هل الأفضل الدعاء برفع بلاء الدنيا، أم الرضا والتسليم؟
الحمد لله، وبعد؛ فإن السؤال هنا محدد محصور، وهو بصيغة أخرى: أيهما أفضل الدعاء برفع البلاء الدنيوي لا الديني، أم ترك الدعاء برفعه، والسباحة في بحر الرضا؟ مثاله: من نزل به مرض أو سُلب مال، أو أصيب بجائحة، أو ظُلم بمظلمة.. ونحو ذلك من خطوب الفانية؛ هل يدعو أو يكف؟
علمًا أنّ الدعاء ليس كالتداوي – وإنْ جامَعَه بطلب الاستشفاء – لأن الدعاء عبادة محضة، وطلب الاستشفاء به تبع لها، ومن ذلك رقية الانسان نفسه، أما التداوي الحسّي فأمر خارج عن ذلك، لذلك لا يدخل ترك الدعاء في مسألة أفضلية ترك التداوي رضًا بالقضاء، والله أعلم.
وهذه المسألة دقيقة، بل إنها في الغاية من الدقة، وإنك إن تأملتها وجدت أن السؤال فاسد في الأصل! ومكمن فساد السؤال هو في افتراضه وجود الشيء ونقيضه أو نقيصه هنا، أي أنه افترض مسبقًا استحالة الجمع بينهما على صفة الوجود أو الكمال، وليس الأمر كذلك، فلا مانع من اجتماعهما على صفة الكمال، ونِعْمَ خُلُق المؤمنِ الرضا، ونِعْمَ ملاذ المؤمنِ الدعاء.
وعليه؛ فيُتَصَوَّرُ امتلاء القلب بالرضا والتسليم واتساعه ببرد الحمد واليقين مع لهجه برفع البلاء، فهذا شيء وذاك شيء، فليس الرضا بالبلاء ملازم لعدم الدعاء برفعه، ذلك أن كلتيهما عبادة مستقلة منفردة عن الأخرى. نعم؛ قد يُرى – ببادي الرأي – تلازم الأمرين بسبب أن طلب الرفع مناقض – أو منقص – للرضا به، وهذا متصوَّر في أمور العباد فيما بينهم، لكنه ليس كذلك في أعمال قلوب المؤمنين مع ربهم، ذلك أن بحر الرضا واسع جدًّا فتنغمس فيه جميع أنواع وأفراد بلاءات الدنيا، فحين تصيب النازلة والرزيّة قلبًا هذا حاله فإنها تنقلب بردًا وسلامًا على ذيّاك القلب المؤمن الراضي، بيد أنه ببصيرته وعلمه يتلمّح ركن التعلّق الأعظم وهو الدعاء، فيدعو مَن أمره بالدعاء، ويوقن أن مَن أمره بالرضا بالقضاء هو من أمره بإلحاح الدعاء، وأنه ابتلاه لحِكَمٍ عظيمة لعل منها أن يكسر صولة نفسه، ويسمع ضراعته ومسكنته، ويملأ قلبه وجوانحه بخالص عبادة الدعاء والرجاء، وتلتذّ نفسُه الراضية المُسلِّمة بالانغماس المطمئن الساكن في جريان المقدور، فيدعو المؤمن الراضي المُبتَلى ضارعًا ربه أن يختار له الخيرة حيثما توجّهت، لعلمه أن الغيب سرّ مكتوم، وأن الخيرة معلقة بلطف الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكرمه ورحمته ورفقه وبرّه، فلا خير في العجلة، ولا عجلة في الخير.
فهو يدعو بكل قلبه مُضمِّنًا توكّله – ومن أفراد توكله تفويض أزمّة الأمور وطلب خيرها إليه سبحانه – وهذا عينُ تضمينِ الدعاءِ الملحّ بخير الأمر وحسن العاقبة، حينها يملأ صدره بدفء وسكينة الرضا، وقلبه بيُمنِ وغنيمة الدعاء، فيحرس الذخيرتين، ويحوز الغنيمتين، ويُحرز الفضيلتين، ويعود بالأجرين: الرضا والدعاء.
وبالجملة؛ فعلى المؤمن أن يدعو برفع البلية في دنياه مضمّنًا دعوته بقلبه – وإن شاء بلسانه كذلك – تفويض الخيرة إليه، فيدعو ربه أن يكشف البلوى إن كان في ذلك خير لدينه، مع تذكّر فضل البلاء بغير الدين من التكفير والأجر والذخر ونحو ذلك. وتشتدّ أهميّة تفويض الخيرة برفع البلاء عند اشتباه الأمور أو استغلاق النفوس، فعند الشيخين (1) عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنّينَّ أحدُكم الموتَ لضُرٍّ ينزل به، فإن كان لا بد متمنِّيًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". وبهذا تجتمع النصوص ولا تتعارض البتة، والحمد لله رب العالمين.
قال ابن القيم رحمه الله: "والعاقل خصم نفسه، والجاهل خصم أقدار ربه، فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئًا مُعَيّنًا خيرته وعاقبته مغيّبة عنك، وإذا لم تجد من سؤاله بدًّا فعلّقه على شرط علمه تعالى فيه الخِيْرة (2)، وقدّم بين يدي سؤالك الاستخارة، ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة، بل استخارة من لا علم له بمصالِحِه، ولا قدرة له عليها، ولا اهتداء له إلى تفاصيلها، ولا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، بل إن وُكِل إلى نفسه هلك كل الهلاك، وانفرط عليه أمره. وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال: تسأله أن يجعله عونًا على طاعته، وبلاغًا إلى مرضاته، ولا يجعله قاطعًا لك عنه، ولا مبعدًا عن مرضاته". (3)
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الراضين وإمام المسلّمين لأمر الله رب العالمين كان يسأل الله العافية ويدعو بكشف البلية عن نفسه، كما قد علّم أمته ذلك، فمن دعائه: "اللهم إني أسألك العافية". (4) وقال: "سَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ". (5) وتأمل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سُحِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى كان يُخيّلُ إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، (6) حتى كان ذات يوم دعا ودعا، ثم قال: "أشَعَرتِ (7) أن الله أفتاني فيما فيه شفائي (8) أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما للآخر: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب (9) قال: ومن طبَّهُ؟ (10) قال: لبيد بن الأعصم، (11) قال: فيما ذا؟ قال: في مشطٍ ومشاقة وجُفِّ طلعة ذكر (12) قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان". فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع: "نخلها كأنه رؤوس الشياطين!" فقلت: استخرجتَه؟ فقال: "لا، أمّا أنا فقد شفاني الله، وخشيت أن يُثير ذلك على الناس شرًّا"، ثم دُفنت البئر". (13) وفي رواية: "فذهب النبي صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها، وعليها نخل، قال: ثم رجع إلى عائشة، فقال: "والله لكأنّ ماءَها نقاعة الحنّاء، ولكأنَّ نخلها رؤوس الشياطين"، قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: "لا، أما أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أُثوّر على الناس منه شرًّا"، وأمر بها فدفنت.
فتأمل وصف عائشة له بإلحاحه صلى الله عليه وسلم على ربه بشفائه بقولها: "دعا ودعا". وهذا الحديث في الصحيحين قاطع في المسألة، وحاسم لموارد نزاعها، فهو صريح في إلحاحه صلى الله عليه وسلم على ربه في طلب شفائه، مع كونه إمام الراضين المُسلّمين الحامدين ربهم قاطبة صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
ولا يرد علينا أن هذا البلاء في الدين، لأن الرسل معصومون من جهة البلاغ، فيستحيل أن يبلغ السحر فيه لمواطن البلاغ من العلم والإرادة والجوارح السالمة من خلل التأدية الكاملة، مع ضميمة تصريح أم المؤمنين بحصر ذلك في أمر إتيان النساء.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم عند عيادة المريض أن يقول: "اللَّهُمَّ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ فَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". (14) وقال لعُثمَانَ بن أَبي العَاصِ لما جاءه يشكو ألمًا يجده في بدنه فقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُل: بِاسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ". (15)
والدعاء برفع البلاء جادّةُ المرسلين والأنبياء والصالحين، قال الله تعالى في شأن موسى عليه السلام: (فخرج منها خائفًا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين)، وقال عن داود عليه السلام: ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ )، وقال تعالى عن يونس عليه السلام: ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )، والمرأة الصالحة آسية جأرت لربها: (ونجني من فرعون). فهذه جادة عباد الرحمن.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كلامه على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَل؛ يَقُولُ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" (16): "في هذا الحديث أدب من آداب الدعاء؛ وهو أنه يلازم الطلب، ولا ييأس من الإجابة؛ لما في ذلك من الانقياد والاستسلام وإظهار الافتقار، حتى قال بعض السلف: "لأنا أشد خشية أن أُحرم الدعاء من أن أُحرم الإجابة".
قال الداودي رحمه الله: "يُخشى على من خالف وقال: قد دعوت فلم يُستجب لي؛ أن يُحرم الإجابة وما قام مقامها من الادّخار والتكفير"! وإلى ذلك أشار ابن الجوزي بقوله: "اعلم أن دعاء المؤمن لا يُردّ، غير أنه قد يكون الأولى له تأخير الإجابة، أو يعوّض بما هو أولى له عاجلًا أو آجلًا، فينبغي للمؤمن أن لا يترك الطلب من ربه، فإنه مُتَعَبَّدٌ بالدعاء، كما هو متعبّد بالتسليم والتفويض". (17) وتأمل آخر جملة من حروف ابن الجوزي رحمنا الله وإياه.
والمقصود؛ أن الله تعالى قد أمرنا بدعائه والتضرع إليه لكشف الكروب: (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)، ودعاؤه عبادة، قال الله تعالى: ( وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )، (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب)، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّا. وشاهد الكلام أن الله تعالى قد أمرنا بالدعاء وبالصبر والرضا، ووعد المثوبة للصابرين فقال: ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ).
وبالجملة؛ فليس المُلِحُّ على ربه بكشف كربه بمعترض على قدَره ولا بناقض الرضا بتدبيره، فالذي قضى هو من أمر بالدعاء، وهو من أمر باتخاذ الأسباب المشروعة، وهو من جعل الدعاء سببًا موصلًا لمرضاته ولإعطاء عبده رغيبته طلبًا أو هربًا أو دفعًا أو رفعًا أو جلبًا أو إعصامًا، فالأمر أمره، والخلق خلقه، والعبد عبده، والدين دينه، (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
فالدعاء ثبات على طريق بلوغ المراد ضمن الأسباب المشروعة، والدعاء أحدها، بل من أعظمها وأقواها، وهو سيما العبودية، وختم الإيمان. والدعاء شفاء، قال ابن القيم رحمه الله: "من أنفع الأدوية: الإلحاح في الدعاء". (18)
وعليه؛ فليس بين الرضا بالبلاء والدعاء برفعه تعارض حتى يُلجأ فيه إلى الترجيح، فالسؤال فاسد أصلًا، لأن جهتي الأمرين في الحكم منفكّتان، فيمكن للعبد الدعاء لرفع البلاء مع رضاه التام به. ولكن هذا يحتاج لسعة نظر وجمال تأمّل، لأنه مشتبه على كثير من الناس، ومن هنا جيء بالسؤال - على ما فيه – لاشتباهه، ومن ثمّ الإجابة عليه.
ونزيد التوضيح فنقول: لا تعارض في الحقيقة بينهما، لأن المؤمن مأمور بتحصيل خيري الدنيا والآخرة ودفع شرّهما عن نفسه، كما أنا قد أُمرنا بالأخذ بالأسباب، ومن أعظمها التوكل والدعاء، فهما قطبي التحصيل بإذن الله، وهما سرّي نفوذ البركة لأصحابهما بإذن الله، ويدخل في ذلك الدعاء برفع النازلة الخاصة والإلحاح فيها خاصة إن خاف أن تشوّش عليه جمعيّة قلبه مع ربه تبارك وتعالى.
وتزيد أرجحيّة الدعاء برفع النازلة الخاصة في حال مزاحمة حملها للدين، أو تشويش الجمعيّة، أو إشغالها عن أمور يظن المُبتَلَى أنها خير له من مجرد الرضا بالنازلة، كمن يدعو بشفاء جسده ليجاهد في سبيل الله، أو لإعانته على تذوّق حلاوة التهجد والمناجاة، أو ليقوم على والديه المحتاجين له، أو نفع الناس في دينهم ودنياهم، ونحو ذلك، مع الرضا التام والتسليم المطلق؛ لأنه يعلم أنه بِعَينِ من يعلم العواقب ويرحم عبده ويرفق ويلطف به ويختار خيرته، لذا: فأحبّه إليه أحبّه إلى الله عز وجل، كما جاء عن عمران بن حصين رضي الله عنهما وغيره، ولعل عمران قد قصد بذلك تعليق الدعاء لشفائه بالخِيْرة، قال الحسن: "وكان في مرضه تسلّم عليه الملائكة، فاكتوى ففقد التسليم، ثم عادت إليه، وكان به استسقاء فطال به سنين كثيرة وهو صابر عليه، وشُقّ بطنه وأخذ منه شحم، وثقب له سرير، فبقي عليه ثلاثين سنة، ودخل عليه رجل (19) فقال: يا أبا نجيد، والله إنه ليمنعني من عيادتك ما أرى بك! فقال: يا ابن أخي فلا تجلس، (20) فوالله إن أحبَّ ذلك إليّ أحبّه إلى الله عز وجل". (21)
مع التنبيه إلى أن الدعاء يكون بالثناء – وهو الأشرف- وبالسؤال، وكلاهما عبادة مقصودة. علمًا بأن المؤمن عند النازلة لا يكتفي بالدعاء برفعها فقط، بل يدعو ويدعو ويتفنن في طرائق الدعاء، لأمور:
الأول: أن كثيرًا من الدعاء هو دعاء الثناء كالحمد والشكر والتسبيح والتكبير والقرآن ونحو ذلك. قال في مرقاة المفاتيح: (22): "وقال أمية بن الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني ... حِبَاءُك إن شيمتك الحِباءُ
إذا أثنى عليك المرأُ يومًا ... كفاهُ من تعرضكَ الثناءُ
قال سفيان بن عيينة: "فهذا مخلوق حين نُسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق"! والدعاء قد يكون صريحًا، وقد يكون تعريضًا، فإن الثناء على الكريم يتضمن الدعاء، والسؤال تعريضًا بألطف إيماء كمدح السائل والشاعر". (23)
الثاني: أن دعاء المسألة وبخاصة جوامع الدعاء يستغرق صلاح الدين والدنيا – ومن ضمنه كشف تلك النازلة- وصلاح العاقبة بالمغفرة والرحمة والرضا والجنة وما إلى ذلك. فتأمل دعوة المؤمن بقوله: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". (24) وقوله: "اللهم إني أسألك من الخير كلّه عاجله وآجله ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشرّ كلّه، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شرّ ما عاذ به عبدك ونبيّك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب منها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيتَه لي خيرًا، اللهم إني أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله". (25) وقوله: "اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي".(26) وقوله: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال". (27) ونحو تلك الجوامع الدُعائية.
ومما يلحق بذلك: أنه لا حرج على من ترك الدعاء برفع بليّة الدنيا تسليمًا للقضاء، ولكنه خلاف الأفضل، فهو وإن حاز مرتبة الرضا لكنه قد فوّت على نفسه حظها من دعاء العبيد ربهم في شؤون دنياهم، فالله تعالى حيٌّ قيّوم صَمَدٌ يقوم بمصالح عباده ويصمد لهم بقضاء حوائجهم، وهذا من مقتضيات ربوبيته تبارك وتعالى. والدعاء داخل في توحيدَيّ الربوبية والعبادة، فالربوبيّة من جهة أن دعاءه متضمّن الإيمان بمُلْك الله المطلق وتدبيره التام الذي لا يشاركه فيه غيره، والعبادة من جهة استجابته لأمر ربه جل وعلا: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). وعن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه فاستكسُوني أكسُكُم". (28) قال الحافظ ابن رجب: "الله يحب أن يسأله العباد جميع مصالح دينهم ودنياهم من الطعام والشراب والكسوة وغير ذلك كما يسألونه الهداية والمغفرة، وفي الحديث: "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع" (29) وكان بعض السلف يسأل الله في صلاته كل حوائجه حتى ملح عجينه وعلف شاته.. فإن كل ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهر حاجته فيه وافتقاره إلى الله، وذاك يحبه الله، وكان بعض السلف يستحي من الله أن يسأله شيئًا من مصالح الدنيا، والاقتداء بالسنة أولى". (30) أي أن السنة سؤال الله تعالى كل أمور الآخرة والدنيا. وسؤال الله تعالى أمور الدنيا معين على أمور الآخرة، كما قال سبحانه: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)، ولكن عند المزاحمة في الدعاء كحال الصلاة أو أوقات الإجابة المضيّقة فينبغي أن يتوجه العبد لرغائب الآخرة دون الدنيا، إلا ما كان مُلِحًّا عليه أو مشوّشًا لجمعية قلبه على ربه ونحو ذلك. قال ابن تيمية رحمه الله في شأن ترك الأسباب المشروعة: "ولهذا تجد عامة هذا الضرب التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك.
فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة، وإما أن يتركوا لأجل ما تبتّلوا له من الغلو في التوكل واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك، كمن يصرف همّته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء، أو نيل رزقه بلا سعي، فقد يحصل ذلك، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف والسعي اليسير، وصرف تلك الهمة، والتوجه في علمٍ صالح أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتّله لهذا الأمر اليسير الذي قدْرُه درهم أو نحوه". (31) ومقصوده رحمه الله أنّ أولوّية صرف الهمّة القلبية من التوكل ونحوه للأمور الكبار أولى مما سواها؛ ذلك أن للنفس قدر محدود من الطاقة مهما كانت قوّتها، ومتى صُرف شيء من الهمّ القلبي لغير الأمور الكبار تشتت قوّة همته وطاقة قلبه، ونقص عمل قلبه ذلك – أيًّا كان - بقدر ما صرف من تشتيت طاقته، فإذا صرف كل همّة قلبه علمًا وعملًا وأعملها في مصالح آخرته صفَتْ قوُّتُه من كَدَر الأمور اليسيرة، فصار كل توجّهه لتحصيل عَمَار قلبه بالإيمانيات وآخرته برفيع الدرجات، ثم انتظمت له مع هذا النعيم سائرُ أمور حياته صغيرها وكبيرها، لأن الله وليّه وكافيه تبارك وتعالى.
وبعد هذا؛ فالمحصّلة أن القسمة رباعية: فالأكمل: الرضا والدعاء – علمًا أنّ الدعاء لا يُنقص الرضا-، ويليه الرضا وترك الدعاء برفع النازلة المعيّنة، ويليهما الدعاء برفعها مع نقص الرضا بالقضاء، وأما الرابعة فمرتبة المخذولين فلا رضًا ولا دعاء.
وسبب تقديم الرضا في المرتبة الثانية على الدعاء برفع النازلة (وهي المرتبة الثالثة) لأن الرضا عبادة مقصودة لذاتها، وهو من أصول الإيمان ومن مكملاته كذلك التي لا ينفك عنها بحال، فوجوده أصل في الدين وكمالُه من كمالاته، أما الدعاء برفع النازلة المعيّنة فهي – وإن كانت في مرتبة عالية في الدين والإيمان – إلا أنها مرجوحة هنا إن وزنت بالرضا لأنها دعاءٌ لتحصيل دنيا، وزوال الرضا بالقضاء هنا محرم، (32) أما ترك الدعاء برفعه فالعبد فيه بالخيار؛ إن شاء دعا وهو الأفضل والأكمل، وإن شاء اكتفى بالرضا مع تفويض الأمر كله لله.
علمًا أن الدعاء بحد ذاته هو عبادة شريفة من أجلّ العبادات، وهذا ملحظ عظيم فالداعي لكشف الكرب عليه أن يحرك قلبه بتنبيهه لشأن عبادةِ الدعاء مع رجاء كشف الضراء، فعلى المرء أن يتذكّر أن دعاءه عبادة بذاتها، فليذكّر قلبه بذلك عند رفع يديه ضراعةً لخالقه لطلب رغيبته وكشف ضرّه، قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى: "وينبغي لمن دعا ربه في حصول مطلوب أو دفع مهروب، ألا يقتصر في قصده ونيته في حصول مطلوبه الذي دعا لأجله، بل يقصد بدعائه التقرب إلى الله بالدعاء وعبادته التي هي أعلى الغايات، فيكون على يقين من نفع دعائه، وأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها، فإنه يجذب القلب إلى الله، وتلجئه حالته للخضوع والتضرع لله الذي هو المقصود الأعظم في العبادة.
ومن كان قصده في دعائه التقرب إلى الله بالدعاء وحصول مطلوبه فهو أكمل بكثير ممن لا يقصد إلا حصول مطلوبه فقط كحال أكثر الناس، فإن هذا نقص وحرمان لهذا الفضل العظيم، وفي مثل هذا فليتنافس المتنافسون. وهذا من ثمرات العلم النافع، فإن الجهل منعَ الخلق الكثير من مقاصد جليلة ووسائل جميلة، لو عرفوها لقصدوها، ولو شعروا بها لتوسلوا إليها، والله الموفق". (33)
مسألة: هل ينسحب هذا التقرير على الدعاء للغير برفع نازلة دنياهم؟ أي هل يدخل في ذلك الدعاء برفع البلاء عن الغير.
الجواب: نعم، مثلًا بمثل سواء بسواء، بيد أن الدعاء برفع البلاء عن النفس تكون فيه معاني العبودية – غالبًا – كالرضا والإخلاص والاضطرار والتعلق أظهر وأشدّ، أما الدعاء برفع البلاء عن الغير فإن فيه مزيد الإحسان للناس وهي عبادة لله محبوبة، ففي الدعاء للغير تحقيق محض النصح له ومحبته، وهما من حقوق الإسلام وأخلاق أهل الإيمان، فالدين النصيحة، فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة" ثلاثًا. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم".(34) ومن مكملات الإيمان محبة أهله، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". (35) كما يتبع ذلك دعاء الملائكة للداعي بمثل ما دعى به، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملَك: ولك بمِثْل". (36) وهم خلْقٌ كرام على الله تعالى محبوبون له حَرِيّون أن يُستجاب لهم. وبالله التوفيق ومنه الهدى. وقد أحسن الشاعر فاضل أصفر حين صدح:
وأصعبُ الجرحِ جرحُ الروحِ أحسَبُهُ ... وأهونُ الجرحِ سَيَّالٌ ببعضِ دمِ
وأعظمُ الصبرِ صبرُ المرءِ يتبعُه ... حمدٌ وشكرٌ وتسليمٌ لذي الكرمِ
كم من فقيرٍ صحيحٍ طابَ مرقدُهُ ... وكم ثريٍّ من الأوجاعِ لم ينمِ
وكسرةُ الخبزِ في أكنافِ عافيةٍ ... ألذُّ طعمًا من السلوى مع السقمِ
وسائلُ الناسِ متروكٌ لخيبتِهِ ... وسائلُ الله لم يُحرَم من النِّعَمِ
إبراهيم الدميجي
aldumaiji@gmail.com
........................................
1. البخاري (5671)، ومسلم (2680)
2. الخيرة: بسكون الياء من الخير، وهي المقصودة هنا، أما بفتح الياء فهي من الخيار، ومنه قوله تعالى: (ما كان لهم الخيرة).
3. مدارج السالكين (١/ ١٦٩)
4. مسلم (2712)
5. البخاري (7237) ومسلم (1742)
6. أي: إتيان النساء. ففي رواية أخرى للبخاري، وفيها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن". قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السحر إذا كان كذا.
7. أشعرتِ: أي هل علمتِ، وهو أسلوب تنبيه ليعي المُخَاطب ما سيُقال له بعدُ.
8. وفي لفظ: "فيما استفتيته" وكلاهما بمعنى، أي شفاني حين دعوته بالشفاء.
9. أي مسحور. سمّي بذلك تفاؤلًا بالطب الذي هو العلاج، كما قيل للديغ: سليم، تفاؤلًا بالسلامة، وللصحراء الشاسعة مفازة تفاؤلًا بالفوز بتجاوزها بالسلامة، وللمسافرين الكُثُر على الجمال قافلة تفاؤلًا بالقفول وهو الرجوع.. وهكذا.
10. أي: من سَحَرَه؟
11. وفي رواية: أنه رجل من بني زريق حليف ليهود، وكان منافقًا. وقيل: بل هو يهودي. وقال الحافظ في فتح الباري (1 / 329) "حديث عائشة: سَحَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم، ذكر ابن سعد في الطبقات أن متولي السحر أخوات لبيد، وكُنّ أسحر منه، وأنه هو الذي دفنه. وفيه: "أتاني رجلان" في رواية الطبراني بلفظ: "أتاني ملكان" ويحتمل أن يكونا جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام كما في حديث سعد بن أبي وقاص".
12. وفي رواية: "ومُشاطة" بدلًا من "ومشاقة" وكلاهما بمعنى. قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري (9 / 441): "قال الليث وابن عيينة عن هشام: "في مشط ومشاقة" قال أبو عبد الله -وهو البخاري-: يقال المُشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط، والمشاقة من مشاقة الكتان. قال المهلب: والجُفّ: غشاء الطلع، وقال أبو عمرو الشيباني: الجف: شيء ينقر من جذوع النخل".
فالجف: وعاء طلع النخيل وغشاؤه الذي يُكِنُّه، ويسمّى في زماننا: الكُمّ. والمقصود أن الساحر الفاجر قد عَقَد عُقَدَ السحر بشعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت تتساقط وتجتمع في المشط من تسريحه لشعره، ثم جعل ذلك في داخل الجف، ثم وضع الجف تحت راعوفة بئر ذروان. وذروان : بئر في بني زريق، والراعوفة: صخرة تترك في أسفل البئر إذا احتُفرت، توضع ليجلس عليها مستقي الماء حين يمتحه ويغرفه من قاع البئر، كذلك إذا أرادوا تنقيتها فيجلس المُنقّي عليها. وكل ذلك إمعانًا في إخفاء سحره وشرّه، ولعل في تعمّده جعل السحر قريبًا من مجرى الماء الأسفل في الأرض سرًّا شيطانيًّا يختص به السحرة، قاتلهم الله. فكبيرهم إبليس يضع عرشه على الماء مضاهاة لرب العزة جل جلاله، وأنّى له ذلك، وتعالى الله وتبارك وتقدس.
والسحر قد يتسلط على العقول فيخيل لها أشياء على غير حقيقتها، وقد يتسلّط على الأبدان فيُمرض ويقتل، لكنه لا يحيل الذوات لغيرها، كأن يقلب الرجل لحيوان، أو الخشب لذهب ونحو ذلك، فهذا محال، وهو من خصائص الربوبية لله تعالى، قال سبحانه: (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون). قال شيخنا عيسى السعدي حفظه الله: لا شكّ في حقيقة السحر، وأنه ليس مجرّد تخييل، ولكن لا يمكن أن يصل تأثيره إلى درجة إحالة الذات إلى ذات أخرى؛ لأن قلب الأعيان لا يقدر عليه أحد إلا الله؛ قال تعالى: ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له )، وفي الصحيح: "قال الله عز وجلّ: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرّة، أو ليخلقوا حبة أو شعيرة". رواه البخاري: (٧٥٥٩)
13. البخاري (3268) واللفظ له، ومسلم (2189)
14. الترمذي (3565) وصححه الألباني.
15. مسلم (2202)
16. البخاري (6340) ومسلم (2735)
17. فتح الباري (11/ 141) باختصار.
18. الجواب الكافي (25)
19. وهو مطرف بن عبد الله رحمه الله، وكان من خاصته رضي الله عنه.
20. أي لا تجلس في بيتك تاركًا عيادتي.
21. أسد الغابة، لابن الأثير (1 / 869) (1314)
22. المرقاة (8 / 352)
23. أما حديث: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين". فالأكثرون على تضعيفه. قال الحافظ في الفتح (9 /66): "رجاله ثقات إلا عطية العوفي ففيه ضعف". وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6435)
24. البخاري (6389) واللفظ له، ومسلم (2690) عن أنس قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
25. ابن ماجه (3846) عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّمها هذا الدعاء. ورواه ابن حبان (869)، والحاكم (1 / 512- 522) وصححه الألباني.
26. أبو داود (5074) وأحمد (2/25) (4785) وصححه الألباني.
27. البخاري (4/28 ، 8/98) ومسلم (8/75) عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: "التمس غلامًا من غلمانكم يخدمني". فخرج أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضَلَعِ الدين وغلبة الرجال". ومعنى ضَلَعِ الدين: الضلع: الاعوجاج، والمقصود ثقل الدين حتى يميل صاحبه عن الاستواء. وقال النووي في شرح صحيح مسلم (9/26): "الكسل: هو عدم انبعاث النفس للخير وقلة الرغبة مع إمكانه. وأما العجز: فعدم القدرة عليه، وقيل: هو ترك ما يجب فعله، والتسويف به، وكلاهما تستحب الاستعاذة منه.. وأما استعاذته من الجبن والبخل، فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات والقيام بحقوق الله تعالى وإزالة المنكر.. وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الأخلاق". وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/207): "الضلع هو الاعوجاج، والمراد به هنا ثقل الدين وشدته، وغلبة الرجال: أي شدة تسلطهم كاستيلاء الرعاع هرجًا ومرجًا". وقال ابن القيم في بدائع الفوائد (2 / 433) "فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان؛ فالهم والحزن قرينان، وهما من آلام الروح ومعذباتها، والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب، وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح، فإن تعلق بالماضي سمّي حزنًا وإن تعلق بالمستقبل سمّي همًّا. والعجز والكسل قرينان، وهما من أسباب الألم لأنهما يستلزمان فوات المحبوب؛ فالعجز يستلزم عدم القدرة، والكسل يستلزم عدم إرادته، فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به والتذاذها بإدراكه لو حصل. والجبن والبخل قرينان، لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم؛ لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة، والبخل يحول بينه دونها أيضًا، فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام. وضلع الدين وقهر الرجال قرينان، وهما مؤلمان للنفس معذبان لها، أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين، والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال، وأيضًا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب، وغلبة الرجال قهر بغير اختياره".
28. مسلم ( 2577 )
29. الترمذي (3682) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4949)
30. جامع العلوم والحكم (1 / 225)
31. الفتاوى الكبرى (1 / 109)
32. فالرضا بالقضاء واجب وفريضة، وهو أحد أركان الإيمان التي لا يصح إلا بها. أما الرضا بالمَقضِيّ فمستحبّ. والمقضيّ هو مفعولات الله تعالى بعبده، فليس المراد هنا فعل الله بل المقصود مفعوله، أي ليس صفة الله التي هي الخلق والتقدير، بل هو مخلوقُ الله تعالى الذي هو نفس المصيبة. فالقضاء أمر الله والمقضيُّ خلْقُه، والقدر أمرُ الله والمقدور خلْقُه، مثاله: المرض، فالمرض يكتنفه جانبان: الأول: من جهة أن الله هو الذي قدّره؛ فهذا هو النوع الأول وهو القضاء والقدر، الثاني: من جهة ذات المرض والإحساس به والتألم منه، فهذا هو المراد هنا، فهو المقضيّ والمقدور.
وهذا النوع – أي الرضا بالمقضيّ – قد اختلف العلماء في حكمه بين الوجوب إلحاقًا بالنوع الأول، لأنها في النهاية راجعة إلى قضاء الله تعالى، والاستحباب لانفكاك جهته تصوُّرًا في الذهن، لأنه مخلوق من جملة المخلوقات، وليس هو ذات القضاء والقدر، كذلك لمشقة هذا النوع على أكثر الناس، وربما يكون فيه نوع حرج على كثير منهم، والشريعة لا تأتي بالحرج بل برفعه، (ما جعل عليكم في الدين من حرج)، (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها).
33. الفتاوى السعدية (١٥)
34. مسلم (55)
35. البخاري 1/10 ( 13 )، ومسلم 1/49 ( 45 ) ( 71 )
36. مسلم 8/86 (2732) (86) ومعنى بمثل: أي أعطاك الله مثل ما دعوت لأخيك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق