يصطفي الله من عبادة الصلحاء فينعم عليهم ويغدق عليهم من إحسانه وفضله، وهذا الإحسان وذلك الفضل يسمى بالكرامة، وهذه الكرامة قد تحصل في أمر دنيوي وقد تحصل في أمر أخروي، فمن أمثلة الكرامات التي تخص آخرة العبد ودينه، إعانة الله للعبد على تقواه في الحياة الدنيا؛ بتدبر القرآن، وقيام الليل، والصيام، والمحافظة على الصلاة والنفل إلى غير ذلك من الأمور. وقد تتعلق الكرامة بأمر دنيوي، فيقضي الله لعبده حوائجه الدنيوية وييسر أمره. ولا شك أن الكرامة في أمور الدين أفضل منها في أمور الدنيا.
فما الكرامة؟ وهل هناك فرق بينها وبين المعجزة؟ وما هي شروطها وشروط من يأتي بها؟
هذه الأسئلة وغيرها ستكون محور هذا التقرير الخاص ببيان معتقد أهل السنة في كرامات الأولياء، والفارق بينهم وبين مخالفيهم في هذا الأمر.
- الكرامة في اللغة والاصطلاح:
الكرامة في اللغة: الكرم ضد اللؤم، والكريم من صفات الله عز وجل، والكرامة في اللغة يراد بها كل نعمه ينعم بها الله عز وجل على أحد من خلقه(1).
أما الكرامة في الاصطلاح: فهي أمر خارج للعادة يظهر الله عز وجل على أيدي أوليائه.
يقول البغدادي: اعلم أن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات(2).
وقال السفاريني: الكرامة وهي أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح علم بها ذلك العبد الصالح أم لم يعلم(3).
- الفرق بين المعجزة والكرامة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في التفريق بين الكرامة والمعجزة: "وإن كان اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة، وعرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل وغيره، ويسمونها: الآيات، لكن كثيرا من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي، وجماعهما الأمر الخارق للعادة"(4).
فالمعجزة أمر خارق للعادة يظهره الله على يد النبي تأييدا لنبوته(5). أو هي أمر خارق للعادة، داعية إلى الخير والسعادة، مقرونة بدعوى النبوة، قصد به إظهار من ادعى أنه رسول الله(6)، أما الكرامة فهي الأمر الخارق للعادة غير المقرون بالتحدي ودعوى النبوة، يظهره الله على أيدي أوليائه(7).
- وقد انقسم الناس حيال مسألة الكرامات إلى ثلاثة أقسام(8):
الأول: مغال فيها مثبت لكل خارق، فكل ما صدر من أي عبد؛ صالحاً كان أو طالحاً وفيه نوع غرابة عدوه من قبيل الكرامات التي تدل على قربه من الله؛ وأنه من المصطفين؛ فأدخلوا السحرة والكهان والعرافين والدجالين من ضمن الأولياء؛ وأغلب هؤلاء من غلاة التصوف وأرباب الطرق.
الثاني: الجفاة عن نصوص الوحي ودلائلها الدالة على وقوع الكرامة للمؤمنين، ونفوا وقوعها وزعموا أن الخوارق لو جاز ظهورها من الأولياء لالتبس النبي بغيره إذ فرق ما بينهما -عندهم- إنما هو المعجزة، وبنوا على ذلك أنه لا يجوز ظهور خارق إلا لنبي، وممن ذهب إلى هذا القول المعتزلة قديماً ومن تأثر بهمحديثاً.
الثالث: أهل السنة الذين أثبتوا الكرامات، لكن لا على وجه الإطلاق، فقيدوها بما قيدته النصوص الشرعية، ووَفقِ الأدلةِ دون غلو أو جفاء أو إفراط أو تفريط، فكانوا أسعد بالوسط الذي هو العدل الخيار، وهدوا إلى الصراط المستقيم.
- وعليه فلإثبات صحة الكرامة شروط عدة تتلخص في الآتي(9):
1- كون صاحبها مؤمنا بربه مصدقا بوعده ووعيده، مؤتمرا بأمره متقيا لنهيه كما وصفهم الحق جل وعلا بقوله: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(10)، مؤديا ما فرض الله عليه من الفرائض والواجبات مجتنباً ما نهى عنه من المآثم والمحرمات حتى يسمو به لفعل المستحبات، وترك المكروهات، فيتحقق بذلك الولاية، ويلازمه الأمن والهداية، ويجانبه الخوف والخواية.
2- ألا يزكي نفسه بالولاية، فدعوى الولاية من علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه أحد إلا بعد إعلامه تعالى له وكذا تزكية الإنسان نفسه منهي عنه.
3- ألا تخالف ما جاء به الكتاب والسنة وسار عليه سلف الأمة، كما يمثل لبعضهم في المنام أو في اليقظة شخص في صورة نبي أو صالح أو ملك يحرم الحلال ويبيح الحرام ويحث على ارتكاب الجرائم والآثام ومصاحبة السفهاء واللئام.
4- أن يكون حريصا على كتمانها مستكتماً ما جرى له فيها. فإذا أمن الفتنة واقتضت المصلحة إفشائها فلا بأس بالتحدث عنها أو إعلانها كما حصل ذلك من بعض السلف رحمهم الله تعالى.
5- ألا تتسبب في ترك شيء من المأمور، أو ارتكاب شيء من المحظور، لا سيما والكرامة لا يتحصل عليها العبد إلا بطاعته لله ورسوله ظاهراً وباطناً، فلا تخالف ما كان سبباً لوجوده، وذلك كالذي يحمله جني إلى عرفه ليلة عرفه ثم يحج مع الناس ثم يرده إلى أهله من غير إحرام ولا ميقات، فهذه ليست بكرامة بل هي مكر وخداع واستدراج من الجني الكافر للجاهل الفاجر.
أمثلة لكرامات الصالحين:
الكرامات أو المعجزات لغير الأنبياء كثيرة جدا، وهي دائمة الحدوث، فهي غير مرتبطة بزمن معين، أو بمن ينزل عليه وحي، ومن أمثلة ذلك قول عمر في قصة سارية، وأخبار أبي بكر بأن ببطن زوجته أنثى، وإخبار عمرو بمن يخرج من ولده فيكون عادلا، وقصة صاحب موسى في علمه بحال الغلام، فهذه الكرامات من "باب الكشف والعلم".
والكرامات في "القدرة" مثل قصة الذي عنده علم من الكتاب، وقصة أهل الكهف، وقصة مريم، وقصة خالد بن الوليد (عندما شرب السم ولم يضره)، وقصة سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسد الذي مشى معه، وقصة أبي مسلم الخولاني (عندما ألقي في النار فلم تضره)(11).
- أمثلة لما يظن أنه كرامة وليس بكرامة وإنما من عمل الشيطان:
- ذكرها ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة عن القطب الكبير عبد القادر الجيلاني أنه قال: "خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية ومكثت أيامًا لا أجد ماء، فاشتد بي العطش فأظلتني سحابة، ونزل عليِّ منها شيء يشبه الندى. فترويت به. ثم رأيت نورًا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات- أو قال: ما حرمت على غيرك- فقلت: أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم. اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر، نجوت مني بعلمك بحكم ربك وفقهك في أحوال منازلاتك. ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق. فقلت: لربي الفضل والمنة. قال: فقيل لـه: كيف علمت أنه شيطان. قال: بقولـه: وقد أحللت لك المحرمات"(12).
- قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: "سمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبد المعطي بثغر الإسكندرية يقول: إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا"(13).
ــــــــــــــ
الهوامش:
(1) ينظر لسان العرب لابن منظور- مادة: (كرم).
(2) أصول الدين للبغدادي: (ص:174).
(3) لوامع الأنوار البهية للسفاريني: (2/392).
(4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية: (1/58).
(5) المعجم الوسيط: (2/591).
(6) لتعريفات للجرجاني: (ص:219).
(7) المعجم الوسيط: (2/790).
(8) مقدمة كتاب الإنصاف في حقيقة الأولياء ومالهم من الكرامات والألطاف للصنعاني، المقدمة بقلم: عبد الرزاق البدر: (ص:6-7).
(9) كرامات الأولياء- لأبي الفداء عبد الرقيب الإربي: (ص:10-16)
(10) سورة يونس: (62-64).
(11) قاعدة في المعجزات والكرامات لابن تيمية: (ص:21).
(12) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب: (ص:120).
(13) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: (10/422).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق