| |||
19-10-2013 | د. عامر الهوشان | |||
ومن العقائد الباطلة الموجودة عند معظم المذاهب الفكرية الهدامة القديمة و المعاصرة, عقيدة الحلول والاتحاد, فالنصارى يقولون بحلول اللاهوت في الناسوت, أي حلول الذات الإلهية في جسد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام, واليهود يقولون بالحلول الإلهي في إسرائيل وفي شعبه المختار وأحيانا في الأرض المقدسة التي يدعون أن الله تعالى وعدهم بها (فلسطين).
من الملاحظات التي تثير الانتباه وتدفع المرء إلى مزيد من البحث والدراسة, التوافق والتطابق الكبير والخطير بين أصحاب الملل والمذاهب الباطلة, في كثير من المسائل العقدية الجوهرية, التي تؤكد بدورها على صدق المقولة المعروفة في الإسلام بأن ملة الكفر واحدة, وأن مصدر الباطل واحد مهما تغيرت أسماء تلك الفرق وتبدلت ألقابها.
ومن العقائد الباطلة الموجودة عند معظم المذاهب الفكرية الهدامة القديمة و المعاصرة, عقيدة الحلول والاتحاد, فالنصارى يقولون بحلول اللاهوت في الناسوت, أي حلول الذات الإلهية في جسد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام, واليهود يقولون بالحلول الإلهي في إسرائيل وفي شعبه المختار وأحيانا في الأرض المقدسة التي يدعون أن الله تعالى وعدهم بها (فلسطين).
ولم يقتصر الأمر على اليهود والنصارى, فالشيعة الرافضة يقولون بحلول الإله في علي رضي الله عنه كالسبئية, أو في الأئمة الاثني عشرية من بعده, وبعضهم يقول بحلوله بجعفر الصادق كالخطابية, وكذلك قول الدروز بحلول الله تعالى في شخص الحاكم, وبعض الصوفية يقولون بالحلول والاتحاد بين الله تعالى ومخلوقاته جميعا, بصيغة يسمونها وحدة الوجود, وهكذا فعقيدة الحلول والاتحاد عقيدة باطلة منتشرة في كثير من الملل والنحل والمذاهب.
وبداية لا بد من تعريف هذه المصطلحات المتداخلة المتشابكة, وهي الاتحاد والحلول ووحدة الوجود, لوضع بعض الخطوط الفاصلة بين كل مصطلح عن الآخر, ليكون الكلام علميا والنقد منهجيا.
فالاتحاد في اللغة: أن يصبح الواحد متعددا، مصدر من اتَّحَد يَتَّحِد، يُقال: اتحد الشيئان أو الأشياء، أي صارت شيئا واحدا, وفي الاصطلاح: تصيير الذاتين واحدة، وذلك بامتزاج الشيئين واختلاطهما حتى يصيرا شيئا واحدا لا يتمايز أحدهما عن الآخر, وذلك كلختلاط اللبن بالماء.
وأما الحلول فهو في اللغة: النزول، مصدر حلَّ يحُلُّ: إذا نزل بالمكان, واصطلاحا: نزول الذات الإلهية في الذات البشرية، ودخولها فيها، فيكون المخلوق ظرفاً للخالق بزعمهم.(1)
وأما وحدة الوجود فهو مذهب فلسفي صوفي يوحد بين الله والعالم, ولا يقر إلا بوجود واحد هو الله, وكل ما عداه أعراض وتعيينات له, وبصورة أخرى فليس في الوجود إلا واحد هو الله, وكل ما يرى إنما هو أجزاء منه تتعين بأشكال مختلفة, وقد أوضح ابن تيمية معنى كلام الصوفية بأن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه.(2)
ومع بعض الاختلاف في تعريف الحلول عن الاتحاد أو وحدة الوجود, من حيث كون الاتحاد امتزاج كامل وتام دون تمايز واختلاف, بينما الحلول نزول مع بقاء التمايز بين الماهيتين, إلا أن النتيجة والمحصلة بالنهاية واحدة, وهي انتقاص الذات الإلهية, وجعل الخالق مشابها للمخلوق, بل وتقديس المخلوق ورفعه إلى درجة الإله والخالق سبحانه وتعالى.
إن تاريخ القول بالحلول قديم قدم التاريخ, وجذوره لا تقف عند زمن معين, فقد عرفت الديانات المجوسية الفارسية, والهندية بأديانها التي لا تعد ولا تحصى, واليهودية والنصرانية والشيعية الحلول والاتحاد بصور متفاوتة وأشكال مختلفة, الأمر الذي يؤكد توارث الباطل لعقائده وأفكاره.
وقبل إبداء الملاحظات والتعليقات الهامة على هذا التوافق والتطابق المشبوه والمريب بين الفرق والمذاهب والأديان الباطلة, لا بد من لمحة سريعة لمعنى الحلول والاتحاد عند أهم ثلاث فرق منها, ألا وهي اليهود والنصارى والشيعة.
الحلول والاتحاد عند اليهود
تأخذ الحلولية عند اليهود أبعادا كثيرة, فمفهوم الإله عند اليهود في الأصل مفهوم مضطرب, فالإله كائن يتصف بصفات البشر, فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي، غضوب متعطش للدماء، يحب ويبغض، ويحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32/10 ـ 14)، وينسى ويتذكر (خروج 2/23 ـ 24)، وهو ليس عالماً بكل شيء، ولذا فهو يطلب من أعضاء جماعة إسرائيل أن يرشدوه, بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12/13 ـ 14).
وتظهر الحلولية الإلهية المعقدة عند اليهود في أفكار الشعب المختار الذي حل الإله به, وفي أرض الميعاد التي تصبح مختارة ومقدسة تماما كالشعب, ليظهر الثالوث المقدس المتحد عند اليهود (الإله والشعب والأرض).(3)
الحلول والاتحاد عند النصارى
ونجد القول بالاتحاد عند النصارى واضح وصريح, حين زعموا اتحاد الناسوت باللاهوت في شخص عيسى عليه السلام, وهي مسألة مشهورة ومن صميم عقائد الديانة النصرانية وأُسسها، وهي من أوائل ضلالاتهم وانحرفاتهم.
فقد زعمت فرقة الملكانية أن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته، وقال بعضهم: إن الكلمة مازجت جسد المسيح كما يمازج الماء اللبن, وزعمت النسطورية أن الآب تجسد واتحد بجسد المسيح حين ولد, ولكنه ليس اتحادا كاملا بل مأولا, حيث يعتقد نسطور أن اتحاد اللاهوت بعيسى الإنسان ليس اتحادا حقيقيا، بل ساعده فقط، وفسر الحلول الإلهي بعيسى على المجاز, أي حلول الأخلاق والتأييد والنصرة, كما قالت اليعاقبة بحلول الله سبحانه في جسد المسيح عليه السلام.(4)
ومن النصوص التي استدل بها النصارى على الحلول الإلهي بالمسيح قوله: (لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه) يوحنا 38/10, وفي موضع آخر: (الذي رآني فقد رأى الآب ... الآب حال في) يوحنا 9/14- 10, وقوله: ( أنا والآب واحد ) يوحنا 30/10.
الحلول والاتحاد عند الشيعة الرافضة
يعتقد الشيعة الاثني عشرية بأن جزءا من النور الإلهي قد حل بعلي رضي الله عنه, كما نقل ذلك إمامهم الكليني في أصول الكافي: (قال أبو عبد الله: ثم مسنا بيمينه فأفضى نوره فينا) وقال أيضا: (ولكن الله خلطنا بنفسه).
ولم يكتف الشيعة الرافضة بالقول بالحلول بعلي رضي الله عنه, بل غالوا بأئمتهم حتى أوصلوهم إلى درجة الألوهية والعياذ بالله, فقد نقل الكليني في الأصول عن الرضا عليه السلام (أن رجلا قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي, فقال: أولست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم وليلة)
والأمثلة على ذلك كثيرة من كتبهم لا يمكن حصرها, ويكفي أن يطلع أحدنا على فهرس مراجعهم المعتمدة, ليكتشف الغلو الشديد بأئمتهم, ففي فهرس الكافي مثلا: باب: أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه, وأن الأئمة نور الله عزوجل, وأنهم يعلمون ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء.........الخ.(5)
وبعد هذا الاستعراض للحلول والاتحاد عند كل من اليهود والنصارى والشيعة الرافضة, يمكن أن نستخلص أهم الملاحظات والتعليقات.
أهم الملاحظات والتعليقات في موضوع الحلول والاتحاد وهي:
1- إن توافق الفرق الثلاث على الأخذ بفكرة الحلول والاتحاد يؤكد أنها تستمد من بعضها البعض, وطبقا للتسلسل التاريخي المنطقي يمكن القول: إن اليهود أخذوا فكرة الحلول والاتحاد من الوثنيات القديمة, الفرعونية وغير الفرعونية, خاصة إذا علمنا أن اليهود لم يستطيعوا التخلص من فكرة حلول الإله بشخص (كفرعون), حتى إنهم وبعد أن نجاهم الله تعالى من جيش فرعون بمعجزة شق البحر, طلبوا من موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة فور نجاتهم وخروجهم إلى البر, عندما شاهدوا قوما يعكفون على أصنام لهم, كما ورد في القرآن الكريم, قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الأعراف/138 .
2- يمكن القول بأن النصارى استمدوا فكرة الحلول من اليهود, خاصة إذا علمنا دور اليهود القوي والمؤثر والفاعل في تحريف الديانة النصرانية, وفي إخراجها عن عقيدة التوحيد التي جاء بها عيسى عليه السلام, عن طريق بولس اليهودي وغيره.
3- يمكن القول أيضا بأن الشيعة الرافضة استمدوا فكرة الحلول من أجدادهم المجوس الذين كانوا يعتقدون بأن الله حل في ملوكهم, وقد كانوا يضفون عليه هالة من القداسة تحولت فيما بعد إلى أئمتهم الاثني عشر.
4- لا يمكن إغفال دور اليهود أيضا في تسلل الحلول إلى الرافضة الشيعة, فهم بذرة الفساد وأساسه, ولا يخفى ما كان لعبد الله بن سبأ اليهودي من دور كبير في إضفاء صفة الوصي لعلي رضي الله عنه, ثم وصل به الغلو إلى وصفه بالإله, في محاولة منه لإفساد عقيدة التوحيد عند المسلمين, كما فعل بولس بعقيدة النصارى.
فقد ذكر ابن أبي الحديد رواية في (شرح نهج البلاغة 5/ 5) تؤكد ذلك بقوله: (قال ابن سبأ للإمام وهو يخطب: أنت أنت، وجعلها يكررها، فقال الإمام: ويلك من أنا؟؟!! فقال ابن سبأ: أنت الله، فأمر بأخذه).
ويذكر الكليني في الكافي رواية عن أبي عبد الله في باب ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قال: (يا محمد! إني خلقتك وعليا قبل أن أخلق سماواتي وأرضي وعرشي وبحري، ثم جمعت روحيكما واحدة، ثم قسمتها ثنتين، وقسمت الثنتين ثنتين فصارت أربعة، محمد وعلي والحسن والحسين).
5- مع أن الكفر واحد لا يتجزأ و ليس فيه سيء وأسوأ, ومع كون الحلول والاتحاد أشد أنواع الكفر بصريح نص القرآن الكريم {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} المائدة/73-76, إلا أننا إذا أردنا -نظريا– التفريق بين السيء والأسوأ, فإن أسوأ أنواع الحلول والاتحاد هو عند اليهود يليهم الشيعة الرافضة ثم النصارى.
فاليهود قالوا بالحلول الإلهي بالشعب اليهودي بأكمله, فهم يرون أن اليهود شعب الله المختار, بل إن الله قد حل بهذا الشعب, وهو ما يعني أن كل يهودي فيه مسحة وشيء من القدسية والألوهية.
والشيعة الرافضة قالوا بحلول الإله في علي وفي الأئمة من بعده, فهم أتباع الأئمة والمنقادون لهم, فلهم شيء من القداسة وإن لم تكن فيهم مباشرة, فأشبهوا بذلك اليهود.
أما النصارى فهم الأقل سوءا, نظرا لأنهم جعلوا الحلول في شخص نبي الله عيسى عليه السلام, ولا يتعدى إلى أي نصراني أو مسيحي غيره.
6- إن فكرة الحلول والاتحاد تظهر تعلق الإنسان بتقديس الأشخاص وتأليههم, الأمر الذي جاء الإسلام لإبطاله وإلغائه, حتى يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, إلا أن بقايا الوثنية ما زالت حتى الآن, ونحن في القرن الواحد والعشرين, قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} المائدة/114- 118
7- لا ينحصر شر تبني عقيدة الحلول والاتحاد على الفكر والاعتقاد فحسب, بل يتعداه إلى كثير من الكوارث والحروب والدماء التي تسفك وتراق اليوم بسبب هذه العقيدة.
فقد اغتصب اليهود فلسطين بناء على هذه العقيدة, وقتلوا الشعب الفلسطيني المسلم بدافع من تلك العقيدة, وما يفعله الشيعة الرافضة اليوم في كل من العراق وسوريا لا يخرج عن هذا الإطار, وتحالف النصارى واليهود والرافضة اليوم ضد الإسلام والمسلمين, والذي يرتكز على الرؤى والنبوءات الباطلة عن آخر الزمان, وتعاليم الدين التي تصدر غالبا عن بشر مثلنا, ادعت لنفسها القداسة, وكأن الإله قد حل بها أو اتحد -والعياذ بالله- تؤكد النتائج الدموية لهذه العقيدة والفكرة.
إن استعراض أمثال هذه العقائد الباطلة وأثرها على الناس أفرادا وأمما, يزيد المسلم يقينا بمنهج الله تعالى ودينه الإسلام, ويزيده يقينا بوجوب نشره في كل أنحاء الأرض ليعم الأمن والأمان والاطمئنان, وإلا فكما أن قانون الفيزياء المادية يؤكد أنه لا يوجد في الكون فراغ, فالمكان الفارغ يملأه الهواء, فكذلك الحال في قانون الأفكار والمعتقدات, فإن لم يعمل أهل الحق على نشر ما يعتقدون به, فإن أهل الباطل سيملؤون الفراغ أينما وجد, بل إنهم يزاحمون أهل الحق في أماكن نفوذهم, فماذا هم فاعلون؟؟!!
===================
الفهارس
(1) التعريفات للجرجاني 6 و 22
(2) مجموع الفتاوى 2/160, الموسوعة العربية الميسرة 2/1945
(3) موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للمسيري 13/146
(4) الله واحد أم ثلاثة منقذ بن محمود السقار 1/156 الملل والنحل للشهرستاني 1/222
(5) أصول الكافي للكليني (1/219- 440 )
|
الاثنين، 17 مارس 2014
عقيدة الحلول والاتحاد : قاسم مشترك بين أهل الزيغ والفساد
الكرامات بين أهل السنة ومخالفيهم
| |||||||
التبَرُّك المنحرِف.. بَواعِثه ومظاهره أكرم مبارك عصبان
أكرم مبارك عصبان **
إنَّ مِن أهمِّ بواعثِ الانحراف في كثير من المفاهيم يعودُ إلى وجود اللَّبْسِ في المعنى، فيركب المبطلون إجمالَ اللفظ ابتغاءَ تمريرِ معناه المنحرف، وتلبيساً على الأمة التي تقبله بمعناه الصحيح، ويُثمر هذا اللبسُ كتمانَ الحق، وقد حذر القرآن من هذا المسلك؛ قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْـحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْـحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْـحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْـحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71].
فالتوسُّلُ والتبَرُّك وزيارة القبور والزهد مثلاً يستغلها أهل الباطل ويلبسون شركهم في مضامينها، وقد احتوت على معنى شرعيٍّ وآخرَ بِدْعيٍّ وثالثٍ شِرْكيٍّ، فيطلقونها ويقصدون بها المعنى المنحرف، ويلبسون عليه ثوب الأدلة للمعنى الصحيح، فيقع الناس في أمر مَرِيج، وهكذا دخل أهل الباطل على العامة، وساغت مفاهيمهم؛ إذ لو أظهروا قصدهم لنكِرَهم الناس؛ فإنه لا يرضى الوقوعَ في الشرك أحدٌ إلا أن يشاء الله؛ فيعمدون إلى هذا المكر.
ومن الخلط البيِّنِ هنا ما يقع في مفهوم التبَرُّك الذي نريد أن نُزيلَ الإشكال على الانحراف الذي دخل عليه، ونسُدُّ الذرائع المُفضِية إلى الشرك بالله - عز وجل - تحت هذا المسمَّى، وهو بريء من لَوْثته.
وقبل أن نفيض في الحديث عن المعنى المنحرف يجدُر بنا أن نوضح معناه وقسمه الصحيح الذي تؤازره النصوص، حتى لا نضاهيَ سبيل الغالطين الذين إن رأوا الوجه القبيح من الشيء ردُّوه كلَّه، فتصيبهم مَعَرَّةٌ بغير علم، ويطيب لأهل الباطل في نقدهم، إذ إنهم حين ردوه برمته ردوا المعنى الصحيح الذي يحتويه، وهذا سبيل من يُبادِر في الإنكار، ويفارق الإنصاف، كما هو الحال في الألفاظ المجملة.
فالتبَرُّك هو طلبُ البركة، وطلب البَرَكَة لا يخلو من أمرَيْن: إمَّا أن يكون التبَرُّك بأمر شرعي معلوم دلَّتْ عليه النصوص، مثل: القرآن، قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92]، وصُوَرُ بركته كثيرة؛ وإما أن يكون التبَرُّك بأمر غير مشروع، كالتبَرُّك بالأشجار والأحجار والقبور والقباب والبقاع ونحو ذلك، مما نبين حقيقته، من خلال هذه المحاور، لكن نذكر أولاً أهمَّ البواعث للوقوع في التبَرُّك المنحرف، وهي:
ـ الخلطُ المتعمَّد بينه وبين المشروع كما سبق.
ـ تبنِّي أهل الغلبة لترويجه، الذين لا يلوون على النصوص، وإنما يفعلون ما أُشرِبَتْه قلوبُهم من كل شُبهة.
ـ الجهل بدين الله، فلا يرى الجهَلة بأساً من مُضاهَاةِ المشركين.
ـ الفتنة بما يحصل من صلاحٍ أو خيرٍ للمتبَرُّك به، فيرتكس مَن لا حظَّ له من الحق في عبادة غير الله باسم التبَرُّك.
ـ الشَّهْوة الخفية من الجاهِ والمال الذي يتحصَّل به بعض من يحافظ على هذا التبَرُّك المنحرف.
وبعد ذكر هذه الدواعي، نأتي إلى وجودها في المظاهر عبر المعالم التالية:
أولاً: القرآن يسد الذرائع:
من التبَرُّك الممنوع ما رآه الغالبون على الأمر في شأن أصحاب الكهف، حيث بنَوْا عليهم مسجداً، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} [الكهف: 21]، وهذا فيه دلالة على الخطوات التي تقود إلى مثل هذا اللون من التبَرُّك الممنوع، وهو كون أصحاب الكهف صالحين قد ظهرت لهم كرامة وآية ظاهرة جَعَلت فئةً من الناس تبتدع هذه البدعة.
وفي تفسير ابنِ كثير عند قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} قال: (حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُمْ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الْكَلِمَةِ وَالنُّفُوذِ. وَلَكِنْ هَلْ هُمْ مَحْمُودُونَ أَمْ لَا؟ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ»[1] يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا. وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، أَنَّهُ لَمَّا وَجَدَ قَبْرَ دَانْيَالَ فِي زَمَانِهِ بِالْعِرَاقِ، أَمَرَ أَنْ يُخْفَى عَنِ النَّاسِ، وَأَنْ تُدْفَنَ تِلْكَ الرُّقْعَةُ الَّتِي وَجَدُوهَا عِنْدَهُ، فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَلَاحِمِ وَغَيْرِهَا)[2].
وقال الحافظ ابنُ رجب في فتح الباري في شرح البخاري عند حديث: (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ): (وقد دلَّ القرآن على مثل ما دلَّ عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً}، فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغَلَبة على الأمور، وذلك يُشعِرُ بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصِر لما أنزل الله على رسله من الهُدى)[3].
فمن البواعث على رَواج التبَرُّك المنحرف قيامُ أهل الغلبة والملك على العناية به، وهكذا ترى أن الذي يتولى هذه المخالفات هو ممن لا حظَّ لهم من العلم والهدى، وإنما هو اتباع الهوى، لأن هذا البناء يُفضي إلى تعظيم المقبورين، والافتتان بهم، وصَرْفِ العبادة إليهم، كل ذلك باسم التبَرُّك بهم، وقد قال النووي في شرح مسلم: (قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ اتِّخَاذِ قَبْرِهِ وَقَبْرِ غَيْرِهِ مَسْجِداً خَوْفاً مِنَ المُبَالَغَةِ فِي تَعْظِيمِهِ وَالِافْتِتَانِ بِهِ فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا جَرَى لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ)[4].
وصيانةً لجَناب التوحيد تأتي تَعْمِيَةُ قبر دانيال التي أشار إليها ابنُ كثير آنفاً؛ لئلا يَفتَتِن به الناسُ بحجة التبَرُّك بقبره، وقد وجدوه ميتاً كما قال أبو العالية: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعمِّيَه على الناس؛ لا ينبشونه[5].
والحقُّ أبلج، لكن أمراً قد بدا للغالبين في إضلال العامة، فيحجبون نور الحق، ويُرْدُون أتباعَهم في المهاوي؛ فلا يسمعون لوعظ النصوص كما قال الأول:
كأنّي أُنادي صخرةً حين أعرضتْ ** من الصُّمِّ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ
ثانياً: السنة والنكير على التبَرُّك الشركي:
لقد كان للمشركين سِدْرةٌ يتبَرُّكون بها، ويعلِّقون أسلحتهم عليها؛ رجاءَ النصر على أعدائهم، فعن أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حُنينٍ ونحن حديثو عَهْدٍ بكفر وللمشركين سِدْرةٌ يعكفون حولها ويَنُوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذاتُ أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يَا رَسُولَ اللهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر، هذا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: {اجْعَل لَّنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ 138} [الأعراف: 138]، لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)[6].
فهؤلاء بعض مُسلِمَةِ الفتح ممن لم يَفْقَهْ في الإسلام أراد أن يَنُوطَ السلاح بسدرةٍ تبَرُّكاً كما للمشركين نظيرها، فتعجَّب عليه الصلاة والسلام من هذا الجهل بالإسلام في مفهوم التبَرُّك المنحرف، وأنه مضاهاة للمشركين.
والعلة دائرةٌ مع معلولها فحيثما وُجِدَ هذا النوع من التبَرُّك بالقبور أو الأشجار أو الأحجار أو العيون التي ينوطون بها حاجاتِهم؛ وُجِدَ النكيرُ على أصحابه، وعلى هذه الجادَّةِ مشَى كوكبة من الأعلام في الاستدلال بهذا النص نذكر أقوالهم على النحو التالي:
ـ قال الإمام أبو بكر الطُّرْطُوشِيُّ: انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظِّمونها، ويرجون البُرْءَ والشفاء من قِبَلِها، ويضربون بها المسامير والخرق؛ فهي ذاتُ أنواطٍ فاقطعوها[7].
ـ وقال الحافظ أبو شامة: ومن هذا القسم أيضاً ما قد عَمَّ به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليقَ الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يَحكِي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شُهِرَ بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائضَ الله وسننَه، ويظنون أنهم متقرِّبون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظِّمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنَّذْر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر[8].
ـ وقال العلامة ابنُ القيم: فإذا كان اتخاذُ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعُكوف حولها اتخاذَ إلهٍ مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها؛ فما الظنُّ بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده؟ فأيُّ نسبةٍ للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون!
ومَن له خبرةٌ بما بعَثَ الله تعالى به رسولَه وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره؛ علِمَ أن بين السَّلَف وبين هؤلاء الخلوف من البُعد أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسَّلَف على شيء كما قيل:
سارَتْ مشرِّقَةً وسرتُ مغرِّباً ** شتانَ بينَ مُشَرِّقٍ ومغرِّبِ[9]
وهكذا نجد أنَّ مَن تأمَّل سيرة السلف التي تعكس التربية الصحيحة، رأى البَوْن الشاسع بينهم وبين من لم يُبالِ بمَوَاطِنِ الرِّيبة غروراً بنفسه؛ فأقام المشاهد والقِباب والتوابيت والزيارات، وأدام العكوف عند ساكنيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثاً: موقف الصحابة من التبَرُّك بشجرة الحُدَيْبِيَةِ:
لقد شهدت شجرةٌ بالحُدَيْبِيَة بيعة الرضوان، وذكرها القرآن؛ قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْـمُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]، وكان الصحابة يعرِفونها حين يمرُّون بها في طريقهم للحج، وقد خُفِيت هذه الشجرة بعد ذلك، ووصف ابن عمر رضي الله عنهما حادثة خفائها بقوله: (كانت رحمةً من الله)، قال الحافظ ابنُ حجر: (وبيان الحكمة فِي ذَلِك وهو أَن لا يحصل بِهَا افتِتان لِما وَقع تحتها مِن الخير، فَلو بَقِيت لَما أُمِنَ تعظِيم بعض الجهال لَها، حتى ربما أَفضى بِهِم إلى اعتِقَاد أَن لَها قوةَ نفعٍ أَو ضُرٍّ كما نراه الآن مُشَاهَداً فِيمَا هو دونها)[10].
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابْنِ عُمَرَ رَضِي الله عنهما قال: (رَجَعْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ فَمَا اجْتَمَعَ مِنَّا اثْنَانِ عَلَى الشَّجَرَةِ الَّتِي بَايَعْنَا تَحْتَهَا، كَانَتْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ)[11].
وروى البخاري أيضاً عن طَارِقِ بن عبد الرحمن قال: (انْطَلَقْتُ حَاجّاً، فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ، قُلْتُ: مَا هَذَا المَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ، فضحك فقال: حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ العَامِ المُقْبِلِ نَسِينَاهَا، فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا، وفي رواية: فعميت علينا.
فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ؟! فَأَنْتُمْ أَعْلَمُ!)[12].
قَطْعُها:
وقد وردت بعض الروايات التي تفيد بأن عمر رضي الله عنه أمر بقطعها؛ منها ما رواه ابنُ سعد في الطبقات الكبرى قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا شَجَرَةُ الرِّضْوَانِ فَيُصَلُّونَ عِنْدَهَا. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَوْعَدَهُمْ فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ.
قال الحافظ في فتح الباري: «إِسْنَاده صَحِيح»[13].
ورواه ابنُ أبي شيبة في المصنَّف: قال حدثنا معاذ بن معاذ قال: ثنا ابن عون عن نافع قال: بلغ عمرَ بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بُويع تحتها. قال: فأمر بها فقُطعت، ورجاله رجال الصحيح[14].
قال الألباني: فلعلَّ الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لكنه أشار إلى ضَعْفِ الرواية لهذا الانقطاع[15].
قلتُ: وفي الطبقات الكبرى لابن سعدٍ ما يشير إلى الجمع بين روايتَيْ قطع الشجرة وخفائها، فعن نافع قال: خرَج قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأعوام، فما عرَفَ أحدٌ منهم الشجرة، واختلفوا فيها؛ قال ابن عمر: كانت رحمة من الله[16].
فالتعبير بالأعوام هنا يجمع بين الروايتين، حيث لا يبعُد أن القطع كان أولاً فخفيت، والله أعلم.
ومن عَجَبٍ في هذا المقام استغلالُ بعض الشيعة هذا الخبر للنيل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والغَمْزِ في الحطِّ من فضله؛ لأن هذا الخبر يتنافى مع دعوتهم لتعظيم المشاهد والصلاة عندها، والتبَرُّك بترابها، وظنُّوا أن ذاك قدح، وإنما هو مدح، وتفرَّدوا بزيادةٍ زعموا أن عمر رضي الله عنه قال: (أراكم أيها الناس رجَعتم إلى العُزَّى، ألا لا أوتى منذ اليوم بأحدٍ عاد لمثلها إلا قتلتُه بالسيف كما يُقتل المرتدُّ، ثم أمر بها فقُطعت)[17].
وتلك شَكَاةٌ ظاهِرٌ عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه عارُها، وصدَق مَن قال:
عيَّرتْني بالشَّيْبِ وهو وقار ** ليتها عيَّرَتْ بما هو عَارُ
وبهذا يتبيَّنُ لنا حَسْمُ مادة الشر الداخلة من بوابة التبَرُّك المنحرف، وما أجمل ما قاله ابنُ القيِّم في كلامه القيِّم ونصُّه: فإذا كان هذا فعلَ عمر رضي الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وبايع تحتها الصحابةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؛ فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها؟!
وأبلغ من ذلك: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم هدَم مسجد الضِّرار؛ ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فساداً منه كالمساجد المبنية على القبور، فإن حكم الإسلام فيها: أن تُهدَمَ كلُّها حتى تُسوَّى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها؛ لأنها أُسِّست على معصية الرسول؛ لأنه قد نَهَى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناءٌ أُسِّس على معصيته ومخافته بناءٌ غير محرم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصِب قطعاً[18].
رابعاً: تصدي الفقهاء للغالطين في التبَرُّك:
إن تحذير الأمة من التبَرُّك المنحرف قطْعٌ للشرك ومادته، وقد صاغ فقهاء الإسلام هذه التعاليم في متون الأحكام، وشروحها، وزادوا الحواشيَ عليها، والفروع والفتاوى، مما تُغنِي شهرتُه عن التفصيل فيه، ونعطِّر المقام بشواهد يُستدَلُّ بها على غيرها.
فالشافعيُّ - رحمه الله - يجيب عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُوراً! بِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْراً للبيت، وَكَيْفَ يَهْجُرُهُ وَهُوَ يَطُوفُ بِهِ وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلاً أَوْ تَرْكاً وَلَوْ كَانَ تَرْكُ استلامهما هجراً لَهما لَكَانَ تَرْكُ اسْتِلَامِ مَا بَيْنَ الْأَرْكَانِ هَجْراً لَهَا وَلَا قَائِلَ بِهِ[19].
وما أجملَ عبارةَ الشافعيِّ (وَلَكِنَّا نَتَّبِعُ السُّنَّةَ فِعْلاً أَوْ تَرْكاً)، ومن أصحابه الفقيهُ أبو موسى القائل: (وَلَا يَمْسَحُ الْقَبْرَ وَلَا يَمَسُّهُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَادَةُ النَّصَارَى).
قال النووي: (وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ تَعْظِيمِ الْقُبُورِ وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْتَحَبَّ اسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ لِكَوْنِهِ لَمْ يُسَنَّ مَعَ اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَأَنْ لَا يُسْتَحَبَّ مَسُّ الْقُبُورِ أولى، والله أعلم)[20].
ومن أصحاب الشافعيِّ أيضاً الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ القائل بتحريم شدِّ الرِّحال إلى غير المساجد الثلاثة عملاً بظاهر حديث: (لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد...)[21]، فيحرم شد الرحال لزيارة القبور، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبَرُّك بها والصلاة فيها.
وَأَشَارَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ، قال الحافظُ ابنُ حجر: (وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ إِنْكَارِ بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ خُرُوجَهُ إِلَى الطُّورِ وَقَالَ لَهُ لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَرَى حَمْلَ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ وَوَافَقَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ)[22].
وبالجملة فيتضح مما سبق أهميةُ الفرقان بين التبَرُّك المشروع والتبَرُّك المنحرف الذي يُفضي إلى الإشراك، ومن سوَّى بينهما فقد نادى على نفسه بالجهالة، ورعَى حول حِمَى الشِّرك فيوشك أن يقع فيه.
فالقرآن حذَّر من اقتفاء سبيل أهل الغَلَبة من الجهَلة بشرع الله في تعظيم قبور أصحاب الكهف، وأوضحت السنةُ خطورة اتخاذ القبور مساجدَ أتمَّ إيضاحٍ.
كما أوضحت السُّنة خطأ أنَّ أهل الجاهلية كانوا يتبرَّكون بسدرةٍ، وضلوا في ثلاثة أمور هي: التعظيم والعُكوف والتبَرُّك، وبهذه الأمور الثلاثة يُعبد أصحاب القبور، وتُعظَّم الأشجار والأحجار والآبار، فمن طلب البَرَكَة فمَثَلُه كمَثَلِ بني إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهاً، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن مقالةَ هؤلاءِ كمقالةِ أولئك سواءً بسواءٍ.
فالقبور والأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما يَنذُر لها العامَّةُ، ويعلِّقون بها خِرَقاً، ويأخذون منها شيئاً تبَرُّكاً، ويرجون قضاء حوائجهم وشفاءَ مرضاهم، ويتمسَّحون بها؛ هو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله.
خامساً: دمعةٌ على التبَرُّك:
ومَن نَظَر إلى ما أصاب المسلمين في بلادٍ شتَّى من رواج هذا التبَرُّك المنحرف، لا يستطيع أن يُغالِبَ الأسى، ويدفع البكاء، من جراء المهالك التي يتعاطاها الجهَلَةُ، فما أسرَعَهم إلى الإتيان إليها سعياً حثيثاً، ثم يُفيضون منها، بعدما علَّقوا عليها الحاجات، وعقَدوا عليها الآمال.
ومما هالني الوقوفُ عليه مما نحن بصدده ما اختُصَّتْ به بلادُ حَضْرَمَوْتَ مثلاً مما طفَحَتِ الكتب بذكره، مِن تعظيم المَشاهد والزيارات والأودية التي شهدت خلوات أقطاب الطريقة، وتراب القبور، والعيون، وآثار الموتى، وغير ذلك مما يعلقونه على التبَرُّك.
وتُفْرَدُ فصولٌ من هذه الكتب في ذكر شعاب تريم، وأوديتها، وتربها، ومساجدها، ومقابرها المشهورة بالبَرَكَة كما يزعمون، ويقول القائل:
تريم بها منهم ألوفٌ عـديـدةٌ ** بساحة بشـار شموس الهُدى قل
زيارة كــل منهم صَـحَّ أنهــــا ** لما شئتَ مِن نفعٍ وجلـب محصـل
وإن قيل ترياق ببغـداد جُربـا ** ففي ربع بشـار شِفا كلِّ معضــل
ويُفرِدون فصلاً فيما يتعلق بفضل وبركة الجموعات العامة عند قبور الأولياء المشهورين، وقراء المولد عند ضرائحهم، وما الحديث عن زيارة قبر النبي هود عز وجل المزعوم بحَضْرَمَوْتَ بالحديث المُرَجَّمِ، وإنما أشرنا إلى هذا حتى لا تصير المعالم مُعطَّلةً من ذكر الشواهد، ويكون المقام خِلْواً من الفوائد، وليس مقصودنا الاسترسال[23].
فيا ليت هؤلاء القوم يعلمون بما جرَّه التبَرُّكُ المنحرف على التوحيد، ويَفِيئون إلى الحق؛ فإنَّ للحقِّ نوراً يُعرف به، وعسى القيود التي وضعها الغالبون في أعناق الأتباع قد وهَنت، فيسهل حلُّها، وينطلقون بعدها إلى رحاب السنة كما قال كثيِّر:
فليتَ قلوصي عندَ عزَّةَ قيِّدتْ ** بحبلٍ ضعيفٍ غرَّ منها فندَّتِ
ولا بد إذن من بيان سبيل المنحرفين في التبَرُّك حتى تَستبينَ لكل أحد، كما شدَّ رسول الله في النكير على بعض مسلمة الفتح مع أنهم كانوا معه قبل حنين، إذ إن توحيد الكلمة إنما يكون على كلمة التوحيد، وغضُّ الطَّرْف عن الانحراف يجعله يتسلل لِوَاذاً إلى أفراد المجتمع.
واللهَ نسألُ أن يُريَنا الحقَّ حقّاً ويرزقنا اتباعه، ويريَنا الباطلَ باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
الهوامش:
[1] متفق عليه، أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (1330)، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المسجد على القبور واتخاذ الصور فيها (529).
[2] تفسير ابن كثير (5/147).
[3] فتح الباري لابن رجب (6/280).
[4] شرح النووي على صحيح مسلم (5/13).
[5] وقد ذكر هذه القصةَ ابنُ كثير في البداية والنهاية، (2/40)، وقال: إسناده صحيح إلى أبي العالية، وذكر لها أيضاً طرقاً أخرى تؤكد أن القصة واقعة وصحيحة.
[6] أخرجه الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم (2180)، وصحَّحه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2180).
[7] إغاثة اللهفان لابن القيم (1 / 211).
[8] الحوادث والبدع، ثم ذكر ما صنعه بعضُ أهل العلم ببلاد إفريقية بهدم عينٍ وقت السَّحَر تسمى عين العافية فُتن بها العوام؛ فمن تعذَّر عليه نكاح أو ولد مضى إليها، وهدمها وأذَّن للصبح عليها ثم قال: «اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأساً» .
[9] إغاثة اللهفان لابن القيم (1 / 205).
[10] فتح الباري لابن حجر (9 / 136).
[11] أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، بَابُ البَيْعَةِ فِي الحَرْبِ أَنْ لاَ يَفِرُّوا، (2958).
[12] أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحُدَيْبِيَة، (4163).
[13] انظر الطبقات الكبرى (2 /100)، فتح الباري (11/490).
[14] مُصنف ابن أبي شيبة (2/375). وبهذا يتبين ما في الرواية المعضلة عند الفاكهي في أخبار مكة (7 /434)، قال: حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا ابن عون قال: «بلغ عمر رضي الله عنه أن الشجرة التي بويع عندها تؤتى، فأوعد في ذلك وأمر بها فقُطعت» .
[15] تحذير الساجد للألباني (ص: 112).
[16] الطبقات الكبرى (2/205).
[17] انظر هذا في شرح نهج البلاغة (1/59، 60)، وشرحه لابن أبي الحديد (3 /122).
[18] إغاثة اللهفان لابن القيم (2/210).
[19] انظر: فتح الباري لابن حجر (3 / 474). وذكر الحافظ رواية ابن عباس أنه طاف مع معاوية فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُوراً . فَقَالَ لَهُ ابن عَبَّاسٍ: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ. ولله در عمر في قوله وهو يُقبِّل الحجَر الأسود: «إنك حجَر لا تَضُرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك» .
[20] شرح المهذب للنووي (5 / 311).
[21] متفق عليه: البخاري (1189)، ومسلم (1397).
[22] فتح الباري لابن حجر (3 / 65).
[23] تُطلب هذه الفصول من: المشرع الروي والنور السافر والفوائد السنية وغيرها من تراث التصوف في حضرموت.
** المصدر: مجلة البيان العدد 309 جمادى الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.
الأوراد عند الصوفية
التأصيل للدراسات **
الورد الصوفي، بكسر الواو، جمعه أوراد، يطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها، صباحاً بعد صلاة الصبح، ومساءً بعد صلاة المغرب، ويعني أيضاً ما يتحفه الحق سبحانه قلوب أوليائه من النفحات الإلهية فيكسبه قوة محركة وربما يدهشه أو يغيبه عن حسه ولا يكون إلاَّ بغتة، ولا يدوم على صاحبه، أما بالنسبة لورد الذكر، فيشمل الاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والتوحيد(1).
طبيعة الأوراد عند الوفية
يقول الدكتور حسن الشرقاوي في كتابه: معجم ألفاظ الصوفية: وكل طريقة من الطرق الصوفية لها وردها الخاص، وعلى كل مريد قراءة الورد صباحاً مساءً، وغالبا ما يكون الورد استغفاراً لله كأن يقول المريد (استغفر الله) تسعة وتسعون مرة، ثم يقول في المرة المائة (استغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه)، وفي الطريقة الشاذلية يقول المريد (اللهم صلي على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً بقدر عظمة ذلك في كل وقت وحين) تسعة وتسعون مرة، وأكثر ما يذكر في الورد في الطرق الصوفية المختلفة قول: (لا إله إلا الله) تسعة وتسعون مرة(2).
هذا ما ذكره الصوفية عن أنفسهم وعن أورادهم، ولكن الصورة تختلف تماماً في الواقع التطبيقي للصوفية، تختلف في طريقة الذكر وطبيعته، وما يحويه من معاني وأفكار، وهذا ما سنبينه سريعاً، ونبين حكمه في هذا التقرير.
بدايات الأوراد وتطورها عند المتصوفة
يلخص شيخ الإسلام ابن تيمية بدايات ظهور الصوفية، وما ألحقته من محدثات بالدين بقوله: "في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء: الرأي، والكلام، والتصوف، فكان جمهور الرأي في الكوفة، وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة، فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وظهر أحمد بن علي الهجيمي، وبنى دويرة للصوفية، وهي أول ما بني في الإسلام أي دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به، مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وصار لهم حال من السماع والصوت، وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل، وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين"(3).
يقول الباحث محمد جمعة في دراسة مختصرة له بعنوان (الأوراد الصوفية دراسة شرعية): "تطورت الصوفية حتى وصلت إلى الغلو، من البدع العملية إلى البدع القولية الاعتقادية، بعد أن دخلت عليها عناصر خارجية. وقد كان أهل التصوف في مراحله الأولى يعظمون اتباع الكتاب والسنة وينهون عن البدع... ثم ظهرت البدع والأهواء والشطحات في المتأخرين، فكثيرًا ما ترى المتأخرين ممن يتشبه بهم، يرتكب من الأعمال ما أجمع المسلمون على فساده شرعًا بل أجمع الناس على فساده عقلا... ثم تطور الأمر شيئا فشيئا فظهرت الأوراد الخاصة بكل طريقة وراحوا يعظمون ما يتلقونه عن مشايخهم أكثر مما يعظمون الأذكار الشرعية المتلقاة عن الكتاب والسنة(4).
مصادر تلقي الأوراد عند الصوفية
تتنوع مصادر أهل التصوف في تلقي الأوراد، فإما أن يكون عن الله مباشرة- تعالى الله عما يفترون- وإما أن يكون بالتلقي من رسول الله يقظة أو مناما، وإما عن الخضر حيث يزعمون أنهم يلتقون به(5).
أمثلة لأوراد الصوفية البدعية
جاء في ورد الجلالة المنسوب إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني ما نصه: "وأسألك الوصول بالسر الذي تدهش منه العقول، فهو من قربة ذاهل، ايتنوخ، يا ملوخ، باي، وامن أي وامن، مهباش الذي له ملك السموات والأرض" ثم يستطرد قائلا: "طهفلوش انقطع الرجاء إلا منك، وسدت الطرق إلا إليك، وخابت الآمال إلا فيك"(6).
ومن أوراد الصوفيه أيضا التي بها إلحاد في أسماء الله ما جاء في كتاب ذكر ودعاء جمع عبد الله أحمد أبو زينة، جاء فيه: "يا باسط، يا غني بمهبوب ذي لطف خفي بصعصع بسهسهوب ذي العهز الشامخ، الذي له العظمة والكبرياء، بطهطهوب لهوب ذي القدرة والبرهان والعظمة والسلطان" ثم يقول:"بحق سورة الواقعة، وبحق فقج مخمت مفتاح جبار فرد معطي خير الرازقين"(7).
ويقول إبراهيم الدسوقي في ورده المسمى بـ"الحزب الكبير": "اللهم آمني من كل خوف، وهم وغم، وكرب كدكد كردد كردد كردد كرده كرده كرد ده ده ده ده الله رب العزة"(8).
فإن: ايتنوخ، وملوخ، ومهباش، وطهفلوش، وفقج، ومخمت، وغيرها من الأسماء هي أسماء لله عز وجل عند بعض الصوفية، وهو بهتان وظلم كبير، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ومن الأوراد الشاذلية (وغيرهم يستعملها) قولهم: "وزج بي في بحار الأحدية وانشلْني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أحس الا بها(9).
حكم قراءة الأوراد الصوفية
الأوراد الصوفية ليست سواء، فمنها ما يشتمل على البدع، ومنها ما يتضمن الكفر والشرك، ومنها ما هو طلاسم لا تفهم، وقليل منها ما يوافق ذكراً أو دعاءً مأثوراً، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن نطلق حكما عاماً لكل ما هو ورد صوفي.
وكذلك الأمر بالنسبة للصوفية، فليسوا سواء أيضاً، لأن مصطلح التصوف في نفسه مصطلح حادث لا يتعلق به مدح ولا ذم، ولكن ينظر إلى أحوال المنتسب إليه من حيث موافقته للشرع ومخالفته له(10).
وذكر الله عز وجل والصلاة والسلام على رسوله مقيّدٌ بالكيفية التي جاء بها الشرع المطهر فلا نتعداها، وقد قال الله عز وجل في القرآن: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)(11)، ولم يؤثَر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أنهم كانوا يجتمعون لترديد الأذكار من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، بل المأثور عنهم إنكار ذلك رضوان الله عليهم(12).
ويقول الشيخ صالح اللحيدان: "وهذه الأعمال مردودة على أهلها بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المُخرج في الصحيحين: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(13)، والدين كَمُلَ قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الله: (الْيوْم أكْملْت لكمْ دِينكمْ وأتْممْت عليْكمْ نِعْمتِي ورضِيت لكم الْإِسْلام دِينًا)(14)، والدين كَمُل لا نحتاج إلى أوارد جديدة ، تُدَّعى بمنامات أو تُخترع أو يزعموا أصحابها بأنهم تلقوها من المشكاة التي يتلقي منها رسول الله كما يقول بعض هؤلاء المتصوفة .
ويجب أن يُنصح هؤلاء ولا يجوز لأحد أن يأخذ عنهم مثل هذه الأمور. وأما إنها تحبط الأعمال؛ الأعمال لا تُحبطها إلا الأعمال الشركية، فما كان من شرك أكبر فهو يُحبط الأعمال، ولا يترك منها شيئا إلا إن تاب الإنسان منها قبل أن يموت.
خلاصة القول أن اختيار أذكار معينة وترديدها بطريقة معينة وبعدد معين على خلاف ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدعي لا يجور العمل به، فضلا عما تحويه هذه الأذكار من أمور بدعية كالإلحاد في أسماء الله أو الاعتقاد بعقائد بدعية كالحلول والاتحاد ووحدة الوجود إلى غير ذلك من العقائد الباطلة.
الهوامش:
(1) معجم الصوفية، ممدوح الزوبي: (ص:429).
(2) معجم ألفاظ الصوفية، د. حسن الشرقاوي: (ص:283).
(3) الفتاوى لابن تيمية، (10/359).
(4) دراسة: الأوراد الصوفية دراسة شرعية، لمحمد جمعة، موقع الصوفية.
(5) المرجع السابق.
(6) مجموع الأوراد الكبير- ورد الجلالة للجيلاني: (ص:10).
(7) ذكر ودعاء جمع عبد الله أحمد أبو زينة– ( ص: 53).
(8) ذكر ودعاء جمع عبد الله أحمد أبو زينة: ( ص:117).
(9) النفخة العلية في الأوراد الشاذلية، (ص:16).
(10) الأوراد الصوفية ليست سواء- الشبكة الإسلامية.
(11) سورة الأعراف: (205).
(12) ما حكم قراءة أوراد الطرق الصوفية وترديدها؟ للشيخ عبد الحي يوسف- طريق الإسلام.
(13) متفق عليه، البخاري: (3/214/2697)، وسلم: (5/132/4589).
(14) سورة المائدة، الآية: (3).
** المصدر: التأصيل للدراسات، بتصرف يسير.
هنا
الأحد، 16 مارس 2014
أهمية التوحيد وثمراته أبو مريم محمد الجريتلي
إنَّ الحمد لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
إن مَن تدبر نصوص القرآن والسُّنَّة يعلم أهمية التوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصر أهمية التوحيد ولو في أسفارٍ ومجلَّدات، غير أني أذكر طَرَفًا منها في هذه المقالة؛ لتكون بمثابة المنارات التي يهتدي بها السالك لأنفع المسالك، وهي:
1- التوحيد من أجله خلق الله الخلق:
قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبَّته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك متوقِّف على معرفة الله - تعالى - فإنَّ تمام العبادة متوقفٌ على المعرفة بالله، بل كلَّما ازداد العبد معرفةً بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[1].
فمعنى الآية: أنه - تبارك وتعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنَّه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[2].
"فبيَّن - سبحانه - الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يُخلقوا عبثًا ولا سدًى، بل خُلقوا لهذا الأمر العظيم؛ وهو أن يعبدوا الله - جل وعلا - ولا يشركوا به شيئًا، ويخصُّوه بدعائهم، وخوفهم ورجائهم، وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم، وغير ذلك"[3].
"فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تُسمَّى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة"[4].
2- التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها:
قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: انصبه ووجِّهه {لِلدِّينِ} الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان؛ بأن تتوجَّه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، وشرائعه الباطنة؛ كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وخصَّ الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنِيفًا}؛ أي: مُقْبِلاً على الله في ذلك، معرِضًا عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها.
فإن جميع أحكام الشرع، الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق، وهذه حقيقة الفِطَر، ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِضٍ عرض لفطرته أفسدها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)).
{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}؛ أي: لا أحد يبدِّل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله {ذَلِكَ} الذي أمرناك به {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، فإنَّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلا يتعرَّفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه"[5].
"والنفس بفطرتها إذا تُرِكت كانت مُقِرَّة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تعبدُه لا تُشرك به شيئًا، ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوزٌ في الفِطَر والشرك طارئ ودخيل عليها"[6].
"فإن الله فَطَرَ القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به، والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفِطَر على حالها لما آثرت على الحقِّ سواه، ولما سكنت إلاَّ إليه، ولا اطمأنَّت إلا به، ولا أحبَّت غيره"[7].
"فسدِّد وجهك واستمِرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه - تعالى - فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره؛ كما تقدَّم عند قوله - تعالى -: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))[8].
"فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهي عبادة اللّه وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتَّبع أهلُه أهواءَهم بغير علم، ولا بُدَّ لهذه الفطرة والخلقة - وهي صحة الخلقة - من قوت وغذاء يمدُّها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملاً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكمَّلة بالشريعة المنزَّلة، وهي مأدُبة الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: ((إنَّ كل آدبٍ يحبُّ أن تُؤتى مأدُبته، وإن مأدُبَة الله هي القرآن))، ومثله كماءٍ أنزله الله من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسُّنَّة، والمحرِّفون للفطرة المغيِّرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوبَ مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور"[9].
"ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح"[10].
"ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنَّما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسَب بالإرادة والفعل، ألاَ ترى أنه يقول: ((فأبواه يهوِّدانه))؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكومٌ له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))، ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة، وحُكِي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته؛ أي: على خلقته التي جُبِل عليها في علم الله - تعالى - من السعادة أو الشقاوة، فكلٌّ منهم صائرٌ في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعامل في الدنيا بالعمل المُشَاكِل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديَّين أو نصرانيَّين، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما، وقيل: معناه: أن كل مولودٍ يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة؛ أي: على الجبلَّة السليمة والطبع المتهيِّئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرَّ على لزومها؛ لأن هذا الدين موجودٌ حسنُه في العقول، وإنَّما يعدل عنه مَن يعدل إلى غيره؛ لآفةٍ من آفات النشوء والتقليد، فلو سَلِم من تلك الآفات لم يعتقد غيره"[11].
3- التوحيد من أجله أخذ الله الميثاق على بني آدم:
قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، "يخبر - تعالى - أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه - تعالى - فطرهم على ذلك وجَبَلهم عليه؛ قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة - فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء))، وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم))، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: "حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السَّرِيُّ بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ عليه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتناولون الذريَّة؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنَّها ليست نسمة تولد إلا وُلِدَت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها؛ فأبواها يهوِّدانها، وينصِّرانها))، قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في "سننه" من حديث هُشَيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأنَّ الله ربهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاّ تشرك بي شيئًا، فأبيت إلاَّ أن تشرك بي))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعني: ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كلَّ ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهم قبلاً؛ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172- 173]، وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من "سننه" عن محمد بن عبدالرحيم صاعقة، عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلاَّ أن ابن أبي حاتم جعله موقوفًا، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتجَّ مسلمٌ بكلثوم بن جبر، هكذا قال، وقد رواه عبدالوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن عُلَيَّة ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبر، عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت - والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي حمزة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرِّ وهو في أذًى من الماء، وقال أيضًا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود، عن جرير، قال: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه، وحلَّ عنه عُقَدَه، فإن ابني مُجْلَس ومسؤول، ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمَّ يسأل ابنك؟ مَنْ يسأله إياه؟ قال: يسأل عن الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم، قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفَّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد مَن أعطى الميثاق يومئذ، فمَن أدرك منهم الميثاق الآخر فَوَفَى به نفعه الميثاق الأول، ومَن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرَّ به لم ينفعه الميثاق الأوَّل، ومَن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول - على الفطرة - فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وقف هذا على ابن عباس، والله أعلم.
فهذه الأحاديث دالَّة على أن الله - عز وجل - استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأمَّا الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبدالله بن عمرو، وقد بيَّنَّا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدَّم، ومن ثمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدَّم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري، عن الأسود بن سريع، وقد فسَّر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ}، ولم يقل: من آدم، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره {ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن؛ كقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ} [الأنعام: 133]، ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول؛ كقوله: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية، وتارة تكون حالاً كقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة : 17]؛ أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، كما أن السؤال تارةً يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، قالوا: ومما يدلُّ على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حُجَّة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال مَن قاله، لكان كلُّ أحد يذكره ليكون حُجَّةً عليه، فإن قيل: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كافٍ في وجوده، فالجواب أن المكذِّبين من المشركين يكذِّبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جُعِل حجة مستقلَّة عليهم، فدلَّ على أنَّه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا}؛ أي: لئلاَّ تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: التوحيد {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا}" الآية[12].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أقررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فِطَرِهم من الإقرار بأنَّه ربهم وخالقهم، ومليكهم، {قَالُوا بَلَى} قد أقررنا بذلك، فإن الله - تعالى - فطر عباده على الدين الحنيف القيم، فكلُّ أحدٍ فهو مفطورٌ على ذلك، ولكن الفطرة قد تتغيَّر وتتبدَّل، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة، ولهذا؛ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: إنما امتحناكم، حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم من أن الله - تعالى - ربكم خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقرُّوا بشيءٍ من ذلك، وتزعمون أنَّ حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون، فاليوم قد انقطعت حُجَّتكم، وثبتت الحجة البالغة لله عليكم، أو تحتجُّون أيضًا بحُجَّة أخرى فتقولون: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، فقد أَوْدَع الله في فِطَرِكم ما يدلُّكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأنَّ الحقَّ ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءَكم ويعلو عليه، نعم، قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالِّين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنُّه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه عن حُجَجِ الله وبيِّناته، وآياته الأُفُقية والنفسية، فإعراضه ذلك وإقباله على ما قاله المبطلون ربما صيَّره بحالةٍ يفضِّل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات، وقد قيل: إن هذا يومٌ أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتجَّ عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت على ظلمهم، في كفرهم وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدلُّ على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله - تعالى - والواقع شاهدٌ بذلك، فإنَّ هذا العهد والميثاق الذي ذكروا أنَّه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره حين كانوا في عالم الذَّرِّ، لا يذكره أحدٌ ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتجُّ الله عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟! ولهذا لما كان هذا أمرًا واضحًا جليًّا قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ} [الأعراف: 174]؛ أي: نبيِّنها ونوضِّحها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى ما أَوْدَع الله في فطرهم، وإلى ما عاهدوا الله عليه، فيرتدعوا عن القبائح"[13].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أن يقولوا؛ أي: لئلاَّ يقولوا، أو كراهية أن يقولوا، ومَن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلاَّ تقولوا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل: كيف تلزم الحُجَّة على أحدٍ لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمَن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد ولَزِمَتْه الحُجَّة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
قوله - تعالى -: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}، يقول: إنما أُخِذ الميثاق عليكم لئلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: كنَّا أتباعًا لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عُذْرًا لأنفسكم وتقولوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}؛ أفتعذِّبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجُّوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله - تعالى - بأَخْذ الميثاق على التوحيد، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ}؛ أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى التوحيد"[14].
"فهذه الآية تدلُّ على أن الإنسان مجبولٌ بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أم قلنا: إن هذا هو ما ركب الله - تعالى - في فِطَرِهم من الإقرار به؛ فإنَّ الآية تدلُّ على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته"[15].
4- التوحيد من أجله أرسل الله الرسل:
قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ "أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله؛ فأدلَّة العقل شاهدةٌ أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إمَّا معقولٌ وإما منقولٌ، وقال قتادة: لم يُرْسَل نبيٌّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ ذلك على الإخلاص والتوحيد"[16].
"فإن قيل: إذا كان الدَّليل العقلي والدليل النقلي قد دلاَّ على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب - تعالى - بقوله : {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ أي: ذلك الذي مشوا عليه ليس لهم فيه حجة، وإنَّما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخِّر بالمتقدِّم الضالِّ، وأماني منَّاها الشياطين، وزيَّنت لهم سوءُ أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسَّر انفصالُها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحلِّ"[17].
"فكلُّ نبيٍّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضًا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضةٌ عند ربهم، وعليهم غضبٌ، ولهم عذابٌ شديد"[18].
وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
"يخبر - تعالى - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنَّه ما من أمَّة متقدِّمة أو متأخِّرة، إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلُّهم متَّفقون على دعوة واحدة ودين واحد؛ وهو: عبادة الله وحده لا شريك أَنِ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها - قسمين، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} فاتبعوا المرسلين علمًا وعملاً، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} فاتَّبع سبيل الغي"[19].
"{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: بأن اعبدوا الله ووحِّدوه، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: اتركوا كلَّ معبود دون الله؛ كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل مَن دعا إلى الضلال، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وعبادته، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}؛ أي: بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره"[20].
"فدلَّت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هي عبادة الله وحده وتَرْك عبادة ما سواه، وأن أصل دين الأنبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله، وإن اختلفت شرائعهم"[21].
"وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)، لأنها مركبة من نفي وإثبات؛ فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله - تعالى - في جميع أنواع العبادات، وإثباتها هو إفراده - جل وعلا - بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله - عليهم صلوات الله وسلامه.
وأوضح هذا المعنى كثيرًا في القرآن عن طريق العموم والخصوص، فمن النصوص الدالَّة عليه مع عمومها قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، ونحو ذلك من الآيات.
ومن النصوص الدالَّة عليه مع الخصوص في أفراد الأنبياء وأممهم قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله - تعالى -: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن كل ما عُبِد من دون الله فهو طاغوت، ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه؛ كما بيَّنه - تعالى - بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]، وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} [النحل: 36]، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد، ومنهم شقي؛ فالسعيد منهم يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل، والشقي منهم يسبق عليه الكتاب فيكذِّب الرسل، ويكفر بما جاؤوا به، فالدعوة إلى دين الحق عامَّة، والتوفيق للهدى خاصٌّ؛ كما قال - تعالى -: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فقوله: {فَمِنْهُمْ}؛ أي: من الأمم المذكورة في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}، وقوله: {مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ}؛ أي: وفَّقه لاتباع ما جاءت به الرسل"[22].
"يقول - تعالى ذكره -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} أيُّها الناس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} سلفت قبلكم {رَسُولاً}، كما بعثنا فيكم بـ{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده لا شريك له وأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم ويصدَّكم عن سبيل الله فتضلُّوا {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يقول: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله، فوفَّقه لتصديق رسله والقبول منها، والإيمان بالله والعمل بطاعته، ففاز وأفلح ونجا من عذاب الله، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} يقول: وممَّن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقَّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذَّبوا رسله واتَّبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين"[23].
"فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، فمشيئته - تعالى - الشرعية عنهم منتفية؛ لأنَّه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأمَّا مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرًا، فلا حُجَّة لهم فيها؛ لأنه - تعالى - خلق النار وأهلها من الشياطين والكَفَرَة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة"[24]، "فالقرآن صريح في أن أساس دعوة جميع الرسل: التوحيد، وإفراد الله بالعبادة"[25].
5- التوحيد من أجله أنزل الله الكتب:قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1- 2]، "يقول - تعالى -: هذا {كِتَابٌ} عظيم، ونُزُل كريم، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: أُتْقِنت وأُحْسِنَت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه، {ثُمَّ فُصِّلَتْ}؛ أي: ميزت، بينت بيانًا في أعلى أنواع البيان، {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته، {خَبِيرٍ} مطَّلع على الظواهر والبواطن، فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة وسعة الرحمة، وإنما أنزل الله كتابه لأجل {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}؛ أي: لأجل إخلاص الدين كله لله، وألاّ يشرك به أحد من خلقه، {إِنَّنِي لَكُمْ} أيُّها الناس {مِنْهُ}؛ أي: من الله ربكم {نَذِيرٌ} لِمَن تجرَّأ على المعاصي، بعقاب الدنيا والآخرة {وَبَشِيرٌ} للمطيعين لله، بثواب الدنيا والآخرة"[26].
"فهذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أُنزل القرآن من أجلها هي: أن يُعبد الله - جلَّ وعلا - وحده، ولا يُشرك به في عبادته شيء؛ لأن قوله - جل وعلا -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} - صريح في أن آيات هذا الكتاب فصِّلت من عند الحكيم الخبير؛ لأجل أن يُعبد الله وحده"[27].
"أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصَّل لعبادة الله وحده لا شريك له؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36][28].
"وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب"[29].
6- التوحيد هو أوَّل ما ندعو الناس إليه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ((إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله - تعالى...))[30].
"قوله: ((ستأتي قومًا أهل كتاب)) هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجُهَّال من عَبَدَة الأوثان، وليس فيه أن جميع مَنْ يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصَّهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم، قوله: ((فإذا جئتهم)) قيل: عبر بلفظ (إذا) تفاؤلاً بحصول الوصول إليهم، قوله: ((فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله))، كذا للأكثر وقد تقدَّم في أوَّل الزكاة بلفظ: ((وأنِّى رسول الله))، كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وأمَّا إسماعيل بن أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه: ((فأوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله...))، وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: ((إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك...))، ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصحُّ شيءٌ غيرهما إلا بهما، فمَن كان منهم غير موحِّد فالمطالبة متوجِّهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومَن كان موحِّدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه؛ كمَن يقول ببنوَّة عزير، أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم"[31].
"وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ إذ لا تصحُّ الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصحُّ العبادة مع الشرك؛ كما قال - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أوَّل ما يبدأ به في الدعوة"[32].
فالتوحيد هو أوَّل شيء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إليه، وهذا ليس خاصًّا بمعاذ - رضي الله عنه - بل هو عامٌّ لكل مَن يدعو إلى الله - عز وجل - أن يبدأ بهذا الأصل، فإن هم أطاعوه لذلك وشهدوا أن لا إله إلا الله واعترفوا بعقيدة التوحيد حينئذٍ، فمُرْهم بالصلاة والزكاة، أمَّا بدون ذلك فلا تأمرهم بالصلاة؛ لأنه لا فائدة للصلاة والزكاة ولسائر الأعمال - ولو كَثُرت - بدون توحيد.
7- التوحيد من أجله انقسم الناس إلى مؤمن وكافر وبينهما ولاء وبراء:
قال - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة : 22]، "يقول - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى إيمانه ولوازمه، من محبة مَن قام بالإيمان وموالاته، وبغض مَن لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقربَ الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبَّته، وغرسه غرسًا لا يتزلزل، ولا تؤثِّر فيه الشُّبَه والشكوك، وهم الذين قوَّاهم الله بروح منه؛ أي: بوحيه ومعرفته ومَدَدِه الإلهي، وإحسانه الرباني، وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنَّات النعيم في دار القرار، التي فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وتختار، ولهم أفضل النعيم وأكبره، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المَثُوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات؛ بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا وراءه نهاية، وأمَّا مَن يزعُم أنه يؤمن بالله واليوم الأخر، وهو مع ذلك موادٌّ لأعداء الله، محبٌّ لِمَن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعميٌّ لا حقيقة له، فإن كان أمرٌ لا بُدَّ له من برهان يصدِّقه، فمجرَّد الدعوى لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها"[33].
{وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} قال السدِّيُّ: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أُبَي، جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي؛ لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفْضَلَ له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي - صلى الله عليه وسلم - جئتُك بها تشربها؛ لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلاَّ جئتني ببول أمِّك فإنَّه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل ترفق به، وتحسن إليه))، وقال ابن جريج: حُدِّثتُ أنَّ أبا قحافة سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فصكَّه أبو بكر ابنه صكَّةً فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: ((أَوَفَعَلْتَه؟ لا تعد إليه))، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف مِنِّي قريبًا لقتلته، وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجرَّاح، قتل أباه عبدالله بن الجرَّاح يوم أُحُد، وقيل: يوم بدر، وكان الجرَّاح يتصدَّى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلمَّا أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، ولقد سألت رجالاً من بني الحارث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}؛ يعني: أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر))، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}؛ يعني: مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ يعني: عمر بن الخطاب قتل خاله العاصِ بنَ هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة قَتَلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ، لمَّا كتب إلى أهل مكة بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، على ما يأتي بيانه أوَّل سورة (الممتحنة) - إن شاء الله تعالى - بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب"[34].
{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قوَّاهم بنصرٍ منه، قال الحسن: سمَّى نصرَه إيَّاهم روحًا؛ لأن أمرهم يحيا به، وقال السُّدِّي: يعني: بالإيمان، وقال الربيع: يعني: بالقرآن وحجته، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وقيل: برحمة منه، وقيل: أمدَّهم بجبريل - عليه السلام"[35].
وقال - سبحانه -: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]؛ "ومعنى ذلك: لا تتخذوا - أيُّها المؤمنون - الكفَّار ظهرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنَّه مَن يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر؛ {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"[36].
"فهذا نهيٌّ من الله وتحذير للمؤمنين أن يتَّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والله وليُّهم، ومَن يفعل ذلك التولِّي فليس من الله في شيء؛ أي: فهو بريءٌ من الله، والله بريءٌ منه؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]؛ أي: إلاَّ أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين فلكم في هذه الحال الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولِّي الذي هو محبَّة القلب الذي تتبعه النصرة {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}؛ أي: فخافوه واخشوه وقدِّموا خشيته على خشية الناس؛ فإنه هو الذي يتولَّى شؤون العباد، وقد أخذ بنواصيهم، وإليه يرجعون، وسيصيرون إليه فيجازي مَن قدَّم حقوقه ورجاءه على غيره بالثواب الجزيل، ويعاقب الكافرين ومَن تولاَّهم بالعذاب الوبيل".
8- التوحيد من أجله شرع الله الجهاد:
قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].
"{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ أي: شرك، وصد عن سبيل الله ويذعنوا لأحكام الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرَّهم عن الدين، وأن يَذُبَّ عن دين الله، الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان، {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن ما هم عليه من الظُّلم، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، لا تخفى عليه منهم خافية، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى}، الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسِّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفُجَّار، وتكالُب الأشرار، ومَن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومَن كان الله عليه فلا عزَّ له، ولا قائمة تقوم له"[37].
"قال ابن جريج: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؛ أي: لا يفتُر مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شركٌ، ويخلع ما دونه من الأنداد"[38].
"فدلَّ على أنه إذا وُجد الشرك فالقتال باقٍ بحاله؛ كما قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقال - تعالى -: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلَّي سبيلهم، ومتى أَبَوْا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باقٍ بحاله إجماعًا"[39].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله - عز وجل))[40]، "قوله: ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم: ((مَن وحَّد الله وكفر بما يعبد من دونه حرَّم دمه وماله))، وأخرجه الطبراني من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة))، ونحوه في حديث أبي العنبس وفي حديث أنس عند أبي داود: ((حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلُّوا صلاتنا))، وفي رواية العلاء بن عبدالرحمن: ((حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به))[41].
"وقد وردت الأحاديث بذلك زائدٌ بعضها على بعض؛ ففي حديث أبي هريرة الاقتصار على قول: لا إله إلا الله، وفي حديثه من وجهٍ آخر عند مسلم: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله))، وفي حديث ابن عمر ما ذكرت، وفي حديث أنس: ((... فإذا صلُّوا واستقبلوا وأكلوا ذبيحتنا))، قال الطبري وغيره: أمَّا الأول فقاله في حالة قتاله لأهل الأوثان الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما الثاني فقاله في حالة قتال أهل الكتاب الذين يعترفون بالتوحيد ويجحدون نبوَّته عمومًا أو خصوصًا، وأمَّا الثالث ففيه الإشارة إلى أن من دخل في الإسلام وشهد بالتوحيد وبالنبوة ولم يعمل بالطاعات، أن حكمهم أن يقاتلوا حتى يذعنوا إلى ذلك"[42].
"فالمقصود بالجهاد ألا يعبد غير الله، فلا يدعو غيرَه، ولا يُصلِّي لغيره، ولا يسجد لغيره، ولا يعتمر ولا يحج إلا إلى بيته، ولا يذبح القرابين إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكَّل إلا عليه، ولا يخاف إلا إياه..."[43].
9- التوحيد شرط في النصر والتمكين:
قال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
"ذكر - جلَّ وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في ٱلاْرْضِ}؛ أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلُّ على أن طاعة الله بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوَّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة؛ كقوله - تعالى -: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، وقوله - تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40- 41]، وقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، إلى غير ذلك من الآيات، وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي : كبني إسرائيل، ومن الآيات الموضحة لذلك قوله - تعالى -: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5- 6]، وقوله - تعالى - عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقوله - تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، إلى غير ذلك من الآيات..."[44].
"هذا وعدٌ من الله - تعالى - لرسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأنه سيجعل أمَّته خلفاء الأرض؛ أي: أئمَّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكمًا فيهم، وقد فعله - تبارك وتعالى - وله الحمد والمنَّة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة - رحمه الله - وأكرمه.
ثم لمَّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختار الله له ما عنده من الكرامة - قام بالأمر بعده خليفتُه أبو بكر الصديق، فلمَّ شعث ما وَهَى بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وأَطَّدَ جزيرة العرب ومهَّدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ففتحوا طرفًا منها، وقتلوا خلقًا من أهلها، وجيشًا آخر صحبة أبي عبيدة - رضي الله عنه - ومَن اتَّبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفَّاه الله - عز وجل - واختار له ما عنده من الكرامة.
ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصدِّيق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قيامًا تامًّا، لم يَدُرِ الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتمَّ في أيَّامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لمَّا كانت الدولة العثمانية امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة ممَّا يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وبادَ ملكُه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مَقْتَلَة عظيمة جدًّا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبِي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في "الصحيح" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، ويبلغ ملك أمتي ما زُوِي لي منها))، فها نحن نتقلَّب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا... وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبي سلمة، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشِّر هذه الأمة بالسَّنا والرِّفعة والدين، والنصر والتمكين في الأرض، فمَن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب))، وقوله - تعالى -: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، قال الإمام أحمد: حدثنا عفَّان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس، أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه إلاَّ آخرة الرحل، قال: ((يا معاذ))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ((هل تدري ما حقُّ الله على العباد؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا))، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ((فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حقَّ العباد على الله ألاَّ يعذبهم))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
وقوله - تعالى -: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]؛ أي: فمَن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه، وكفى بذلك ذنبًا عظيمًا، فالصحابة - رضي الله عنهم - لمَّا كانوا أقوم الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوامر الله - عز وجل - وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيَّدهم تأييدًا عظيمًا، وحكموا في سائر العباد والبلاد، ولمَّا قصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجهٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم إلى يوم القيامة))، وفي رواية: ((حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))، وفي رواية: ((حتى يقاتلوا الدجال))، وفي رواية: ((حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون))، وكلُّ هذه الروايات صحيحة، ولا تعارُض بينها"[45].
"وقال - سبحانه -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، فهم منصورون، والعاقبة لهم، ولكن لا بُدَّ قبل النصر من معاناة وتعب وجهاد؛ لأن النصر يقتضي منصورًا ومنصورًا عليه؛ إذًا فلا بُدَّ من مغالبة، ولا بُدَّ من محنة، ولكن كما قال ابن القيم[46]:
أمَّا بعد:
فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثَاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
إن مَن تدبر نصوص القرآن والسُّنَّة يعلم أهمية التوحيد الذي أرسل الله به رسله، وأنزل به كتبه، ولا يستطيع أحدٌ أن يحصر أهمية التوحيد ولو في أسفارٍ ومجلَّدات، غير أني أذكر طَرَفًا منها في هذه المقالة؛ لتكون بمثابة المنارات التي يهتدي بها السالك لأنفع المسالك، وهي:
1- التوحيد من أجله خلق الله الخلق:
قال - تعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، "هذه الغاية التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمِّنة لمعرفته ومحبَّته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والإعراض عمَّا سواه، وذلك متوقِّف على معرفة الله - تعالى - فإنَّ تمام العبادة متوقفٌ على المعرفة بالله، بل كلَّما ازداد العبد معرفةً بربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلَّفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[1].
فمعنى الآية: أنه - تبارك وتعالى - خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له، فمَن أطاعه جازاه أتمَّ الجزاء، ومَن عصاه عذَّبه أشدَّ العذاب، وأخبر أنَّه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، فهو خالقهم ورازقهم"[2].
"فبيَّن - سبحانه - الحكمة في خلقهم، وهي أن يعبدوا الله وحده، وأنهم لم يُخلقوا عبثًا ولا سدًى، بل خُلقوا لهذا الأمر العظيم؛ وهو أن يعبدوا الله - جل وعلا - ولا يشركوا به شيئًا، ويخصُّوه بدعائهم، وخوفهم ورجائهم، وصلاتهم وصومهم، وذبحهم ونذرهم، وغير ذلك"[3].
"فإذا عرفت أن الله خلقك لعبادته، فاعلم أن العبادة لا تُسمَّى عبادةً إلا مع التوحيد، كما أن الصلاة لا تُسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة"[4].
2- التوحيد فطرة الله التي فطر الناس عليها:
قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]؛ "{فَأَقِمْ وَجْهَكَ}؛ أي: انصبه ووجِّهه {لِلدِّينِ} الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان؛ بأن تتوجَّه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة؛ كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، ونحوها، وشرائعه الباطنة؛ كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك، وخصَّ الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنِيفًا}؛ أي: مُقْبِلاً على الله في ذلك، معرِضًا عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}، ووضع في عقولهم حسنها، واستقباح غيرها.
فإن جميع أحكام الشرع، الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق، وهذه حقيقة الفِطَر، ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِضٍ عرض لفطرته أفسدها؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)).
{لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}؛ أي: لا أحد يبدِّل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله {ذَلِكَ} الذي أمرناك به {الدِّينُ الْقَيِّمُ}؛ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى الله، وإلى دار كرامته، فإنَّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه؛ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، فلا يتعرَّفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه"[5].
"والنفس بفطرتها إذا تُرِكت كانت مُقِرَّة لله بالإلهية، مُحبَّةً لله، تعبدُه لا تُشرك به شيئًا، ولكن يفسدها وينحرف بها عن ذلك ما يُزيِّنُ لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضُهم إلى بعضٍ زخرف القول غرورًا، فالتوحيد مركوزٌ في الفِطَر والشرك طارئ ودخيل عليها"[6].
"فإن الله فَطَرَ القلوب على قبول الحق والانقياد له والطمأنينة به، والسكون إليه ومحبته، وفطرها على بغض الكذب والباطل والنفور عنه والريبة به وعدم السكون إليه، ولو بقيت الفِطَر على حالها لما آثرت على الحقِّ سواه، ولما سكنت إلاَّ إليه، ولا اطمأنَّت إلا به، ولا أحبَّت غيره"[7].
"فسدِّد وجهك واستمِرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه - تعالى - فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره؛ كما تقدَّم عند قوله - تعالى -: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، وفي الحديث: ((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))[8].
"فأخبر أنه فطر عباده على إقامة الوجه حنيفًا، وهي عبادة اللّه وحده لا شريك له، فهذه من الحركة الفطرية الطبيعية المستقيمة المعتدلة للقلب، وتركها ظلم عظيم اتَّبع أهلُه أهواءَهم بغير علم، ولا بُدَّ لهذه الفطرة والخلقة - وهي صحة الخلقة - من قوت وغذاء يمدُّها بنظير ما فيها مما فطرت عليه علمًا وعملاً؛ ولهذا كان تمام الدين بالفطرة المكمَّلة بالشريعة المنزَّلة، وهي مأدُبة الله كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: ((إنَّ كل آدبٍ يحبُّ أن تُؤتى مأدُبته، وإن مأدُبَة الله هي القرآن))، ومثله كماءٍ أنزله الله من السماء، كما جرى تمثيله بذلك في الكتاب والسُّنَّة، والمحرِّفون للفطرة المغيِّرون للقلب عن استقامته، هم ممرضون القلوبَ مسقمون لها، وقد أنزل الله كتابه شفاءً لما في الصدور"[9].
"ولهذا كان بطلان الشرك وقبحه معلومًا بالفطرة السليمة والعقول الصحيحة، والعلم بقبحه أظهر من العلم بقبح سائر القبائح"[10].
"ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا، وإنَّما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسَب بالإرادة والفعل، ألاَ ترى أنه يقول: ((فأبواه يهوِّدانه))؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكومٌ له بحكم أبويه الكافرين، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله - تعالى -: إني خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم))، ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي، وحماد بن سلمة، وحُكِي عن عبدالله بن المبارك أنه قال: معنى الحديث: أن كل مولود يولد على فطرته؛ أي: على خلقته التي جُبِل عليها في علم الله - تعالى - من السعادة أو الشقاوة، فكلٌّ منهم صائرٌ في العاقبة إلى ما فطر عليها، وعامل في الدنيا بالعمل المُشَاكِل لها، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديَّين أو نصرانيَّين، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما، وقيل: معناه: أن كل مولودٍ يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة؛ أي: على الجبلَّة السليمة والطبع المتهيِّئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرَّ على لزومها؛ لأن هذا الدين موجودٌ حسنُه في العقول، وإنَّما يعدل عنه مَن يعدل إلى غيره؛ لآفةٍ من آفات النشوء والتقليد، فلو سَلِم من تلك الآفات لم يعتقد غيره"[11].
3- التوحيد من أجله أخذ الله الميثاق على بني آدم:
قال - تعالى -: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، "يخبر - تعالى - أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، كما أنه - تعالى - فطرهم على ذلك وجَبَلهم عليه؛ قال - تعالى -: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل مولود يُولَد على الفطرة - وفي رواية: على هذه الملة - فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تولد بهيمة جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء))، وفي "صحيح مسلم" عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم))، وقال الإمام أبو جعفر بن جرير - رحمه الله -: "حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، أخبرني السَّرِيُّ بن يحيى: أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم، عن الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع غزوات، قال: فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدَّ عليه، ثم قال: ((ما بال أقوام يتناولون الذريَّة؟))، فقال رجل: يا رسول الله، أليسوا أبناء المشركين؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن خياركم أبناء المشركين، ألا إنَّها ليست نسمة تولد إلا وُلِدَت على الفطرة، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها؛ فأبواها يهوِّدانها، وينصِّرانها))، قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية، وقد رواه الإمام أحمد، عن إسماعيل بن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن البصري به، وأخرجه النسائي في "سننه" من حديث هُشَيم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، قال: حدثني الأسود بن سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك، وقد وردت أحاديث في أخذ الذريَّة من صلب آدم - عليه السلام - وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأنَّ الله ربهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتديًا به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك؛ قد أخذت عليك في ظهر آدم ألاّ تشرك بي شيئًا، فأبيت إلاَّ أن تشرك بي))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير - يعني: ابن حازم - عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((أخذ الله الميثاق من ظهر آدم - عليه السلام - بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كلَّ ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلَّمهم قبلاً؛ قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172- 173]، وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من "سننه" عن محمد بن عبدالرحيم صاعقة، عن حسين بن محمد المروزي به، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به، إلاَّ أن ابن أبي حاتم جعله موقوفًا، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" من حديث حسين بن محمد وغيره، عن جرير بن حازم، عن كلثوم بن جبر به، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقد احتجَّ مسلمٌ بكلثوم بن جبر، هكذا قال، وقد رواه عبدالوارث، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فوقفه، وكذا رواه إسماعيل بن عُلَيَّة ووكيع، عن ربيعة بن كلثوم، عن جبر، عن أبيه به، وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، فهذا أكثر وأثبت - والله أعلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن أبي حمزة الضُّبَعي، عن ابن عباس قال: أخرج الله ذرية آدم من ظهره كهيئة الذَّرِّ وهو في أذًى من الماء، وقال أيضًا: حدثنا علي بن سهل، حدثنا ضمرة بن ربيعة، حدثنا أبو مسعود، عن جرير، قال: مات ابن الضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام، قال: فقال: يا جابر، إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه، وحلَّ عنه عُقَدَه، فإن ابني مُجْلَس ومسؤول، ففعلت به الذي أمر، فلما فرغت قلت: يرحمك الله، عمَّ يسأل ابنك؟ مَنْ يسأله إياه؟ قال: يسأل عن الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم، قلت: يا أبا القاسم، وما هذا الميثاق الذي أقرَّ به في صلب آدم؟ قال: حدثني ابن عباس: إن الله مسح صلب آدم، فاستخرج منه كلَّ نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وتكفَّل لهم بالأرزاق، ثم أعادهم في صلبه، فلن تقوم الساعة حتى يولد مَن أعطى الميثاق يومئذ، فمَن أدرك منهم الميثاق الآخر فَوَفَى به نفعه الميثاق الأول، ومَن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرَّ به لم ينفعه الميثاق الأوَّل، ومَن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول - على الفطرة - فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وقف هذا على ابن عباس، والله أعلم.
فهذه الأحاديث دالَّة على أن الله - عز وجل - استخرج ذرية آدم من صلبه وميَّز بين أهل الجنة وأهل النار، وأمَّا الإشهاد عليهم هناك بأنه ربُّهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وفي حديث عبدالله بن عمرو، وقد بيَّنَّا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدَّم، ومن ثمَّ قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدَّم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي، ومن رواية الحسن البصري، عن الأسود بن سريع، وقد فسَّر الحسن الآية بذلك قالوا: ولهذا قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ}، ولم يقل: من آدم، {مِنْ ظُهُورِهِمْ} ولم يقل: من ظهره {ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: جعل نسلهم جيلاً بعد جيل، وقرنًا بعد قرن؛ كقوله - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام: 165]، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل: 62]، وقال: {كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ} [الأنعام: 133]، ثم قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً، والشهادة تارة تكون بالقول؛ كقوله: {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} الآية، وتارة تكون حالاً كقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة : 17]؛ أي: حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك، وكذا قوله - تعالى -: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، كما أن السؤال تارةً يكون بالقال وتارة يكون بالحال كقوله: {وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34]، قالوا: ومما يدلُّ على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حُجَّة عليهم في الإشراك، فلو كان قد وقع هذا كما قال مَن قاله، لكان كلُّ أحد يذكره ليكون حُجَّةً عليه، فإن قيل: إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - به كافٍ في وجوده، فالجواب أن المكذِّبين من المشركين يكذِّبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جُعِل حجة مستقلَّة عليهم، فدلَّ على أنَّه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد، ولهذا قال: {أَنْ تَقُولُوا}؛ أي: لئلاَّ تقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: التوحيد {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا}" الآية[12].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}؛ أي: أقررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فِطَرِهم من الإقرار بأنَّه ربهم وخالقهم، ومليكهم، {قَالُوا بَلَى} قد أقررنا بذلك، فإن الله - تعالى - فطر عباده على الدين الحنيف القيم، فكلُّ أحدٍ فهو مفطورٌ على ذلك، ولكن الفطرة قد تتغيَّر وتتبدَّل، بما يطرأ على العقول من العقائد الفاسدة، ولهذا؛ {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: إنما امتحناكم، حتى أقررتم بما تقرَّر عندكم من أن الله - تعالى - ربكم خشية أن تنكروا يوم القيامة، فلا تقرُّوا بشيءٍ من ذلك، وتزعمون أنَّ حجَّة الله ما قامت عليكم، ولا عندكم بها علم، بل أنتم غافلون عنها لاهون، فاليوم قد انقطعت حُجَّتكم، وثبتت الحجة البالغة لله عليكم، أو تحتجُّون أيضًا بحُجَّة أخرى فتقولون: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} فحذونا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم، {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}، فقد أَوْدَع الله في فِطَرِكم ما يدلُّكم على أن ما مع آبائكم باطل، وأنَّ الحقَّ ما جاءت به الرسل، وهذا يقاوم ما وجدتم عليه آباءَكم ويعلو عليه، نعم، قد يعرض للعبد من أقوال آبائه الضالِّين، ومذاهبهم الفاسدة ما يظنُّه هو الحق، وما ذاك إلا لإعراضه عن حُجَجِ الله وبيِّناته، وآياته الأُفُقية والنفسية، فإعراضه ذلك وإقباله على ما قاله المبطلون ربما صيَّره بحالةٍ يفضِّل بها الباطل على الحق، هذا هو الصواب في تفسير هذه الآيات، وقد قيل: إن هذا يومٌ أخذ الله الميثاق على ذرية آدم، حين استخرجهم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم، فشهدوا بذلك، فاحتجَّ عليهم بما أمرهم به في ذلك الوقت على ظلمهم، في كفرهم وعنادهم في الدنيا والآخرة، ولكن ليس في الآية ما يدلُّ على هذا، ولا له مناسبة، ولا تقتضيه حكمة الله - تعالى - والواقع شاهدٌ بذلك، فإنَّ هذا العهد والميثاق الذي ذكروا أنَّه حين أخرج الله ذرية آدم من ظهره حين كانوا في عالم الذَّرِّ، لا يذكره أحدٌ ولا يخطر ببال آدمي، فكيف يحتجُّ الله عليهم بأمر ليس عندهم به خبر، ولا له عين ولا أثر؟! ولهذا لما كان هذا أمرًا واضحًا جليًّا قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ} [الأعراف: 174]؛ أي: نبيِّنها ونوضِّحها، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، إلى ما أَوْدَع الله في فطرهم، وإلى ما عاهدوا الله عليه، فيرتدعوا عن القبائح"[13].
"{وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أن يقولوا؛ أي: لئلاَّ يقولوا، أو كراهية أن يقولوا، ومَن قرأ بالتاء فتقدير الكلام: أخاطبكم: ألست بربكم لئلاَّ تقولوا، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}؛ أي: عن هذا الميثاق والإقرار، فإن قيل: كيف تلزم الحُجَّة على أحدٍ لا يذكر الميثاق؟ قيل: قد أوضح الله الدلائل على وحدانيته، وصدق رسله فيما أخبروا، فمَن أنكره كان معاندًا ناقضًا للعهد ولَزِمَتْه الحُجَّة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة.
قوله - تعالى -: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}، يقول: إنما أُخِذ الميثاق عليكم لئلاَّ تقولوا - أيها المشركون -: {إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} ونقضوا العهد {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ}؛ أي: كنَّا أتباعًا لهم فاقتدينا بهم، فتجعلوا هذا عُذْرًا لأنفسكم وتقولوا: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}؛ أفتعذِّبنا بجناية آبائنا المبطلين، فلا يمكنهم أن يحتجُّوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله - تعالى - بأَخْذ الميثاق على التوحيد، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ}؛ أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من الكفر إلى التوحيد"[14].
"فهذه الآية تدلُّ على أن الإنسان مجبولٌ بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته، وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أم قلنا: إن هذا هو ما ركب الله - تعالى - في فِطَرِهم من الإقرار به؛ فإنَّ الآية تدلُّ على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته"[15].
4- التوحيد من أجله أرسل الله الرسل:
قال - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]؛ "أي: قلنا للجميع: لا إله إلا الله؛ فأدلَّة العقل شاهدةٌ أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إمَّا معقولٌ وإما منقولٌ، وقال قتادة: لم يُرْسَل نبيٌّ إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكلُّ ذلك على الإخلاص والتوحيد"[16].
"فإن قيل: إذا كان الدَّليل العقلي والدليل النقلي قد دلاَّ على بطلان الشرك، فما الذي حمل المشركين على الشرك، وفيهم ذوو العقول والذكاء والفطنة؟ أجاب - تعالى - بقوله : {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} [فاطر: 40]؛ أي: ذلك الذي مشوا عليه ليس لهم فيه حجة، وإنَّما ذلك توصية بعضهم لبعض به، وتزيين بعضهم لبعض واقتداء المتأخِّر بالمتقدِّم الضالِّ، وأماني منَّاها الشياطين، وزيَّنت لهم سوءُ أعمالهم، فنشأت في قلوبهم، وصارت صفة من صفاتها، فعسر زوالها، وتعسَّر انفصالُها، فحصل ما حصل، من الإقامة على الكفر، والشرك الباطل المضمحلِّ"[17].
"فكلُّ نبيٍّ بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضًا، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضةٌ عند ربهم، وعليهم غضبٌ، ولهم عذابٌ شديد"[18].
وقال - سبحانه -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].
"يخبر - تعالى - أن حجته قامت على جميع الأمم، وأنَّه ما من أمَّة متقدِّمة أو متأخِّرة، إلا وبعث الله فيها رسولاً، وكلُّهم متَّفقون على دعوة واحدة ودين واحد؛ وهو: عبادة الله وحده لا شريك أَنِ {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فانقسمت الأمم بحسب استجابتها لدعوة الرسل وعدمها - قسمين، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} فاتبعوا المرسلين علمًا وعملاً، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} فاتَّبع سبيل الغي"[19].
"{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}؛ أي: بأن اعبدوا الله ووحِّدوه، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}؛ أي: اتركوا كلَّ معبود دون الله؛ كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل مَن دعا إلى الضلال، {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ}؛ أي: أرشده إلى دينه وعبادته، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}؛ أي: بالقضاء السابق عليه حتى مات على كفره"[20].
"فدلَّت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هي عبادة الله وحده وتَرْك عبادة ما سواه، وأن أصل دين الأنبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله، وإن اختلفت شرائعهم"[21].
"وهذا هو معنى (لا إله إلا الله)، لأنها مركبة من نفي وإثبات؛ فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله - تعالى - في جميع أنواع العبادات، وإثباتها هو إفراده - جل وعلا - بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله - عليهم صلوات الله وسلامه.
وأوضح هذا المعنى كثيرًا في القرآن عن طريق العموم والخصوص، فمن النصوص الدالَّة عليه مع عمومها قوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، وقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45]، ونحو ذلك من الآيات.
ومن النصوص الدالَّة عليه مع الخصوص في أفراد الأنبياء وأممهم قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله - تعالى -: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73]، وقوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 85]، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن كل ما عُبِد من دون الله فهو طاغوت، ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه؛ كما بيَّنه - تعالى - بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة: 256]، وقوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} [النحل: 36]، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد، ومنهم شقي؛ فالسعيد منهم يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل، والشقي منهم يسبق عليه الكتاب فيكذِّب الرسل، ويكفر بما جاؤوا به، فالدعوة إلى دين الحق عامَّة، والتوفيق للهدى خاصٌّ؛ كما قال - تعالى -: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]، فقوله: {فَمِنْهُمْ}؛ أي: من الأمم المذكورة في قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ}، وقوله: {مَّنْ هَدَى ٱللَّهُ}؛ أي: وفَّقه لاتباع ما جاءت به الرسل"[22].
"يقول - تعالى ذكره -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا} أيُّها الناس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} سلفت قبلكم {رَسُولاً}، كما بعثنا فيكم بـ{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وحده لا شريك له وأفردوا له الطاعة وأخلصوا له العبادة، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} يقول: وابعدوا من الشيطان، واحذروا أن يغويكم ويصدَّكم عن سبيل الله فتضلُّوا {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يقول: فممن بعثنا فيهم رسلنا من هدى الله، فوفَّقه لتصديق رسله والقبول منها، والإيمان بالله والعمل بطاعته، ففاز وأفلح ونجا من عذاب الله، {وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ} يقول: وممَّن بعثنا رسلنا إليه من الأمم آخرون حقَّت عليهم الضلالة، فجاروا عن قصد السبيل، فكفروا بالله وكذَّبوا رسله واتَّبعوا الطاغوت، فأهلكهم الله بعقابه، وأنزل عليهم بأسه الذي لا يُرَدُّ عن القوم المجرمين"[23].
"فيكف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل: 35]، فمشيئته - تعالى - الشرعية عنهم منتفية؛ لأنَّه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأمَّا مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرًا، فلا حُجَّة لهم فيها؛ لأنه - تعالى - خلق النار وأهلها من الشياطين والكَفَرَة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة"[24]، "فالقرآن صريح في أن أساس دعوة جميع الرسل: التوحيد، وإفراد الله بالعبادة"[25].
5- التوحيد من أجله أنزل الله الكتب:قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 1- 2]، "يقول - تعالى -: هذا {كِتَابٌ} عظيم، ونُزُل كريم، {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}؛ أي: أُتْقِنت وأُحْسِنَت، صادقة أخبارها، عادلة أوامرها ونواهيها، فصيحة ألفاظه بهية معانيه، {ثُمَّ فُصِّلَتْ}؛ أي: ميزت، بينت بيانًا في أعلى أنواع البيان، {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ} يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها، لا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه حكمته، {خَبِيرٍ} مطَّلع على الظواهر والبواطن، فإذا كان إحكامه وتفصيله من عند الله الحكيم الخبير فلا تسأل بعد هذا عن عظمته وجلالته واشتماله على كمال الحكمة وسعة الرحمة، وإنما أنزل الله كتابه لأجل {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}؛ أي: لأجل إخلاص الدين كله لله، وألاّ يشرك به أحد من خلقه، {إِنَّنِي لَكُمْ} أيُّها الناس {مِنْهُ}؛ أي: من الله ربكم {نَذِيرٌ} لِمَن تجرَّأ على المعاصي، بعقاب الدنيا والآخرة {وَبَشِيرٌ} للمطيعين لله، بثواب الدنيا والآخرة"[26].
"فهذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أُنزل القرآن من أجلها هي: أن يُعبد الله - جلَّ وعلا - وحده، ولا يُشرك به في عبادته شيء؛ لأن قوله - جل وعلا -: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} - صريح في أن آيات هذا الكتاب فصِّلت من عند الحكيم الخبير؛ لأجل أن يُعبد الله وحده"[27].
"أي: نزل هذا القرآن المحكم المفصَّل لعبادة الله وحده لا شريك له؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُون} [الأنبياء: 25]، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36][28].
"وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب"[29].
6- التوحيد هو أوَّل ما ندعو الناس إليه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه -: ((إنك تقدم على قومٍ من أهل الكتاب، فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه أن يوحِّدوا الله - تعالى...))[30].
"قوله: ((ستأتي قومًا أهل كتاب)) هي كالتوطئة للوصية لتستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجُهَّال من عَبَدَة الأوثان، وليس فيه أن جميع مَنْ يقدم عليهم من أهل الكتاب، بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم، وإنما خصَّهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم، قوله: ((فإذا جئتهم)) قيل: عبر بلفظ (إذا) تفاؤلاً بحصول الوصول إليهم، قوله: ((فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله))، كذا للأكثر وقد تقدَّم في أوَّل الزكاة بلفظ: ((وأنِّى رسول الله))، كذا في رواية زكريا بن إسحاق لم يختلف عليه فيها، وأمَّا إسماعيل بن أمية ففي رواية روح بن القاسم عنه: ((فأوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله...))، وفي رواية الفضل بن العلاء عنه: ((إلى أن يوحدوا الله، فإذا عرفوا ذلك...))، ويجمع بينها بأن المراد بعبادة الله توحيده، وبتوحيده الشهادة له بذلك ولنبيه بالرسالة، ووقعت البداءة بهما؛ لأنهما أصل الدين الذي لا يصحُّ شيءٌ غيرهما إلا بهما، فمَن كان منهم غير موحِّد فالمطالبة متوجِّهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومَن كان موحِّدًا فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالوحدانية والإقرار بالرسالة وإن كانوا يعتقدون ما يقتضي الإشراك أو يستلزمه؛ كمَن يقول ببنوَّة عزير، أو يعتقد التشبيه، فتكون مطالبتهم بالتوحيد لنفي ما يلزم من عقائدهم"[31].
"وإذا أراد الدعوة إلى ذلك، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ إذ لا تصحُّ الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصحُّ العبادة مع الشرك؛ كما قال - تعالى -: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة: 17]، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أوَّل ما يبدأ به في الدعوة"[32].
فالتوحيد هو أوَّل شيء أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إليه، وهذا ليس خاصًّا بمعاذ - رضي الله عنه - بل هو عامٌّ لكل مَن يدعو إلى الله - عز وجل - أن يبدأ بهذا الأصل، فإن هم أطاعوه لذلك وشهدوا أن لا إله إلا الله واعترفوا بعقيدة التوحيد حينئذٍ، فمُرْهم بالصلاة والزكاة، أمَّا بدون ذلك فلا تأمرهم بالصلاة؛ لأنه لا فائدة للصلاة والزكاة ولسائر الأعمال - ولو كَثُرت - بدون توحيد.
7- التوحيد من أجله انقسم الناس إلى مؤمن وكافر وبينهما ولاء وبراء:
قال - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون} [المجادلة : 22]، "يقول - تعالى -: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: لا يجتمع هذا وهذا، فلا يكون العبد مؤمنًا بالله واليوم الآخر حقيقة، إلا كان عاملاً على مقتضى إيمانه ولوازمه، من محبة مَن قام بالإيمان وموالاته، وبغض مَن لم يقم به ومعاداته، ولو كان أقربَ الناس إليه، وهذا هو الإيمان على الحقيقة الذي وجدت ثمرته والمقصود منه، وأهل هذا الوصف هم الذين كتب الله في قلوبهم الإيمان؛ أي: رسمه وثبَّته، وغرسه غرسًا لا يتزلزل، ولا تؤثِّر فيه الشُّبَه والشكوك، وهم الذين قوَّاهم الله بروح منه؛ أي: بوحيه ومعرفته ومَدَدِه الإلهي، وإحسانه الرباني، وهم الذين لهم الحياة الطيبة في هذه الدار، ولهم جنَّات النعيم في دار القرار، التي فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وتختار، ولهم أفضل النعيم وأكبره، وهو أن الله يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، ويرضون عن ربهم بما يعطيهم من أنواع الكرامات، ووافر المَثُوبات، وجزيل الهبات، ورفيع الدرجات؛ بحيث لا يرون فوق ما أعطاهم مولاهم غاية، ولا وراءه نهاية، وأمَّا مَن يزعُم أنه يؤمن بالله واليوم الأخر، وهو مع ذلك موادٌّ لأعداء الله، محبٌّ لِمَن نبذ الإيمان وراء ظهره، فإن هذا إيمان زعميٌّ لا حقيقة له، فإن كان أمرٌ لا بُدَّ له من برهان يصدِّقه، فمجرَّد الدعوى لا تفيد شيئًا ولا يصدق صاحبها"[33].
{وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} قال السدِّيُّ: نزلت في عبدالله بن عبدالله بن أُبَي، جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ماءً، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي؛ لعل الله يطهر بها قلبه؟ فأفْضَلَ له فأتاه بها، فقال له عبدالله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي - صلى الله عليه وسلم - جئتُك بها تشربها؛ لعل الله يطهر قلبك بها، فقال له أبوه: فهلاَّ جئتني ببول أمِّك فإنَّه أطهر منها، فغضب وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول الله، أما أذنت لي في قتل أبي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بل ترفق به، وتحسن إليه))، وقال ابن جريج: حُدِّثتُ أنَّ أبا قحافة سبَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فصكَّه أبو بكر ابنه صكَّةً فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال: ((أَوَفَعَلْتَه؟ لا تعد إليه))، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف مِنِّي قريبًا لقتلته، وقال ابن مسعود: نزلت في أبي عبيدة بن الجرَّاح، قتل أباه عبدالله بن الجرَّاح يوم أُحُد، وقيل: يوم بدر، وكان الجرَّاح يتصدَّى لأبي عبيدة، وأبو عبيدة يحيد عنه، فلمَّا أكثر قصد إليه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله حين قتل أباه: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية، قال الواقدي: كذلك يقول أهل الشام، ولقد سألت رجالاً من بني الحارث بن فهر فقالوا: توفي أبوه من قبل الإسلام، {أَوْ أَبْنَاءَهُمْ}؛ يعني: أبا بكر دعا ابنه عبدالله إلى البراز يوم بدر، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((متِّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنزلة السمع والبصر))، {أَوْ إِخْوَانَهُمْ}؛ يعني: مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم بدر، {أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}؛ يعني: عمر بن الخطاب قتل خاله العاصِ بنَ هشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة قَتَلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، وقيل: إن الآية نزلت في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ، لمَّا كتب إلى أهل مكة بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، على ما يأتي بيانه أوَّل سورة (الممتحنة) - إن شاء الله تعالى - بين أن الإيمان يفسد بموالاة الكفار وإن كانوا أقارب"[34].
{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ}، أثبت التصديق في قلوبهم فهي موقنة مخلصة، وقيل: حكم لهم بالإيمان فذكر القلوب لأنها موضعه، {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قوَّاهم بنصرٍ منه، قال الحسن: سمَّى نصرَه إيَّاهم روحًا؛ لأن أمرهم يحيا به، وقال السُّدِّي: يعني: بالإيمان، وقال الربيع: يعني: بالقرآن وحجته، كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وقيل: برحمة منه، وقيل: أمدَّهم بجبريل - عليه السلام"[35].
وقال - سبحانه -: {لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28]؛ "ومعنى ذلك: لا تتخذوا - أيُّها المؤمنون - الكفَّار ظهرًا وأنصارًا، توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنَّه مَن يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ يعني بذلك: فقد برئ من الله، وبرئ الله منه بارتداده عن دينه، ودخوله في الكفر؛ {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل"[36].
"فهذا نهيٌّ من الله وتحذير للمؤمنين أن يتَّخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والله وليُّهم، ومَن يفعل ذلك التولِّي فليس من الله في شيء؛ أي: فهو بريءٌ من الله، والله بريءٌ منه؛ كقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]؛ أي: إلاَّ أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين فلكم في هذه الحال الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولِّي الذي هو محبَّة القلب الذي تتبعه النصرة {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}؛ أي: فخافوه واخشوه وقدِّموا خشيته على خشية الناس؛ فإنه هو الذي يتولَّى شؤون العباد، وقد أخذ بنواصيهم، وإليه يرجعون، وسيصيرون إليه فيجازي مَن قدَّم حقوقه ورجاءه على غيره بالثواب الجزيل، ويعاقب الكافرين ومَن تولاَّهم بالعذاب الوبيل".
8- التوحيد من أجله شرع الله الجهاد:
قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39].
"{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ}؛ أي: شرك، وصد عن سبيل الله ويذعنوا لأحكام الإسلام، {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ} فهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرَّهم عن الدين، وأن يَذُبَّ عن دين الله، الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان، {فَإِنِ انْتَهَوْا} عن ما هم عليه من الظُّلم، {فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، لا تخفى عليه منهم خافية، {وَإِنْ تَوَلَّوْا} عن الطاعة وأوضعوا في الإضاعة، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى}، الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسِّر لهم منافعهم الدينية والدنيوية، {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفُجَّار، وتكالُب الأشرار، ومَن كان الله مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومَن كان الله عليه فلا عزَّ له، ولا قائمة تقوم له"[37].
"قال ابن جريج: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؛ أي: لا يفتُر مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شركٌ، ويخلع ما دونه من الأنداد"[38].
"فدلَّ على أنه إذا وُجد الشرك فالقتال باقٍ بحاله؛ كما قال - تعالى -: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقال - تعالى -: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5]، فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامة شعائر الدين الظاهرة، فإذا فعلوها خلَّي سبيلهم، ومتى أَبَوْا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باقٍ بحاله إجماعًا"[39].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله - عز وجل))[40]، "قوله: ((أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) كذا ساقه الأكثر، وفي رواية طارق عند مسلم: ((مَن وحَّد الله وكفر بما يعبد من دونه حرَّم دمه وماله))، وأخرجه الطبراني من حديثه كرواية الجمهور، وفي حديث ابن عمر: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة))، ونحوه في حديث أبي العنبس وفي حديث أنس عند أبي داود: ((حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، ويأكلوا ذبيحتنا، ويصلُّوا صلاتنا))، وفي رواية العلاء بن عبدالرحمن: ((حتى يشهدوا أن لا اله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويؤمنوا بي وبما جئتُ به))[41].
"وقد وردت الأحاديث بذلك زائدٌ بعضها على بعض؛ ففي حديث أبي هريرة الاقتصار على قول: لا إله إلا الله، وفي حديثه من وجهٍ آخر عند مسلم: ((حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله))، وفي حديث ابن عمر ما ذكرت، وفي حديث أنس: ((... فإذا صلُّوا واستقبلوا وأكلوا ذبيحتنا))، قال الطبري وغيره: أمَّا الأول فقاله في حالة قتاله لأهل الأوثان الذين لا يقرُّون بالتوحيد، وأما الثاني فقاله في حالة قتال أهل الكتاب الذين يعترفون بالتوحيد ويجحدون نبوَّته عمومًا أو خصوصًا، وأمَّا الثالث ففيه الإشارة إلى أن من دخل في الإسلام وشهد بالتوحيد وبالنبوة ولم يعمل بالطاعات، أن حكمهم أن يقاتلوا حتى يذعنوا إلى ذلك"[42].
"فالمقصود بالجهاد ألا يعبد غير الله، فلا يدعو غيرَه، ولا يُصلِّي لغيره، ولا يسجد لغيره، ولا يعتمر ولا يحج إلا إلى بيته، ولا يذبح القرابين إلا له، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكَّل إلا عليه، ولا يخاف إلا إياه..."[43].
9- التوحيد شرط في النصر والتمكين:
قال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
"ذكر - جلَّ وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأُمّة: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في ٱلاْرْضِ}؛ أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض، الذين لهم السيطرة فيها، ونفوذ الكلمة، والآيات تدلُّ على أن طاعة الله بالإيمان به، والعلم الصالح سبب للقوَّة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة؛ كقوله - تعالى -: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ} [الأنفال: 26]، وقوله - تعالى -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40- 41]، وقوله - تعالى -: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، إلى غير ذلك من الآيات، وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة: {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ أي : كبني إسرائيل، ومن الآيات الموضحة لذلك قوله - تعالى -: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 5- 6]، وقوله - تعالى - عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]، وقوله - تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]، إلى غير ذلك من الآيات..."[44].
"هذا وعدٌ من الله - تعالى - لرسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأنه سيجعل أمَّته خلفاء الأرض؛ أي: أئمَّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكمًا فيهم، وقد فعله - تبارك وتعالى - وله الحمد والمنَّة؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة - رحمه الله - وأكرمه.
ثم لمَّا مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختار الله له ما عنده من الكرامة - قام بالأمر بعده خليفتُه أبو بكر الصديق، فلمَّ شعث ما وَهَى بعد موته - صلى الله عليه وسلم - وأَطَّدَ جزيرة العرب ومهَّدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - ففتحوا طرفًا منها، وقتلوا خلقًا من أهلها، وجيشًا آخر صحبة أبي عبيدة - رضي الله عنه - ومَن اتَّبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفَّاه الله - عز وجل - واختار له ما عنده من الكرامة.
ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصدِّيق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام بالأمر بعده قيامًا تامًّا، لم يَدُرِ الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتمَّ في أيَّامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام، وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لمَّا كانت الدولة العثمانية امتدَّت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة ممَّا يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وبادَ ملكُه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مَقْتَلَة عظيمة جدًّا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبِي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في "الصحيح" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن الله زَوَى لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، ويبلغ ملك أمتي ما زُوِي لي منها))، فها نحن نتقلَّب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا... وقال الإمام أحمد: حدثنا عبدالرزاق، أخبرنا سفيان، عن أبي سلمة، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بشِّر هذه الأمة بالسَّنا والرِّفعة والدين، والنصر والتمكين في الأرض، فمَن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب))، وقوله - تعالى -: {يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]، قال الإمام أحمد: حدثنا عفَّان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس، أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه إلاَّ آخرة الرحل، قال: ((يا معاذ))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ((هل تدري ما حقُّ الله على العباد؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا))، قال: ثم سار ساعة، ثم قال: ((يا معاذ بن جبل))، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: ((فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حقَّ العباد على الله ألاَّ يعذبهم))؛ أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.
وقوله - تعالى -: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55]؛ أي: فمَن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه، وكفى بذلك ذنبًا عظيمًا، فالصحابة - رضي الله عنهم - لمَّا كانوا أقوم الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوامر الله - عز وجل - وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب، وأيَّدهم تأييدًا عظيمًا، وحكموا في سائر العباد والبلاد، ولمَّا قصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم، ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجهٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم إلى يوم القيامة))، وفي رواية: ((حتى يأتي أمر الله وهم كذلك))، وفي رواية: ((حتى يقاتلوا الدجال))، وفي رواية: ((حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون))، وكلُّ هذه الروايات صحيحة، ولا تعارُض بينها"[45].
"وقال - سبحانه -: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، فهم منصورون، والعاقبة لهم، ولكن لا بُدَّ قبل النصر من معاناة وتعب وجهاد؛ لأن النصر يقتضي منصورًا ومنصورًا عليه؛ إذًا فلا بُدَّ من مغالبة، ولا بُدَّ من محنة، ولكن كما قال ابن القيم[46]:
وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلاَ تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ |
فلا يلحقك العجز والكسل إذا رأيت أن الأمور لم تتمَّ لك بأول مرة، بل اصبر، وكرِّر مرَّة بعد أخرى، واصبر على ما يقال فيك من استهزاء وسخرية؛ لأن أعداء الدين كثيرون.
ولا يثني عزمك أن ترى نفسك وحيدًا في الميدان، فأنت الجماعة وإن كنت واحدًا ما دمت على الحق، ولهذا ثِقْ بأنك منصور؛ إمَّا في الدنيا، وإمَّا في الآخرة"[47].
10- التوحيد شرط في الأمن والاهتداء:
قال - تعالى -: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
"بشَّرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلَّة لهم؛ بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادَّخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال... وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطِيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، وجُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّت لي الغنائم، وأُعْطِيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصَّة وبعثت إلى الناس عامة))[48].
"{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}؛ يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة - وهي السلطان - التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعدٌ من الله - جلَّ ثناؤه - أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصر على أعدائهم... ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته"[49].
{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}؛ أي: ذلك بسبب ما اتَّخذوا من دونه من الأنداد والأصنام التي اتَّخذوها على حسب أهوائهم وإراداتهم الفاسدة من غير حُجَّة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثمَّ كان المشرك مرعوبًا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدَّة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فأشدُّ وأعظم؛ ولهذا قال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}؛ أي: مستقرُّهم الذي يأوون إليه، وليس لهم عنها خروج؛ {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم"[50].
وقال - سبحانه -: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81- 82]؛ يعني: صدقوا ووحَّدوا، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ أي: شرك، إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله - عز وجل - وفي "الصحيح"[51]، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [آل عمران: 151] قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لم يظلم نفسه؟! فأنزل الله - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]"[52].
11- التوحيد هو الكلمة السواء التي بيننا وبين أهل الكتاب:
قال - تعالى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، "هذه الآية الكريمة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب، وكان يقرأ أحيانًا في الركعة الأولى من سُنَّة الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية [البقرة: 136]، ويقرأ بها في الرَّكعة الآخرة من سنَّة الصبح؛ لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد قد اتَّفق عليه الأنبياء والمرسلون، واحتوت على توحيد الإلهية المبنيِّ على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية لا يستحقُّ منهم أحدٌ شيئًا من خصائص الرُّبوبية ولا من نعوت الإلهية، فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا"[53].
"{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا} [آل عمران: 64] فقولوا أنتم لهم: اشهدوا {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: مخلصون بالتوحيد"[54].
"أي: متَّصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متَّخذين أحدًا ربًّا؛ لا عيسى، ولا عزيزًا، ولا الملائكة؛ لأنهم بشر مثلنا، مُحْدَث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئًا بتحريمهم علينا ما لم يحرِّمْه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابًا"[55].
12- التوحيد هو أول المأمورات، وضده هو أول المنهيات:
قال - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، "والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أوَّل دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله - عز وجل - ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، كما قدَّمنا بَسْطَ ذلك.
وما ذكر الله - تعالى - التوحيد مع شيءٍ من الأوامر إلا جعله أوَّلها، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أوَّلها، كما في آية النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وكما في آية الأنعام التي طلب النبي البيعة عليها، وهي قوله - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]، وكما في آيات الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فابتَدَأ تلك الأوامر والنواهي بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بذلك"[56].
13- التوحيد هو المعروف الأكبر، وضده هو المنكر الأكبر:وقد سُئِل النبي- صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ فقال- صلى الله عليه وسلم -: ((إيمان بالله ورسوله))[57].
وسُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك))[58].
"وإنما أُرْسِلت الرُّسل وأُنْزِلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك"[59].
"وأمَّا المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلهًا آخر؛ إمَّا الشمس وإمَّا القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء، أو رجلاً من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك ممَّا يُدْعَى من دون الله - تعالى - أو يُسْتَغَاث به أو يُسْجد له، فكلُّ هذا وأشباهه من الشرك الذي حرَّمه الله على لسان جميع رسله"[60].
14- التوحيد شرط في قبول الأعمال:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله - تعالى - أغنى الشركاء عن الشرك))[61].
وعن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله - تعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه))[62].
وفي رواية: ((فأنا منه بريءٌ، وهو للذي أشرك))[63].
"فعبادة المشركين - وإن جعلوا بعضها لله - لا يَقْبَل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله - سبحانه"[64].
15- التوحيد هو حقُّ الله على العبيد:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا))[65].
"فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان - حمد الرب وتوحيده - يدور عليهما جميع الدين"[66].
"وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله، وله خَلَقَ الخلق، وهو حقُّه على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"[67].
16- التوحيد يكفر الذنوب:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا - لأتيتك بقرابها مغفرة))[68].
قال ابن رجب[69]: "مَن جاء مع التوحيد بقراب الأرض - وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها – خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله - عز وجل - فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته ألاَّ يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.... فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها، بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت - أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية"[70].
"ولهذا؛ مَنْ رجحت حسناتُه على سيئاته أفلح ولم يعذَّب، ووُهِبَت له سيئاته لأجل حسناته؛ ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك؛ لأنه قد قام به مما يحبُّه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك، وكلَّما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتمَّ، فمَنْ لقيه لا يشرك به شيئًا ألبتَّة غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت ولم يعذَّب بها"[71].
17- التوحيد سببٌ في حلول البركة:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، لمَّا ذكر - تعالى - أنَّ المكذِّبين للرسل يبتلون بالضَّرَّاء موعظة وإنذارًا، وبالسَّرَّاء استدراجًا ومكرًا، ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرِّم الله - لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمُهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنَّهم لم يؤمنوا ويتقوا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلاَّ فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41][72].
18- التوحيد أول ما يسأل عنه العبد في قبره:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، "وهذه الآية نصُّها في عذاب القبر بصريح الأحاديث، وباتِّفاق أئمة التفسير من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، وأن المراد بالتثبيت هو عند السؤال في القبر حقيقة"[73].
"والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]"[74].
19- التوحيد شرطٌ في الشفاعة[75]:
{يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، والله لا يرتضي إلاَّ التوحيد؛ كما قال - تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه))"[76].
"فأَخْبَرَ - سبحانه - أن الشَّفاعة كلَّها له، وأنه لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ مَن أَذِن الله - تعالى - أن يشفع له فيه، ورَضِي قولَه وعمله، وهم أَهْلُ التَّوحيد الذين لم يتَّخِذُوا من دون الله شُفَعاء، فإنَّه - سبحانه وتعالى - يَأذَن في الشفاعة فيهم لِمَن يشاء، حيث لم يتَّخذوهم شُفَعاء مِن دونه، فيكون أَسعد النَّاس بشَفاعته مَن يَأذَن الله - تعالى - لَه صاحب التَّوحيد الذي لم يتَّخذ شَفِيعًا مِن دونِ الله، والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللَّهُ - تعالى – ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - هي الشَّفاعة الصَّادرة عن إذنه لمن وحده"[77].
20- التوحيد شرطٌ في دخول الجنة والنجاة من الخلود في النار:
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار))[78].
"كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصلُ الدين ورأسُه، الذي لا يقبل الله عملاً إلاَّ به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لِمَن تركه... فاعلموا أنه لا صلاح للعباد ولا فلاح ولا نجاح، ولا حياة طيبة ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة - إلا بمعرفة أوَّل مفروض عليهم والعمل به؛ وهو الأمر الذي خلقهم الله - عز وجل - له، وأخذ عليهم الميثاق به، وأرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم، ولأجله خُلِقت الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وبه حقَّت الحاقَّة ووقعت الواقعة، وفي شأنه تُنْصَب الموازين وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسب ذلك تُقَسَّم الأنوار: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، وذلك الأمر هو معرفة الله - عز وجل - بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وتوحيده بذلك..."[79].
فيا مَن مَنَّ اللهُ عليه بمعرفة التوحيد، اشكر ربك ومولاك بما مَنَّ بِه عليك واصطفاك، وأدِّ حقَّها بنسبة الفضل لصاحب الفضل - سبحانه وتعالى - فلولاه ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا، ثم حافظ عليها بإخلاص القول والعمل في السر والعلن، ثم الدعوة للتوحيد الخالص على منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والصبر على الأذى فيه كما قال ورقة بن نوفل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عودي"[80]، فاجعل من الصبر لك زادًا؛ فالطريق طويل والعقبة كَؤود، أسأل الله أن يجعلنا من دعاة التوحيد وأنصاره.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "تفسير السعدي": ( الذاريات: 56).
ولا يثني عزمك أن ترى نفسك وحيدًا في الميدان، فأنت الجماعة وإن كنت واحدًا ما دمت على الحق، ولهذا ثِقْ بأنك منصور؛ إمَّا في الدنيا، وإمَّا في الآخرة"[47].
10- التوحيد شرط في الأمن والاهتداء:
قال - تعالى -: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 151].
"بشَّرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلَّة لهم؛ بسبب كفرهم وشركهم، مع ما ادَّخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال... وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبدالله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطِيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعب مسيرة شهر، وجُعِلَتْ لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا، وأُحِلَّت لي الغنائم، وأُعْطِيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصَّة وبعثت إلى الناس عامة))[48].
"{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ}؛ يعني: بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام، وطاعتهم الشيطان التي لم أجعل لهم بها حجة - وهي السلطان - التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه لم ينزله بكفرهم وشركهم، وهذا وعدٌ من الله - جلَّ ثناؤه - أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصر على أعدائهم... ما استقاموا على عهده، وتمسكوا بطاعته"[49].
{بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}؛ أي: ذلك بسبب ما اتَّخذوا من دونه من الأنداد والأصنام التي اتَّخذوها على حسب أهوائهم وإراداتهم الفاسدة من غير حُجَّة ولا برهان، وانقطعوا من ولاية الواحد الرحمن، فمن ثمَّ كان المشرك مرعوبًا من المؤمنين، لا يعتمد على ركن وثيق، وليس له ملجأ عند كل شدَّة وضيق، هذا حاله في الدنيا، وأمَّا في الآخرة فأشدُّ وأعظم؛ ولهذا قال: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ}؛ أي: مستقرُّهم الذي يأوون إليه، وليس لهم عنها خروج؛ {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت النار مثواهم"[50].
وقال - سبحانه -: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 81- 82]؛ يعني: صدقوا ووحَّدوا، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}؛ أي: شرك، إذ هو الظلم الذي لا يغفره الله - عز وجل - وفي "الصحيح"[51]، عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [آل عمران: 151] قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّنا لم يظلم نفسه؟! فأنزل الله - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]"[52].
11- التوحيد هو الكلمة السواء التي بيننا وبين أهل الكتاب:
قال - تعالى -: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]، "هذه الآية الكريمة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكتب بها إلى ملوك أهل الكتاب، وكان يقرأ أحيانًا في الركعة الأولى من سُنَّة الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية [البقرة: 136]، ويقرأ بها في الرَّكعة الآخرة من سنَّة الصبح؛ لاشتمالها على الدعوة إلى دين واحد قد اتَّفق عليه الأنبياء والمرسلون، واحتوت على توحيد الإلهية المبنيِّ على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يعتقد أن البشر وجميع الخلق كلهم في طور البشرية لا يستحقُّ منهم أحدٌ شيئًا من خصائص الرُّبوبية ولا من نعوت الإلهية، فإن انقاد أهل الكتاب وغيرهم إلى هذا فقد اهتدوا"[53].
"{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا} [آل عمران: 64] فقولوا أنتم لهم: اشهدوا {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}: مخلصون بالتوحيد"[54].
"أي: متَّصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه، معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متَّخذين أحدًا ربًّا؛ لا عيسى، ولا عزيزًا، ولا الملائكة؛ لأنهم بشر مثلنا، مُحْدَث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئًا بتحريمهم علينا ما لم يحرِّمْه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابًا"[55].
12- التوحيد هو أول المأمورات، وضده هو أول المنهيات:
قال - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، "والمقصود أن الشرك أعظم ما نهى الله عنه، كما أن التوحيد أعظم ما أمر الله به، ولهذا كان أوَّل دعوة الرسل كلهم إلى توحيد الله - عز وجل - ونفي الشرك، فلم يأمروا بشيء قبل التوحيد، ولم ينهوا عن شيء قبل الشرك، كما قدَّمنا بَسْطَ ذلك.
وما ذكر الله - تعالى - التوحيد مع شيءٍ من الأوامر إلا جعله أوَّلها، ولا ذكر الشرك مع شيء من النواهي إلا جعله أوَّلها، كما في آية النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]، وكما في آية الأنعام التي طلب النبي البيعة عليها، وهي قوله - تعالى -: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الأنعام: 151]، وكما في آيات الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]، فابتَدَأ تلك الأوامر والنواهي بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وختمها بذلك"[56].
13- التوحيد هو المعروف الأكبر، وضده هو المنكر الأكبر:وقد سُئِل النبي- صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ فقال- صلى الله عليه وسلم -: ((إيمان بالله ورسوله))[57].
وسُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أن تجعل لله ندًّا، وهو خلقك))[58].
"وإنما أُرْسِلت الرُّسل وأُنْزِلت الكتب للأمر بالمعروف الذي رأسه وأصله التوحيد، والنهي عن المنكر الذي رأسه وأصله الشرك"[59].
"وأمَّا المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، فأعظمه الشرك بالله، وهو أن يدعو مع الله إلهًا آخر؛ إمَّا الشمس وإمَّا القمر أو الكواكب، أو ملكًا من الملائكة، أو نبيًّا من الأنبياء، أو رجلاً من الصالحين، أو أحدًا من الجن، أو تماثيل هؤلاء أو قبورهم، أو غير ذلك ممَّا يُدْعَى من دون الله - تعالى - أو يُسْتَغَاث به أو يُسْجد له، فكلُّ هذا وأشباهه من الشرك الذي حرَّمه الله على لسان جميع رسله"[60].
14- التوحيد شرط في قبول الأعمال:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: مَنْ كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله - تعالى - أغنى الشركاء عن الشرك))[61].
وعن أبي هريرة مرفوعًا قال: قال الله - تعالى -: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركتُه وشِرْكَه))[62].
وفي رواية: ((فأنا منه بريءٌ، وهو للذي أشرك))[63].
"فعبادة المشركين - وإن جعلوا بعضها لله - لا يَقْبَل منها شيئًا، بل كلها لمن أشركوه، فلا يكونون قد عبدوا الله - سبحانه"[64].
15- التوحيد هو حقُّ الله على العبيد:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حقُّ العباد على الله؟))، قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا))[65].
"فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان - حمد الرب وتوحيده - يدور عليهما جميع الدين"[66].
"وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله، وله خَلَقَ الخلق، وهو حقُّه على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا"[67].
16- التوحيد يكفر الذنوب:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا - لأتيتك بقرابها مغفرة))[68].
قال ابن رجب[69]: "مَن جاء مع التوحيد بقراب الأرض - وهو ملؤها، أو ما يقارب ملأها – خطايا، لقيه الله بقرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئة الله - عز وجل - فإن شاء غفر له وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم كان عاقبته ألاَّ يخلد في النار، بل يخرج منها ثم يدخل الجنة.... فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه وقام بشروطه كلها، بقلبه ولسانه وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت - أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية"[70].
"ولهذا؛ مَنْ رجحت حسناتُه على سيئاته أفلح ولم يعذَّب، ووُهِبَت له سيئاته لأجل حسناته؛ ولأجل هذا يغفر لصاحب التوحيد ما لا يغفر لصاحب الإشراك؛ لأنه قد قام به مما يحبُّه الله ما اقتضى أن يغفر له ويسامحه ما لا يسامح به المشرك، وكلَّما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتمَّ، فمَنْ لقيه لا يشرك به شيئًا ألبتَّة غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت ولم يعذَّب بها"[71].
17- التوحيد سببٌ في حلول البركة:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، لمَّا ذكر - تعالى - أنَّ المكذِّبين للرسل يبتلون بالضَّرَّاء موعظة وإنذارًا، وبالسَّرَّاء استدراجًا ومكرًا، ذكر أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه - تعالى - ظاهرًا وباطنًا بترك جميع ما حرِّم الله - لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمُهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنَّهم لم يؤمنوا ويتقوا: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلاَّ فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم : 41][72].
18- التوحيد أول ما يسأل عنه العبد في قبره:
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، "وهذه الآية نصُّها في عذاب القبر بصريح الأحاديث، وباتِّفاق أئمة التفسير من الصحابة فالتابعين فمن بعدهم، وأن المراد بالتثبيت هو عند السؤال في القبر حقيقة"[73].
"والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]"[74].
19- التوحيد شرطٌ في الشفاعة[75]:
{يَوْمَئِذٍ لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، والله لا يرتضي إلاَّ التوحيد؛ كما قال - تعالى -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أسعد الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه))"[76].
"فأَخْبَرَ - سبحانه - أن الشَّفاعة كلَّها له، وأنه لا يشفع عنده أحدٌ إلاَّ مَن أَذِن الله - تعالى - أن يشفع له فيه، ورَضِي قولَه وعمله، وهم أَهْلُ التَّوحيد الذين لم يتَّخِذُوا من دون الله شُفَعاء، فإنَّه - سبحانه وتعالى - يَأذَن في الشفاعة فيهم لِمَن يشاء، حيث لم يتَّخذوهم شُفَعاء مِن دونه، فيكون أَسعد النَّاس بشَفاعته مَن يَأذَن الله - تعالى - لَه صاحب التَّوحيد الذي لم يتَّخذ شَفِيعًا مِن دونِ الله، والشَّفاعةُ التي أَثْبتَهَا اللَّهُ - تعالى – ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - هي الشَّفاعة الصَّادرة عن إذنه لمن وحده"[77].
20- التوحيد شرطٌ في دخول الجنة والنجاة من الخلود في النار:
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة، ومَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار))[78].
"كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصلُ الدين ورأسُه، الذي لا يقبل الله عملاً إلاَّ به، ويغفر لصاحبه ولا يغفر لِمَن تركه... فاعلموا أنه لا صلاح للعباد ولا فلاح ولا نجاح، ولا حياة طيبة ولا سعادة في الدارين، ولا نجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة - إلا بمعرفة أوَّل مفروض عليهم والعمل به؛ وهو الأمر الذي خلقهم الله - عز وجل - له، وأخذ عليهم الميثاق به، وأرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم، ولأجله خُلِقت الدنيا والآخرة، والجنة والنار، وبه حقَّت الحاقَّة ووقعت الواقعة، وفي شأنه تُنْصَب الموازين وتتطاير الصحف، وفيه تكون الشقاوة والسعادة، وعلى حسب ذلك تُقَسَّم الأنوار: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، وذلك الأمر هو معرفة الله - عز وجل - بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته وتوحيده بذلك..."[79].
فيا مَن مَنَّ اللهُ عليه بمعرفة التوحيد، اشكر ربك ومولاك بما مَنَّ بِه عليك واصطفاك، وأدِّ حقَّها بنسبة الفضل لصاحب الفضل - سبحانه وتعالى - فلولاه ما اهتدينا ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا، ثم حافظ عليها بإخلاص القول والعمل في السر والعلن، ثم الدعوة للتوحيد الخالص على منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، والصبر على الأذى فيه كما قال ورقة بن نوفل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عودي"[80]، فاجعل من الصبر لك زادًا؛ فالطريق طويل والعقبة كَؤود، أسأل الله أن يجعلنا من دعاة التوحيد وأنصاره.
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "تفسير السعدي": ( الذاريات: 56).
[2] "تفسير ابن كثير": ( الذاريات: 56).
[3] "بيان معنى كلمة لا إله إلا الله"؛ لفضيلة الشيخ: ابن باز، ص 45- 46، ط مكتبة الصفا.
[4] قاله الشيخ: محمد بن عبدالوهاب (ت: 1206هـ): رسالة "القواعد الأربعة" من: "متون العقيدة": ص85، ط دار الآثار.
[5] "تفسير السعدي": ( الروم: 30).
[6] قاله الشيخ صالح الفوزان، "كتاب التوحيد": ص7، وانظر: "مجموعة رسائل في التوحيد"، ص217، ط دار العقيدة.
[7] "مدارج السالكين": 3/471.
[8] "تفسير ابن كثير": ( الروم: 30).
[9] "مجموع الفتاوى": (10/ 146).
[10] "إغاثة اللهفان"؛ لابن القيم: 2/271، ط دار إحياء الكتب العربية.
[11] "تفسير البغوي": ( الروم: 30).
[12] "تفسير ابن كثير" باختصار: ( الأعراف: 172).
[13] "تفسير السعدي": (الأعراف: 172).
[14] "تفسير البغوي": (الأعراف: 172).
[15] "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين، ص35، ط مكتبة الإيمان.
[16] "تفسير القرطبي": (الأنبياء: 25).
[17] "تفسير السعدي": (الأنبياء: 25).
[18] "تفسير ابن كثير": (الأنبياء: 25).
[19] "تفسير السعدي": (النحل: 36).
[20] "تفسير القرطبي": (النحل: 36).
[21] "تيسير العزيز الحميد": ص51.
[22] "تفسير الشنقيطي": (النحل: 36).
[23] "تفسير الطبري": (النحل: 36).
[24] "تفسير ابن كثير": (النحل: 36).
[25] قاله الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه لكتاب "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام": ص155.
[26] "تفسير السعدي": (هود: 1-2).
[27] "تفسير أضواء البيان"؛ للشنقيطي : (هود :1-2).
[28] "تفسير ابن كثير": (هود :1- 2).
[29] "مجموع الفتاوى"؛ لابن تيمية، 3/397.
[30] صحيح، رواه البخاري: (7372/كتاب التوحيد/باب: ما جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إلى توحيد الله).
[31] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"؛ لابن حجر.
[32] "تيسير العزيز الحميد": ص123،122.
[33] "تفسير السعدي": (المجادلة: 22).
[34] "تفسير القرطبي": (المجادلة: 22).
[35] "تفسير البغوي": (المجادلة: 22).
[36] انظر: تفسير "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، المعروف بـ"تفسير الطبري": آية28 من سورة آل عمران:3/228، ط دار الغد العربي.
[37] "تفسير السعدي": (الأنفال: 39).
[38] "تفسير الطبري": (الأنفال: 39).
[39] "تيسير العزيز الحميد": ص147.
[40] رواه مسلم: (22/ كتاب الإيمان/ باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام).
[41] "فتح الباري"؛ لابن حجر.
[42] فتح الباري لابن حجر.
[43] مجموع الفتاوى لابن تيمية: 35/368.
[44] "تفسير الشنقيطي": (النور: 55).
[45] "تفسير ابن كثير": (النور: 55).
[46] هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعدِّدة، وكان - رحمه الله - عالمًا بالخلاف ومذاهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751هـ، انظر: "البداية والنهاية"؛ لابن كثير: 14/234، و"الدرر الكامنة"؛ لابن حجر: 4/21.
[47] "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين، ص537.
[48] "تفسير ابن كثير": (آل عمران: 151).
[49] "تفسير الطبري": (آل عمران: 151).
[50] "تفسير السعدي": (آل عمران: 151).
[51] رواه البخاري: (3174/ حديث الأنبياء/باب: قول الله - تعالى -: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}).
[52] "معارج القبول": 1/291.
[53] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، المعروف بـ"تفسير السعدي": (آل عمران: 64).
[54] "تفسير البغوي": (آل عمران: 64).
[55] "تفسير القرطبي": (آل عمران: 64).
[56] "معارج القبول": 1/353.
[57] صحيح: رواه البخاري: (25/ كتاب الإيمان/ باب: من قال إن الإيمان هوالعمل).
[58] صحيح: رواه البخاري: (4389/ كتاب تفسير القرآن/ باب: قوله : {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68].
[59] "مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" قاله الشيخ: عبداللطيف بن عبدالرحمن النجدي الحنبلي: ص555، 556.
[60] "مجموع الفتاوى": (3/424).
[61] حسن: أخرجه الترمذي: (3154/كتاب تفسير القرآن/باب: ومن سورة الكهف)، وحسَّنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" برقم: 496.
[62] صحيح: رواه مسلم: (2985/ كتاب الزهد والرقائق/ باب: من أشرك في عمله غير الله).
[63] رواه ابن ماجه (4202) وقال البوصيري: إسناده صحيح رجاله ثقات، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه": 2/409.
[64] "مجموع الفتاوى": (8/50).
[65] صحيح: رواه البخاري: (5510/ كتاب اللباس/ باب:إرداف الرجل خلف الرجل)، ورواه مسلم: (30/ كتاب الإيمان/ باب: الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا)، واللفظ له.
[66] "مجموع الفتاوى": (6/259).
[67] "الاستقامة"؛ لابن تيمية:ص367، ط دار الحديث.
[68] حسن: رواه الترمذي: (3540/ كتاب الدعوات/ باب: خلق الله مائة رحمة)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (4338).
[69] هو الحافظ زين الدين أبو الفرج عبدالرحمن ابن الشيخ شهاب الدين أحمد بن رجب البغدادي ثم الدِّمَشْقي الحنبلي، أتقن علم الحديث وصار أعرف أهل عصره بالعِلَل وتتبُّع الطرق، توفي سنة 795هـ، ومن أشهر مؤلفاته "جامع العلوم والحكم" و"تحقيق كلمة الإخلاص"، انظر: "شذرات الذهب": 6/339.
[70] "جامع العلوم والحكم": ص483.
[71] "تهذيب مدارج السالكين"؛ لابن القيم: ص 132، ط المكتبة التوفيقية، تهذيب الشيخ: أبو عمرو عماد البارودي.
[72] "تفسير السعدي": ص298.
[73] "معارج القبول": (2/115).
[74] "شرح العقيدة الواسطية"؛ لابن عثيمين: ص369.
[75] فائدة لغوية: "أصل الشفاعة والشُّفعة ونحوها من الشفع؛ وهو: الزَّوج في العدد، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعًا، ومنه ناقة شفوع: إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة، والشُّفع: ضمُّ واحد إلى واحد، والشفعة: ضمُّ مِلْك الشريك إلى مِلْكك، فالشفاعة إذًا: ضمُّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك، فهي على التحقيق: إظهارٌ لمنزلة الشفيع عند المشفَّع، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له" "تفسير القرطبي": 5/258، ط دار الحديث.
[76] "تيسير العزيز الحميد": ص280.
[77] "تيسير العزيز الحميد": ص287،286.
[78] رواه مسلم: (193/كتاب الإيمان/ باب: اختباء النبي دعوة الشفاعة لأمته).
[79] "معارج القبول": (1/13،12).
[80] رواه البخاري.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/9421/#ixzz2w75DAH11
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
-
التأصيل للدراسات ** الورد الصوفي، بكسر الواو، جمعه أوراد، يطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها، صباحاً بعد صلاة الصب...
-
13 شبهة للقبوريين والجواب عليها عبد الله بن حميد الفلاسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد (1) : ...
-
نؤمن بجواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وسلّم بشروط الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من ى نبي بعده، وعلى آله وصحبه . أما بعد، قال...