعبير من هذا أن العتبة في المنام هي الزوجة.
69. فأثنت عليه خيرًا في غيابه، وهذا من حسن خلقها وطيب معدنها.
70. الدوحة: الشجرة الكبيرة.
71. الأكَمَة: ما ارتفع من الأرض كالرابية.
72. وهو مقام إبراهيم عليه السلام، قال أبو طالب في لاميّته:
وموطئُ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعلِ
73. البخاري (٣٣٦٤)، (٣٣٦٥)
74. وقد ذكرتُ نزرًا نافعًا من أخباره عليه السلام في كتاب الصبر.
75. تفسير الطبري (18 / 506) بنحوه.
76. دروس للشيخ محمد المختار الشنقيطي (49 / 8)
77. البخاري (٤٥٣٧)
78. الصريخ: المُغيث، ومنه قوله تعالى: (فلا صريخ لهم)، ويأتي بمعنى الصارخ المُنذر، وهو المراد هنا.
79. الغدائر: هي الجدائل وقرون شعر الرأس.
80. أبو يعلى (٥٢) وحسنه ابن حجر في فتح الباري (٧/ ١٦٩)
81. يتلتله: من التلّ، وهو الجذب المُنكر المتكرر العنيف.
82. البداية والنهاية (٣/ ٢٧٢)، وعزاه إلى البزار. وانظر: تاريخ الخلفاء للحافظ جلال الدين السيوطي، (٣٧)
83. أسد الغابة لابن الأثير (٧٤٣٦)
84. الماوردي في تفسيره (٦/٢٧٣)، وابن أبي حاتم بسند حسن، وابن مردويه، والضياء في المختارة.
85. أي: مُسجًّى ومُغطّى.
86. البخاري (١٢٤١، ١٢٤٢، ٣٦٦٧، ٤٤٥٤)، وانظر: البداية والنهاية (٥/ ٢٤١، ٢٤٢)، وحلية الأولياء (١/ ٢٩)
87. أي: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
88. زاد المعاد (3/ 231)
89. أي: قتلوا جميعًا.
90. سيرة ابن هشام (٢/ ٩٩) والدلائل للبيهقي (٣/ ٣٠٢)
91. المسند (15281) وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير نبيح العنزي، فقد روى له أصحاب السنن، وهو ثقة.
92. قال السندي: قوله: "نَظَّاري أهل المدينة" بفتح نون وتشديد ظاء، أي: في جملة النظّارين لعاقبة الأمر من أهل المدينة.
93. أي: ليس المقصود الضَّنُّ بك، وإنما المقصود الشفقة على البنات، بأن تكون لهن بعدِي بعدَ الله تعالى.
94. أي: جعلت كل واحد منهما في جهة من البعير. وفيه صبر نساء الصحابة ورضاهن بالقضاء، وقوة شكيمتهن عند مرارات البلاء.
95. أي: خرجت جثة والدك جرّاء عملهم حين أجرى معاوية رضي الله عنه العين لأهل المدينة.
96. أي: إلا ما غيّره القتل.
97. أي: دفنته في قبره. وروى البيهقي عن جابر أيضًا، أنه قال: لمّا أجرى معاوية العين عند قتلى أُحُد بعد أربعين سنة، استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب فانبعث دمًا"، وفي رواية ابن إسحاق: "فأخرجناهم كأنّما دفنوا بالأمس". وفي رواية الواقدي عن جابر أيضًا: "فحفرنا عنهم فوجدتُ أبي في قبره كأنما هو نائم على هيئته، ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه، فأُزيلت عنه فانبعث جرحُه دمًا"!
وجاء في الاستيعاب لابن عبد البر: أن بعض أهل طلحة بن عبيد الله رآه في المنام يقول: "ألا تريحونني من هذا الماء، فإني قد غرقت". ثلاث مرات يقولها، فنبشوه من قبره أخضر كأنه السلق، فنزفوا عنه الماء، ثم استخرجوه، فإذا ما يلي الأرض من لحيته ووجهه قد أكلته الأرض، فاشتروا دارًا من دور أبي بكرة فدفنوه فيها. وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني أبي عن أشياخ من الأنصار: "لما ضرب معاوية عينه التي مرّت على قبور الشهداء، انفجرت العين عليهم، فجئنا فأخرجناهما يعني- عمْرًا وعبد الله - وعليهما بُردتان قد غطّي بهما وجوههما، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض، فأخرجناهما يتثنّيان تثنِّيًا كأنهما دفنا بالأمس". وروى ابن الجوزي في صفوة الصفوة عن جابر قال: "لما أراد معاوية أن يُجري عينه التي بأحد، كتبوا إليه: أنا لا نستطيع أن نجريها إلا على قبور الشهداء، فكتب: انبشوهم، قال: "فرأيتهم يُحملون كأنهم قوم نيام، وأصابت المسحاة رجل حمزة فانبعثت دمًا".
وروى ابن سعد في الطبقات (3 / 562) عن جابر رضي الله عنه قال: "كان عبد الله بن عمرو بن حرام أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد، فصلى عليه رسول الله ﷺ قبل الهزيمة، وقال رسول الله ﷺ: "ادفنوا عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد؛ لما كان بينهما من الصفاء"، وقال: "ادفنوا هذين المتحابّين في الدنيا في قبر واحد"، قال: وكان عبد الله بن عمرو رجلًا أحمر، أصلع، ليس بالطويل، وكان عمرو بن الجموح رجلًا طويلًا مفرقًا، فدُفنا في قبر واحد، وكان قبرهما مما يلي السيل، فدخله السيل فحفر عنهما وعليهما نمرتان، وعبد الله قد أصابه جرح في وجهه، فيده على جرحه، فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم، فرُدّت يدُه إلى مكانها فسكن الدم"، قال جابر: "فرأيت أبي في حفرته كأنه نائم، وما تغير من حاله قليل ولا كثير"، فقيل له: فرأيت أكفانه؟ قال: "إنما كُفّن في نمرة، خمّر بها وجهه، وجعل على رجليه الحرمل، فوجدنا النمرة كما هي والحرمل على رجليه على هيئته، وبين ذلك ست وأربعون سنة"، فشاورهم جابر في أن يطيّب بمسك، فأبى ذلك أصحاب رسول الله ﷺ وقالوا: "لا تُحدِثوا فيهم شيئًا"، وحوّل من ذلك المكان إلى مكان آخر، وذلك أن القناة كانت تمرّ عليهما، وأخرجوا رُطُبًا يتثنّون".
ومن ذلك ما ذكره الشيخ حمود التويجري رحمه الله في قصص العقوبات والعبر والمواعظ، قال: "ومن القصص ما أخبرنا به الشيخ عبد الرحمن بن فارس بن عبدالعزيز الفارس، وهو من سكان مدينة الرياض، قال: جاء سيل عظيم في وادي حنيفة، في سنة تسع وخمسين وثلاثمئة وألف من الهجرة، فجرَف الناحية التي تلي قبور الصحابة الذين قُتلوا يوم اليمامة في سنة إحدى عشرة من الهجرة، فحصلت فرجةٌ في أحد القبور مما يلي الوادي، وبدا جسد الميت الذي كان في ذلك القبر.
قال الشيخ عبدالرحمن: فبلغني ذلك وأنا في ناحية الجبيلة، فجئت مسرعًا فإذا موضع القبر مرتفع في جانب الوادي لا يوصل إليه إلا بسلّم. قال: فجئت بأخشاب وأسندتها إلى موضع القبر وصعدت عليها، فرأيت الميت في قبره لم يتغيّر منه شيء، وكأنه نائم، وقد كُفِّن في شَمْلَةٍ بيضاء، - والشّمْلة: كساء من صوف أو شعر - ورُبطت الشملة عليه بخوص النخل، وقد بدا وجهه وعيناه وأسنانه ورجلاه، وخرجت عقيصةٌ من عقائص رأسه طولها نحو ذراع، فتدلّت خارج القبر. قال: فرفعتها وأدخلتها في الكفن، ووضعت يدي على صفحة وجهه وكأنّما وضعتها على رجل نائم! قال: ووجهه أبيض يميل إلى السمرة، وما بدا من شعر لحيته فهو أشمط، وعيناه مفتوحتان قليلًا، وقد بقي الخوص الذي رُبِطتْ به الشّملة على لونه أخضر إلّا أنه يابس.
قال: ولما علم به أهل الجبيلة ومن حولهم جعلوا يأتون إليه وينظرون إليه. فذهب إمام أهل الجبيلة ورئيس هيئة الأمر بالمعروف عندهم إلى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فأخبراه بذلك، فأمرهما أن يأخذا معهما رجالًا ونعشًا يحملون الميت عليه، وأمرهم أن يحفروا له في الليل قبرًا في وسط القبور ويدفنوه ويعموا موضع قبره، لئلّا يفتتن به الناس، ففعلوا.
قال الشيخ حمود: لا شك أن هذا الميت من الشهداء الذين قتلوا في المعركة التي كانت بين الصحابة وبين أصحاب مسيلمة الكذاب. فيحتمل أنه من الصحابة رضي الله عنهم، لأنه قد اشتهر عند الناس أن القبور التي في ذلك الموضع قبور الصحابة. ويحتمل أنه من الذين كانوا يقاتلون مع الصحابة وليس منهم. والاحتمال الأول أقرب، والله أعلم. وقد كان بين معركة اليمامة وبين ظهور هذا الميت ألف وثلاثمئة وثمان وأربعون سنة. ومع هذه المدة الطويلة فقد بقي الشهيد على حاله لم يتغيّر منه شيء، ولم يتغير كفنه، ولا الخوص الذي رُبط به الكفن. وفي هذا عبرة لأولي الألباب والعقول السليمة".
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ الله سَبْعُ خِصالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أوَّلِ دَفْعَةٍ مِن دَمِهِ، ويَرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، ويُحَلّى حُلَّةَ الإيمانِ، ويُزَوَّجُ اثْنَيْنِ وسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، ويُجارُ مِن عَذابِ القَبْرِ، ويَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ، ويُوضَعُ عَلى رَأْسِهِ تاجُ الوَقارِ الياقُوتَةُ مِنهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها، ويَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ إنْسانًا مِن أهْلِ بَيْتِهِ". رواه ابن ماجه (٢٧٩٩) وغيره، وصححه الألباني. وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يُفتنون في قبورهم إلّا الشهيد؟ قال: "كَفَى ببارقةِ السِّيوفِ على رأسِهِ فِتْنَة". رواه النسائي (١/ ٢٨٩) وصححه الألباني في أحكام الجنائز، (ص:٥٠) ومعنى "يُفتنون": أي: بسؤال الملكين وهي فتنة القبر، والله المستعان. وعن مسروق رحمه الله قال: "سَألْنا عبدَ الله بنَ مسعود عن هذه الآية {ولا تحسَبَنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتا ، بل أحياء عند ربِّهم يُرزَقون} [آل عمران : الآية 169] فقال : أمَا إنَّا قد سألْنَا عن ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "أرواحُهم في جوف طَير خُضْر، لها قناديلُ مُعَلَّقَة بالعرش، تَسْرَح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطَّلع إليهم ربُّهم اطِّلاعَة، فقال: هل تَشْتَهُون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيء نَشْتَهِي ونحن نَسْرح من الجنة حيث شِئْنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوْا أنهم لم يُترَكوا من أن يُسألُوا، قالوا: يا رب، نُريدُ أن تَرُدَّ علينا أرواحَنا في أجسادنا حتى نُقْتَلَ في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا". رواه مسلم (1887). وبحمد الله تعالى فمن فضله العظيم أن الشهادة ترجى لمن سألها مخلصًا من قلبه، ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة، بدليل قوله ﷺ: "من سألَ الله الشَّهادةَ بصدقٍ، بلَّغهُ الله مَنَازل الشهداءِ، وإن مات على فراشه". رواه مسلم (٢/ ٤٩)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في إغاثة اللهفان (2 / 194): "ومن المعلوم أن الخلق كلهم يموتون، وغاية هذا المؤمن أن يستشهد في الله، وتلك أشرف الموتات وأسهلها، فإنه لا يجد الشهيد من الألم إلا مثل أَلَمِ القرصة، فليس في قتل الشهيد مصيبة زائدة على ما هو معتاد لبني آدم، فمن عدّ مصيبة هذا القتل أعظم من مصيبة الموت على الفراش فهو جاهل، بل موت الشهيد من أيسر الميتات وأفضلها وأعلاها، ولكن الفارّ يظنّ أنه بفراره يطول عمره فيتمتّع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن حيث يقول: (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا). فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلًا، إذ لا بد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه".
من لم يمُت بالسيفِ مات بغيره ... تنوَّعتِ الأسبابُ والموتُ واحدُ
98. أي: يؤخر مطالبتها إلى جذاذ التمر في السنة الآتية.
99. أي: خاصةُ أصحابِه وأحِبَّائه.
100. وهي أنثى المعزى الصغيرة، وتسمى: الجفرة.
101. الوحا: من ألفاظ الحثّ والأمر بالعجلة والإسراع. يُمدّ ويقصر، وهو دومًا منصوب على الإغراء.
102. عرفوا عاداته وصفاته وسنّته لمّا اشتدّ حبهم له واتّباعهم، رضي الله عنهم وأرضاهم.
103. أي: قبيلته الأدنون منه في مجلسهم وناديهم.
104. أي: من قلّة اللحم حينها.
105. أي: تتبعه ملائكة الرحمن بأمر الله تعالى فتحفّه وتشيّعه وتحرسه.
106. أي: عتبة الباب التي يُوطأُ عليها والجمع: أُسْكُفّاتٌ.
107. أي: تقدمت قليلًا للنبي صلى الله عليه وسلم لتُسمِعه كلامها.
108. السَّفِيف: ما يُنسج من الخوص.
109. الصلاة من الله تعالى الثناء، ومن عباده الدعاء، وفيه جواز الصلاة على الشخص بقول: صلى الله عليك، ولكن بلا مداومة، إنما المداومة والالتزام تكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
110. أي: أنظره إلى وقت الصرام المقبل.
111. أي: تعلّل بحجة أن المال مال أيتام.
112. أي: زالت، وقت صلاة الظهر، وفي التنزيل: (أقم الصلاة لدلوك الشمس).
113. أي: من الإسراع والفرح بقضاء دينه، وبإجراء دليل النبوّة على يديه، فقد كان ميزانه يرجح بخرق العادة له ببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
114. لأن منازل بني سلِمة بعيدة عن مسجده صلى الله عليه وسلم، فهم يصلّون في مسجدهم، ولما أرادوا القرب منه بالمنازل أمرهم بالبقاء في منازلهم حمايةً لثغر المدينة. فعند مسلم (664) من حديث جابر قال: أراد بنو سلِمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "إنه قد بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد"؟ فقالوا: نعم، يا رسول الله، قد أردنا ذلك. فقال: "بني سلِمة، ديارَكُمْ، تُكتب آثارُكم، ديارَكم تكتب آثاركم". أي: الزموا دياركم لتكتب خطواتكم إلى المسجد.
115. ليقينه بالصادقِ في حاله ومنطوقه، المصدوقِ من ربِّه وخليلِه صلى الله عليه وآله وسلم وبارك.
116. أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
117. أي: عمر رضي الله عنه.
118. وهذا من محبّتها له صلى الله عليه وسلم، وتبرّكها باتّباعه ودعائه لهما رضي الله عنهما، واغتنامها فرصة خلوّه صلى الله عليه وسلم لهما عن سائر الناس، ونصحها لزوجها بسؤاله صلى الله عليه وسلم الدعاء له ولها.
119. أي: عظم خوفه وشفقته من شدّة محبته له.
120. موسوعة ابن أبي الدنيا (١/ ٤٥٧)
121. وهي ما تسمى اليوم بالغرغرينا، وهي موت أنسجة الجسم، إما لنقص تدفق الدم إليها، وإما لإصابتها بعدوى بكتيرية خطيرة. وتصيب الغرغرينا عادةً الأطراف بما فيها أصابع القدمين وأصابع اليدين، ولكنها قد تصيب أيضًا العضلات والأعضاء الداخلية مثل المرارة.
122. لاستغراقه في مناجاة ربه تبارك وتعالى. "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمرٌ صلّى". رواه أبو داود، (1321) وصححه الألباني.
123. البداية والنهاية (9 / 120 ، 121)
124. صفة الصفوة (٣/ ١٤٠)
125. أي: أصيب بمرض الطاعون.
126. موسوعة ابن أبي الدنيا (٥/ ٣٤١)
127. عن: حياة السلف بين القول والعمل، أحمد الطيار (١/٤٦٠)
128. مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (١/٤٢١)
129. نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (١٠/٣٧٧) عن يحيى الجَلّاءِ أنَّهُ رأى كأنّ أحمد بن حنبلٍ في حلْقة بِالمسجِد الجامع وأحمدَ بنَ أبي دُؤادٍ في حَلْقَةٍ أخرى، وكان رسولُ اللَّه ﷺ واقِفٌ بين الحلقتين وهو يتلو هذه الآية: (فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ) [الأنعام ٨٩] ويُشِيرُ إلى حَلْقَةِ ابْنِ أبِي دُؤادٍ (فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام ٨٩] ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه.
130. رواه الخطيب في تاريخه (٤/ ٤١٨) وابن أبي يعلى في الطبقات (١/١٣) ونحوها عن المزني كما في السير للذهبي (١١/ ٢٠١)
131. البخاري (10 / 94) وأكثر العلماء ضبطوا الصاد بالكسر. قال أبو عبيد الهروي: "معناه: يبتليه بالمصائب ليُثيبه عليها".
132. قطعة من حديث أخرجه أحمد في مسنده (5 / 24) من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبًا للمؤمن لا يقضي الله له شيئًا إلا كان خيرًا له". وسنده جيد. قاله شعيب الأرناؤوط رحمه الله تعالى.
133. السير (٨/٧٣)
134. عن المدخل المفصل لمذهب الإمام أحمد لبكر أبو زيد رحمه الله تعالى (١/٤٠٠) باختصار وتصرف يسير.
135. ذلك أن الغنى غنى القلب، والقناعة كنز لا يفنى، قال ﷺ: «ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس». رواه البخاري (٦٤٤٦)، ومسلم (١٠٥١).
136. أرأيتك بمعنى: أخبرني، تبقى تاؤه على حالها في الإفراد والتثنية والجمع، ويسلّط التغيير على الكاف: أرأيتك، أرأيتكما، أرأيتكم.
137. الخزانة النجدية (3/ 51)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق