نظرًا لتعارض هذا النوع من المعرفة الصوفية مع المنطلق المنهجي الأساسي الذي يقوم عليه اتجاه المعارضين المحدثين للتصوف - وهو الاتباع التام للكتاب والسنة، والتعويل الكامل عليهما في كل أبواب الدين – فقد هاجموا المعرفة الذوقية الصوفية المعولة كثيرًا على الكشف والإلهام والرؤى، وما ترتب عليها من القول بالتفرقة بين الظاهر والباطن، أو بين الشريعة والحقيقة.
فقد رأى البعض أن العقيدة الصوفية تختلف عن عقيدة الكتاب والسنة من كل وجه؛ من حيث التلقي والمصادر، أي مصدر المعرفة الدينية؛ ففي الإسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن أو سنة لكن في التصوف تثبت العقيدة بالإلهام والوحي المزعوم للأولياء والعارفين والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول حيث يستمد العلوم منه في زعمهم، وبلقاء الرسول في اليقظة والمنام حسب زعمهم، وبالرؤى... وبالجملة ، فالمصادر الصوفية للغيب كثيرة جدًا .
ولما تعددت هذه المصادر على هذا النحو، كانت العقيدة نفسها واسعة متطورة متغيرة مختلفة بل ومتناقضة بين صوفي وصوفي حيث كل منهم يزعم أنه يخبر بما أدَّاه إليه كشفه هو، وما ورد على خاطره وما قاله له الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ألقاه الملك إليه أو اطلع عليه بنفسه في اللوح المحفوظ([1]).
وعليه فقد استنكر المعارضون للتصوف أن تجعل الصوفية " الذوق " هو وسيلة المعرفة، دون الشرع والعقل، فهم بذلك - على حد رأيهم - قد قصروا رحمة الله على فئة قليلة من عباده، وصيرت الإنسان كمن يمشي في ضوء الشمس وهو مغمض عينيه، فلا يستفيد من ضوئها، أم كمن يحاول أن يبصر في الظلام فلا يستفيد من عينيه، وكان نتيجة ذلك كما يذكرون أن اختلفت طرائقهم وأفكارهم، وصارت مصادر المعرفة عندهم مختلفة ومتباينة؛ لأن كل صوفي يتحدث عن المعرفة من واقع تجربته الخاصة .
ومن هذا المنطلق كتب عبد الرحمن الوكيل في كتابه " هذه هي الصوفية " عن مفهومالذوق عند الصوفية، يقول : " يدين الصوفية ببهتان آخر يدمغها بالمروق عن الإسلام، ذلك هو اعتقادها أن الذوق الفردي – لا الشرع، ولا العقل – هو وحده وسيلة المعرفةومصدرها. معرفة الله وصفاته، وما يجب له، فهو - أي الذوق – الذي يُقوِّم حقائق الأشياء، ويحكم عليها بالخيرية أو الشريَّة، بالحسن أو القبح، بأنها حق أو باطل، فلا جرم أن تدين الصوفية بعدد عديد من أرباب وآلهة، ولا عجب أن ترى النِّحلة منها تعبد وثنًا بغير ما تعبد به أخرى، أو تخنع لصنم يكفر به سواها من النحل الصوفية، لا عجب من ذلك كله، ما دامت تجعل " الذوق " الفردي حاكمًا وقيمًا على المسميات ، فيضع للشيء معناه مرة، ثم ينسخه بنقيضه مرة أخرى. هذه الحدة في توتر التناقض صبغة الصوفية دائمًا في منطقها المخبول..."([2]).
فعنده كل صوفي يؤمن بأن الذوق وحده وسيلة المعرفة، أما العقل عندهم فطاغوت أخرق، وأما الشرع فمادية تنشب مخالبها في الصخر ، دون أن ترمق السماء بنظرة واحدة! أو هو نوع من عبادة التاريخ الميت؛ ولهذا تتباين عندهم قيم الأشياء تبعًا لتباين الأذواق!!
وهذا التعميم من الوكيل يدحضه ما قد استعرضناه من قبل من أقوال الصوفية في هذا الأمر، وكيف رأيناها في مجموعها دالة على هذا الرباط الوثيق بين المعرفة العلمية، معرفةالعقل المسترشد بنور الإيمان، وبين المعرفة الذوقية بحيث لا تشرق الثانية في قلب العالم ما لم يجتهد في تحصيل المعرفة الأولى .
ثم يتهكم قائلاً: إن من جعل " الذوق " وحده الوسيلة إلى المعرفة كان حقًّا من العارفين بكنه الحقائق الربانية، بمعنى أن من استمد معرفته عن طريق الذوق كان هو العارف المكمل، أما من يستمد معرفته من الدين فهو من أهل الظاهر المحجوبين عن إدراك كنه الحقيقة الإلهية الكبرى وقد شطح بهم الذوق الأسطوري إلى اعتناق خرافة : "وحدة الوجود " ، وبالتالي إلى اعتناق خرافة " وحدة الأديان " بالمعنى الصوفي([3]) .
أما عبد الرحمن عبد الخالق فرأى أن المتصوفة قد أصَّلوا الأصول على ترك العلم الشرعيوالتنفير منه، وكذلك النهي عن العلم، ثم الدعوة : " إلى العلم الباطني الذي أطلقوا عليه اسم الحقيقة، وقالوا: إن طريق الوصول إليه هو الكشف والفتح الرباني والفيض الرحماني. لنعلم أنهم لا يعنون بالعلم الباطن إصلاح حال القلوب كما يزعم بعضهم، بل إنهم يعنون علمًا خاصًا يكشفون به حقائق يزعمون رؤيتها والتحقق بها. ولقد بالغوا في تفضيل هذا العلم، وتشديد التنكير على من نفاه أو خالفه"([4]).
والمعلوم أن الكشف نور يحصل للسالكين في سيرهم إلى الله تعالى؛ يكشف لهم حجاب الحس، ويزيل دونهم أسباب المادة نتيجة لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة وخلوة وذكر، فالعبد إذا غضَّ بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وعمَّر باطنه بمراقبة الله تعالى، وتعوَّد أكل الحلال لم يخطئ كشفه وفراسته، ومن أطلق نظره إلى المحرمات تنفست نفسه الأمارة بالسوء في مرآة قلبه فطمست نورها، وفي الحديث الشريف: " اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" ([5]).
وهذا الادعاء بالكشف - في رأي الدكتور جميل غازي - دفع الصوفية إلى أن يقسموا الدين إلى شريعة وحقيقة، وإلى ظاهر وباطن، فأما أهل الظاهر عندهم فهم أهل الشريعة ومن بينهم علماء المذاهب الأربعة وفقهاء الشرع وعلماء الحديث ، وهؤلاء يعتبرهم الصوفية طبقة العوام من الناس. لماذا؟ لأنهم يؤمنون بالنصوص الشرعية دون اللجوء إلى التأويل. أما أهل الباطن أو أهل الحقيقة والطريقة فيعتبرهم الصوفية الخاصة من الناس الذين يعتمدون على تأويل النصوص الشرعية عن طريق ما يسمونه بالكشف والخواطر والأحلام..
ثم يصف قول بعض أقطاب الصوفية بعدم تفرقتهم بين الشريعة والحقيقة بأنه : "كلام يقولونه بأفواههم فقط هروبًا من اتهام صادق موجه ضدهم بالتناقض مع الإسلام"([6]).
والوكيل في مقال له يصف الصوفية باليهود، فهم زعموا كما زعم صوفية اليهود وغيرهم أن الدين شريعة وحقيقة، أو ظاهر وباطن ، يقول ابن عجيبة عن علم التصوف : "وأما واضع هذا العلم ، فهو النبي(صلى الله عليه وسلم) علمه الله له بالوحي والإلهام، فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة، فلما تقررت نزل ثانيًا بالحقيقة، فخص بها بعضًا دون بعض ... " وإنها لَفِرْية جائرة الإفك على رسول الله، وبَهت له بجريمة ملعونة، جريمة كتمان العلم، وأي علم؟ إنه علم الحقيقة في دين الصوفية!!
وكان ابن عجيبة - في رأي الوكيل - صوفيًّا شجاعًا! نعم؛ لأنه أفصح فعلاً عن عقيدة الصوفية دون محاورة أو مداورة أو مداهنة، وهذه الصوفية من القول بالظاهر والباطن تذهب إلى التحلل من أحكام الشريعة، وانتهاك محارم الله جهرة!
ثم يتساءل : أين الشريعة والحقيقة؟ أهما في كتاب الله أم لا ؟ لا يستطيع أحد سوى الكفار أن تبهت القرآن بأنه خلي من الحقيقة؛ إذن لا حاجة بنا إلى أن نتصوف، بل نحن دائمًا إلى أن نكون مسلمين، وكتاب الإسلام كتاب الله سبحانه([7]).
وعلى الرغم من أننا قد أشرنا فيما سبق إلى آراء الصوفية في عدم التفرقة بين الشريعة والحقيقة إلا أنه من الملاحظ أن المعارضين للتصوف قد حرصوا على تجريده من كل منقبة، أو مجال للمدح والثناء، لاسيما تلك الجوانب التي ما فتئ الصوفية يلحون عليها، ويجعلونها من مفاخرهم، ودلائل صحة مذهبهم.
وربما كان أوضح نموذج في هذا الصدد ، هو طريقة تعاملهم مع العبارات العديدة المنقولة عن الصوفية، وخصوصًا أئمتهم الأوائل، والتي يؤكدون فيها على وجوب اتباع الكتاب والسنة، والتقيد بما فيهما، وبيان أن طريقهم نابع من الشرع، وموصول به، ومعتمد عليه في أصوله وفروعه، ومن تلك الأقوال، ما حكي عن إمام الطائفة الجنيد أنه قال: "مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة، وعلمنا هذا مشيد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وقال أيضًا: " كل الطرق مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وغير ذلك الكثير من أقوالهم .
وكان بوسع المعارضين للتصوف أن يستفيدوا من هذه الأقوال، ويوظفوها توظيفًا حسنًا؛ كأن يستشهدوا بها كدليل على التفرقة بين التصوف المذموم والآخر المعتدل، وأن يجعلوها حجة لإلزام المنحرفين عن الشرع من الصوفية بأقوال أئمتهم، ومن يجلُّونهم.
أما قصة الخضر عليه السلام – كما يرى عبدالرحمن عبدالخالق - فقد جعلها المتصوفة بابًا عظيمًا لإدخال كل أنواع الخرافات والزندقة والجهل والإسفاف.. بل بلغ الهذيان وحده عندهم حيث يوجد من زعم منهم أن الخضر لا يصلي لأنه على شريعة خاصة!! ومنهم من زعم أن الخضر يصلي ولكن على المذهب الحنفي!! ولكن صوفيًا آخر يزعم أنه رأى الخضر يصلي ولكن على المذهب الشافعي!! بل وأكثر من ذلك زعموا أن الخضر هو الذي يلقن أذكار الطريقة الإدريسية والسنوسية.
باختصار لقد تحول الخضر إلى قصة خرافية كبيرة أشبه بقصة ما يسمونه بالسوبرمان الذي يطير في كل مكان، ويلتقي بالأصدقاء والخلان في كل البلدان، ويشرع للناس ما شاء من عبادات وقربات، ويلقن الأذكار وينشئ الطرق الصوفية، ويعمد الأولياء والأقطاب، ويولي من يشاء، ويعزل من يشاء ([8]) .
وأبرز ما يلاحظ على صاحب هذا الرأي أنه يتعقب الآراء الشاذة، ثم يعممها على جميع الصوفية في أسلوب ساخر ومتهكم؛ لأنه إن كان يقصد من قصة الخضر عليه السلام كراماته، فالمعلوم أن الصوفية المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - يهتمون بتزكية النفس، وتخليصها من صفاتها الذميمة، وتحليتها بالصفات الحميدة، كما أنهم يستترون من الكرامة بعدًا عن شبهة الرياء، والافتخار، وخوفًا من احتمال أن تكون من قبيل الاستدراج، وأقوالهم الصحيحة كثيرة في هذا المجال .
http://kenanaonline.com/users/Dr-mostafafahmy/posts/420779
http://kenanaonline.com/users/Dr-mostafafahmy/posts/420779
المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق