الخميس، 6 مارس 2014

الجواب عن شبهة القبوريين واحتجاجهم بالتقاء النَّبيّ بإلياس عليهما الصلاة والسلام

التقاء النَّبيّ بإلياس عليهما الصلاة والسلام

     الحمد لله الذي إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. والصلاة والسلام على المخصوص بالسيادة والشرف المصون. والمنـزل عليه وحياً في الكتاب المكنون. {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. وعلى آله وصحبه المصدقين له والمؤمنين به وبالآخرة هم يوقنون. {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وبعد:
     فقد يلهج كثير من الخطباء والوعاظ ، بذكر هذه القصص الواهية ، التي اختلقها الوضَّاعون من القصاص ، وجهلة الزهَّاد والعبَّاد ، سيما قصص الأنبياء من بنى إسرائيل. ولا يغيبن عنك أن تاريخ أنبياء بني إسرائيل مفعم بالأمور العجائب ، والأقاصيص الغرائب ، مما جعله مرتعاً خصباً لاختلاق الأحاديث وتلفيقها ، ونسبة هذا الغثاء إلى الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى.
يقول محقق (موضوعات ابن الجوزي) (1/10): ((لم تكن حركة وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان ، إنما تطورت إلى حركة مدروسة هادفة ، وخطة شاملة ، لها خطرها وآثارها. كان من نتائجها المباشرة على العديد من أجيال المسلمين في العديد من أقطارهم ، شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة ، والقواعد الفقهية الشاذة ، والعقائد الزائفة ، والافتراضات النظرية المضحكة ، التي أيدتها ، وتعاملت بها ، وروجت لها ، فرق وطوائف معينة ، لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا ، والفلسفة حينا ، والعباد والزهاد أحيانا. وجافت في غالب أحوالها السلوك السوي ، والفكر والعقل السليم ، فضلا عن مجافاتها الصارخة لكتاب الله العظيم ، وهدي نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام)) اهـ
     ومما أوردوا من الواهيات الموضوعات: قصة التقاء النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس عليه الصلاة والسلام ، وذكروا حديثين:
     [ الأول ] حديث أنس بن مالك
قال ابن أبى الدنيا في كتابه (الهواتف) صفحة (102): حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنِ يَزِيدَ الموصلي التيمي مولى لهم حدثنا أبو إسحاق الجُرَشِيّ عن الأوزاعي عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: ((غزونا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، حتَّى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر ، إذا نحن بصوتٍ يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفورة لها ، المتاب عليها ، المستجاب لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: يا أنس انظر ما هذا الصوت ؟! ، فدخلت الجبل ، فإذا أنا برجلٍ أبيض الرأس واللحية ، عليه ثيابٌ بيضٌ ، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فلما نظر إلىَّ قال: أنت رَسُولُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ ، قلت: نعم ، قال: ارجع إليه فأقرئه منى السلام ، وقل له: هذا أخوك إلياس يريد يلقاك ، فجاء النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا معه ، حتى إذا كنا قريبا منه ، تقدَّم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأخرت ، فتحدثا طويلا ، فنـزل عليهما من السماء شِبْهُ السُّفْرَةَ ، فدعواني ، فأكلت معهما ، فإذا فيه كمأة ورمان وكرفس ، فلما أكلت ، قمت فتنحيت، وجاءت سحابة ، فاحتملته ، أنظر إلى بياض ثيابه فيها ، تهوى به قِبَلَ الشام ، فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي ، هذا الطعام الذي أكلنا من السماء نزل عليك ؟  فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألته عنه ، فقال: أتاني به جبريل في كل أربعين يوماً أكلة ، وفى كل حولٍ شربة من ماء زمزم ، وربما رأيته على الجب يمد بالدلو ، فيشرب ، وربما سقاني)).
     وأخرجه كذلك ابن الجوزي في كتابه (الموضوعات) (1/200) من طريق ابن أبى الدنيا بسنده ومتنه سواء.
     وأخرجه أبو الشيخ بن حيَّان ((العظمة)) (5/1530) قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن داود ثنا أحمد بن هاشم ثنا يزيد أبو خالد البلوي ثنا أبو إسحاق الجُرَشِيّ به نحوه.
وتابعهما عن يزيد بن يزيد: أحمد بن عبد الله البرقي ، إلا أنه خالفهما على سنده ، فقال (أبو إسحاق الفزاري) ، وأتى بمعانٍ مغايرة في وقت فطره ، ووصف المائدة ، ولم يذكر شربه من زمزم مرة كل عامٍ.
     وقد أخرجه الحاكم (2/674) قال: حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني ببخارا أنا عبد الله بن محمود نا عبدان بن سيَّار حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ثنا يزيد بن يزيد البلوي ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن مكحول عن أنس بن مالك قال: ((كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر ، فنزلنا منزلا ، فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفورة المتاب عليها ، قال: فأشرفت على الوادي ، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع ، فقال لي: من أنت ؟ ، قلت: أنا أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال: فأين هو ؟ ، قلت: هو ذا يسمع كلامك ، قال: فائته فأقرئه السلام ، وقل له: أخوك إلياس يقرئك السلام ، قال: فأتيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فأخبرته ، فجاء حتى لقيه ، فعانقه وسلَّم، ثم قعدا يتحدثان ، فقال له: يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوما ، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت ، قال: فنـزلت عليهما مائدة من السماء ، عليها خبز وحوت وكرفس ، فأكلا، وأطعماني ، وصلينا العصر ، ثم ودَّعه ، فرأيته مرَّ في السحاب نحو السماء)).
     وقال الحاكم: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه)).
     وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: ((هذا موضوع ، قبَّح الله من وضعه. وهذا مما افتراه يزيد البلوي)).
     وأخرجه البيهقي ((دلائل النبوة)) (5/422:421) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بسنده ومتنه سواء.
     وقال البيهقي: ((إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة)).
     وأخرجه ابن عساكر ((تاريخ دمشق)) (9/212) من طريق البيهقي به مثله.
     وقال ابن الجوزي: ((هذا حديث موضوع لا أصل له. ويزيد الموصلي ، وأبو إسحاق الجُرَشِيّ لا يعرفان. وقد روى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الأحياء ؟ ، فقال: كيف يكون هذا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد)).
     قلت: وهو كما قال الحافظان ابن الجوزي والذهبي ، وقد افتضح واضع هذا الحديث بالجهل والسذاجة. فأمارات الوضع لائحة عليه ، لا تخفى على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة ، ومن الدلائل على وضعه:
     [ أولاً ] قوله ((طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع)) ، فهذا من أسمج الكلام وأبعده عن حقيقة خلق بنى آدم ، بله وخلق أبيهم آدم عليه السلام ، فإنه لم يزد على ستين ذراعاً. ففي ((كتاب الأنبياء)) من ((صحيح البخاري))(3079) قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَلَقَ اللهُ آدَمَ ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ: تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ)).
فهذا بيِّن أن طول إلياس عليه السلام دون الستين ذراعاً ((فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ)).
     [ ثانياً ] أنه لو كان إلياس عليه السلام حيَّاً زمن بعثة النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ ما وسعه أن يجوب الفلوات ، ويسكن الكهوف والمغارات ، ويأوي مجاهل الشام ، ولا يأتي بين يدي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمن به ويؤازره وينصره ، ويندرج في جملة أصحابه وأتباعه ، تصديقاً لقول الله تعالى ((وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)).
     وقد قال الإمام أحمد (3/387): حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ ثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ ، أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَغَضِبَ ، فَقَالَ: ((أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ ، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا ، مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
     ولو كان باقياً بعد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما يدعيه غلاة الصوفية ، لكان تبليغه للبراهين القرآنية ، والأخبار المصطفوية ، وقتاله مع المسلمين في الغزوات ، وشهوده للجمع والجماعات ، ومؤازرته للعلماء والحكام ، وبيانه لأصول وفروع الأحكام ، وإحياءه للسنة النبوية، وإماتته للمذاهب البدعية ، أزكى وأنفع وأفضل له ولأمة محمَّدٍ من كمونه بالمغارات ، وجوبه الصحارى والفلوات !!. وهذا من أوضح الأدلة وأنصعها على كذب من ادَّعى حياته ، والتقاءه بسيد المرسلين ، واجتماعه بالخضر كل عام في الحج ، فيحلق كل واحدٍ منهما رأس صاحبه ، ويشربان من زمزم شربةً تكفيهما إلى العام المقبل.
     [ ثالثاً ] هذا الاضطراب في وقت أكله وإفطاره ، ففي رواية الجوهري ((في كل أربعين يوما أكلة)) ، وفى رواية البرقي ((ما آكل في السنة إلا يوماً)) !! ، وقد ذكروا عن وهب بن منبه: أنه لما دعا إلياس ربَّه أن يقبضه إليه ، جعل له ريشاً ، وألبسه النور ، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب ، وصار ملكياً بشرياً ، سماوياً أرضياً. وهذا من تناقض من يثبت وجودَه وحياتَه وبقائَه ، فهذه أوصاف متعارضة متضاربة ، ينقض بعضها بعضاً ، ولا يصح منها شيء البتة !.
     [ رابعاً ] قوله عن جبريل عليه السلام ((وربما رأيته على الجبِّ يمدّ بالدلو ، فيشربُ ، وربما سقاني)) ، من الكذب المحال ، أيصدق مؤمن عاقل أن سيد الملائكة وأعظمهم ، الموكِّل بالوحي إلى رسل الله ، يقوم على بئر زمزم ، لينزع دلواً ، فيشرب منها ؟!. أما علم هذا الوضَّاع المتهوِّك أن الملائكة لا يأكلون ولا بشربون ، غذاؤهم التسبيح والتقديس والتهليل ، ولا يفترون عن ذكر الله طرفة عين ، يلهمون الذكر كما يلهم أحدنا النفسَ والطرفَ.
     [ خامساً ] إن قول الله تعالى لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)) ، مما دلَّ على أن إلياس عليه السلام ليس بحيٍّ إلى الآن ، ولا إلى زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لأنه من جملة البشر ، يدركه الموت كما أدركهم ، فليس لواحدٍ من البشر خلوداً في الدنيا ، ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)). ولله در الإمام الشافعي ، فقد كان يكثرُ يتمثلُ بهذين البيتين لطرفة بن العبد:
تمنى رجـالٌ أن أمـوتَ وإن أمتْ فتلكَ سـبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ
فقلْ للذي يبغي خـلاف الذي مضى تهيأ لأخـرى مثلِها بالحقِّ قَـدِ
ــــــــ..... ـــــــــــ
     [ الثاني ] حديث واثلة بن الأسقع ، وسياقه أطول ، وكله غرائب وعجائب ومنكرات
قال ابن عساكر ((التاريخ)) (9/213): أنبأناه أبو الكرم المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي الشهروزي أنا عمي أبو البركات عبد الملك بن أحمد بن علي الشهرزوي سنة سبع وستين وأربعمائة أنا عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ حدثني أبي حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن منير الحراني بمصر ثنا أبو الطاهر خير بن عرفة الأنصاري ثنا هانيء بن المتوكل ثنا بقية عن الأوزاعي عن مكحول سمعت واثلة بن الأسقع قال: ((غزونا مع رسول الله غزوة تبوك ، حتى إذا كنا في بلاد جذام في أرض لهم يقال لها الحوزة ، وقد كان أصابنا عطش شديد ، فإذا بين أيدينا آثار غيث ، فسرنا مليا ، فإذا بغدير ، وإذا فيه جيفتان ، وإذا السباع قد وردت الماء ، فأكلت من الجيفتين ، وشربت من الماء ، قال: فقلت: يا رسول الله هذه جيفتان ، وآثار السباع قد أكلت منها ، فقال النبي: نعم هما طهوران ، اجتمعا من السماء والأرض ، لا ينجسهما شيء ، وللسباع ما شربت في بطنها ، ولنا ما بقي ، حتى إذا ذهب ثلث الليل ، إذا نحن بمنادي ينادي بصوت حزين: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المبارك عليها فقال رسول الله: يا حذيفة ويا أنس ادخلا إلى هذا الشعب ، فانظرا ما هذا الصوت ، قال: فدخلنا ، فإذا نحن برجل عليه ثياب بياض أشد بياضاً من الثلج ، وإذا وجهه ولحيته كذلك ، ما أدري أيهما أشد ضوءا: ثيابه أو وجهه ؟ ، فإذا هو أعلى جسما منا بذراعين أو ثلاثة ، قال: فسلمنا عليه ، فرد علينا السلام ، ثم قال: مرحبا أنتما رسولا رسول الله ، قالا: فقلنا: نعم ، قالا: فقلنا: من أنت رحمك الله ؟ ، قال: أنا إلياس النبي ، خرجت أريد مكة ، فرأيت عسكركم ، فقال لي جند من الملائكة على مقدمتهم جبريل وعلى ساقتهم ميكائيل: هذا أخوك رسول الله ، فسلم عليه وألقه ، ارجعا فاقرئاه السلام ، وقولا له: لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني أتخوف أن تذعر الإبل ، ويفزع المسلمون من طولي ، فإن خلقي ليس كخلقكم ، قولا له: يأتيني ، قال حذيفة وأنس: فصافحناه ، فقال لأنس خادم رسول الله: من هذا ؟ ، قال: حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله ، قال: فرحب به ، ثم قال: والله إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض ، يسميه أهل السماء صاحب رسول الله ، قال حذيفة: هل تلقى الملائكة ؟ ، قال: ما من يوم إلا وأنا ألقاهم ، ويسلمون عليَّ ، وأسلم عليهم ، قالا: فأتينا النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فخرج النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا ، حتى أتينا الشعب ، وهو يتلألأ وجهه نوراً ، وإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس ، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلكما ، فتقدمنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدر خمسين ذراعا ، وعانقه ملياً ، ثم قعدا ، قالا: فرأينا شيئا كهيئة الطير العظام بمنزلة الإبل ، قد أحدقت به ، وهي بيض ، وقد نثرت أجنحتها ، فحالت بيننا وبينهما ، ثم صرخ بنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقال: يا حذيفة ويا أنس تقدما ، فتقدمنا ، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء لم أر شيئا قط أحسن منها ، قد غلب خضرتها لبياضها ، فتقدمنا ، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء ، وإذا عليها خبز ورمان وموز وعنب ورطب وبقل ما خلا الكراث ، قال النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلوا بسم الله ، قال: فقلنا: يا رسول الله أمن طعام الدنيا هذا ؟ ، قال: لا ، هذا رزقي ، ولي في كل أربعين يوما وأربعين ليلة أكلة ، تأتيني بها الملائكة ، وهذا تمام الأربعين يوما والليالي ، وهو شيء يقول الله عز وجل له كن فيكون ، قال: فقلنا: من أين وجهك ؟ ، قال: وجهي من خلف رومية ، كنت في جيش من الملائكة مع جيش من المسلمين غزوا أمة من الكفار ، قال فقلنا: فكم يسار من ذلك الموضع الذي كنت فيه ؟ ، قال: أربعة أشهر ، وفارقته أنا منذ عشرة أيام ، وأنا أريد إلى مكة أشرب بها في كل سنة شربة ، وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من قابل ، قال: فقلنا: فأي المواطن أكبر معارك ؟ ، قال: الشام وبيت المقدس والمغرب واليمن ، وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً ، قال: الخضر متى عهدك به ؟ ، قال: منذ سنة ، كنت قد التقيت أنا وهو بالموسم ، وقد كان قال: إنك ستلقى محمَّداً قبلي ، فاقرئه مني السلام ، وعانقه ، وبكى قال: ثم صافحناه وعانقناه ، وبكى وبكينا ، فنظرنا إليه حتى هوى في السماء ، كأنه يحمل حملاً ، فقلنا: يا رسول الله لقد رأينا عجباً إذ هوى إلى السماء ، فقال: إنه يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد)).
     وقال أبو القاسم: ((هذا حديث منكر ، وإسناده ليس بالقوي)).
     قلت: بل هو أشد سماجةً وبرودةً من سابقه ، فعلامات الكذب لائحة على كل فقرة من فقراته. ولستُ بحانثٍ لو أقسمتُ أنه: لم يروه واثلة ، ولا مكحول ، ولا الأوزاعى. وإنما هو أفك تولى كبره دجَّال من هؤلاء الدجاجلة. والمتهم به بهذا السند: بقية بن الوليد الشامى ، فقد سمعه من أحد الكذَّابين ، ثم دلَّسه عن الأوزاعى. وقد قال أبو مسهر الدمشقى: أحاديث بقية ليست نقية فكن منها علي تقية. وفى سياق هذه القصة المكذوبة ما ينبئك بشناعة الكذب على أنبياء الله ورسله:
     [ أولاً ] أفلو كان نبي الله إلياس حياً زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أكان يتخلف عن المثول بين يديه إلى أن يلتقي به في غزوة تبوك من العام التاسع ، بعيداً عن مهبط الوحي ومتنـزل الملائكة !.
     [ ثانياً ] وأعجب لهذا العذر المانع من إتيانه لإمام المرسلين ، وقائد الغر المحجلين: إنه التخوف من ذعر الإبل ، وفزع المسلمين من رؤية نبي الله إلياس عليه السلام. فأين هذا مما ذكره هذا الوضَّاع المتهوِّك بعد ذلك بقوله ((يتلألأ وجهه نوراً ، وإذا ضوء وجهه وثيابه كالشمس)) !.
     [ ثالثاً ] وإن تعجب ، فعجبٌ زعم هذا المتهوِّك أن إلياس والخضر يلتقيان بالموسم كل عام !. فإن كانا كذلك ، فأين هما من حجَّة الوداع ، وكيف لم يلتقيا برسول الله في أعظم حجَّةٍ ، وأكرمها على الله ؟! ، بل أين هما من غزوات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهده ومواقفه ، سيما التى تنزلت لها الملائكة كغزوة بدرٍ ؟!. سبحان الله ((إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)).
     [ رابعاً ] وعجبٌ قوله على لسان نبي الله إلياس ((وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً)). أفلا يستحي هذا الوضَّاع من الله وأنبيائه ، أم كان يجهل ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا)) !!.
وفى ثنايا القصة كثير مما يستنكر ، ولا يخفى مثله على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة.
          وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، والحمد لله رب العالمين.

                                                                    كتبه: الشيخ أبو محمد الألفي                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق