الشيخ أحمد الرفاعي يقبل يد النبي
صلى الله عليه وسلم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله ، أما بعد:
فإن قصة مدّ اليد الشريفة من القبر الشريف ليقبّلها الشيخ أحمد الرّفاعي ، كانت قد استوقفتني منذ كنت فتىً في مطلع الشباب ، حين كنت أسمعها من بعض الشيوخ ، والذي استوقفني فيها أوّلَ الأمر النهاية التي انتهت بها وهي قولهم إن الشيخ الرّفاعي لفّ نفسه ببساط وتمدد على عتبة باب المسجد وأقسم على كل من كان في المسجد ألا يخرج حتى يطأ عليه ! وكنت أسأل هؤلاء الشيوخ لماذا يفعل ذلك ؟
فيقولون : كي يؤدّب نفسه فلا يأخذها العُجْب . وكان جوابهم هذا يزيد في استغرابي لفعل الشيخ أحمد ، أفبعد أن أكرمه الله وشرّفه بتقبيل اليد الشريفة ورفع مقامه أمام الناس ، يكون شكر هذه النعمة بأن يُهين نفسه وفي نفس المكان الذي أكرمه الله فيه ؟!
والذي كنت أعرفه عن الشيخ الرفاعي أنه رجلٌ له مكانة مرموقة عند علماء عصره . وكلامه الذي نقرؤه في كتبه يدلّ على عمق فهمه للشّريعة والتزامه بها . أليس هو القائل : " كيف يصحُّ لك عِزُّ العِلم وأنت كَسَوتَ عِلمكَ ثوبَ الذُّلّ " ؟
والشيخ الرفاعي يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا ينبغي للمؤمن أن يُذلَّ نفسه ) .
فكيف يُهين الشيخ نفسه بعد أن أكرمه الله ؟
أنا أعلم أن الشيخ رحمه الله كان شديد التواضع وكان منهجه يرتكز على هضم النفس وكسر غرورها ومنعها من التطاول على الغير .... وغير ذلك . ولكن هذا لا يكون في مثل تلك الحالة . ولم أحصل على جواب مقنع من الشيوخ !
ثمّ كنت أقول لهم أليس الشيخ الرّفاعي هو القائل : " علامةُ العارف كتمانُ الحال ، وصحّةُ المقال ، والتَّخلُّصُ من الآمال "
فكيف يُظهر حاله أمام كل هؤلاء الناس المجتمعين في المسجد النبوي وكان فيهم كما تقول الرّواية الشيخ الجيلاني وأبو مدين وغيرهم من الكبار ، أيعقل أن يفعل الرفاعي ما فعل بحضور هؤلاء ليرتفع أمام الناس ولا يبقي لهؤلاء العظماء أي قدر أمام الناس بعد أن شُغلوا بكرامته التي لم تقع لأحد منهم ؟
كانت هذه بعض الأمور التي استوقفتني و لم أجد لها مخرجاً مقنعاً . وبعد مدّة من الزمن بدأت ترتسم أمامي صورة جديدة ، نعم إن الشيخ أحمد الرّفاعي رحمه الله لم يخالف منهجه ولم يكن ليفشي حقيقة حاله أمام الناس .
لأنّ قصّة مد اليد الشريفة من قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليقبّلها الشيخ أحمد الرّفاعي ، هي واحدة من القصص التي يواظب الكثير من القصّاص الصوفية على ترديدها متى سنحت لهم الفرصة ، ويزعمون أنها معجزة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكرامة للشيخ أحمد رحمه الله ، وهي عند أهل العلم قصّة مُخْتَلَقَة شأنها شأنُ الكثير من القصص .
ومما يُبيّن أنها مُختَلَقة ، أن كلّ الكتب الكبيرة المتخصّصة بذكر تراجم مشاهير الرّجال وتقصّي أخبارهم وأقوالهم وما جرى معهم ، لم تذكر هذه القصّة ولم تشر إليها في ترجمة الشيخ الرفاعي لا من قريب ولا من بعيد ، مثل "وفيات الأعيان" لابن خلكان ، أو "سير أعلام النبلاء" للذهبي ، أو "البداية والنهاية" لابن كثير ، أو "شذرات الذهب" لابن العماد الحنبلي الصوفي ، وهذه الكتب قد اعتنت بذكر أدقّ تفاصيل حياة الشيخ الرّفاعي ومع ذلك فإنها لم تذكر هذه الحادثة على عظم شأنها، وهذا شيء عجيب حقاً !!
أيعقل أن يذكروا قصة ترك الشيخ الرفاعي للبعوضة تمتص من دمه كي لا يزعجها وأمثال هذه القصص ثم لا يذكرون قصة مد اليد ؟؟ !!
وكذلك فإن كل كتب التاريخ وكتب طبقات الصوفية التي اعتنت بذكر الأحداث من زمن الشيخ أحمد الرّفاعي ، أي في القرن السادس ، إلى القرن العاشر لم تذكر هذه القصّة ! وكمثال كتاب طبقات الأولياء للشعراني الذي اعتنى بذكر حوادث تافهة وعدّها من كرامات بعض الشخصيات ، ومع ذلك لم يذكر هذه الحادثة على عظم قدرها ! وهذا يبيّن أن القصة مكذوبة ولم يكن لها وجود في زمن الشعراني .
والعجيب حقاً أنّ راوي القصة يزعم أنها جرت في موسم الحج وأمام الألوف من الناس يُقال إنهم ، مئة ألف ، وفيهم مشايخ كبار ، ومع ذلك فلم تتوفّر هممهم لنقل هذه الحادثة وإخبار الناس بها !!! والمعروف أن الناس إذا رجعوا من الحج حدّثوا قومهم بأغرب ما جرى معهم ويستمرّون على هذا الحال إلى آخر حياتهم ، فهل يُعقل أن يشاهدوا اليد الشريفة تخرج من القبر ليقبّلها الشيخ الرفاعي ثمّ لا نجد أحداً من كل هؤلاء الألوف يهتمّ بإخبار الناس بهذا الحدث ؟؟
ثُمَّ إنّ أتباع الطريقة الرّفاعيّة لمّا أدركوا أنّ هذه القصّة لا سند لها بل هي مُختَلَقة ، اضطرّوا إلى تأليف رسائل تثبِتُها ، ولكي يكون لهذه الرّسائل مصداقيّة عند الناس زوّروها وألصقوها بعلماء مشهورين في القرن السابع أو الثامن أو التاسع ، ولكن كان من أثر ذلك أن افتُضِح أمرهم وظهر زيفهم . ومن الشخصيّات البارزة في هذا الخصوص شخصية أ بي الهدى الصيادي شيخ الطريقة الرفاعيّة في زمانه ومجددها ، والذي كان ينسب نفسه للشيخ أ حمد الرفاعي ، وله مؤلّفات كثيرة كتَبَها لأجل إبراز الطريقة الرفاعية وإكسابها الأفضلية والتميز على غيرها ، وكذلك للتعظيم بشخص الشيخ الرفاعي الذي تنسب إليه هذه الطريقة .
فمن ذلك أنهم ألّفوا رسالة صغيرة جداً بعنوان :
"الشرف المحتّم فيما منّ الله به على وليّه السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه من تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم " وألصقوها بالسيوطي لما له من مؤلّفات كثيرة .
والغريب أن كلَّ الكتبِ التي تَرْجَمَت للسيوطي لم تَذكُر هذه الرِّسالة ضمن مؤلّفاته الكثيرة ، بل إن السيوطي نفسه لم يذكرها ضمن رسائله وكتبه لمّا ترجم لنفسه في كتابه "حسن المحاضرة" وهذا أمرٌ عجيب !!
ثمّ وبعد اطلاعي على الرسالة تبيّن لي أنها لا يمكن أن تكون من تأليف السيوطي ، فلا الأسلوب أسلوبه و لا الطريقة طريقته .
والمضحك فيها أنه يستشهد بكلام السخاوي !! تصوّروا السيوطي يستشهد بكلام السخاوي !! والكل يعلم العداوة المستحكمة بين الرجلين والبعد الكبير بينهما وخاصة في مثل هذه المسائل التي هي أبعد ما تكون عن منهج السخاوي .
ثم بعد ذلك يستشهد السيوطي في هذه الرسالة المزعومة بكلام الفرّاء لإثبات كرامة الرفاعي في مد يد النبي صلى الله عليه وسلم له وتقبيلها !! والمعلوم أنّ الفرّاء من أهل اللغة والنحو ، والمضحك أنّ الفرّاء معتزلي ينكر الكرامات أصلاً !! وهذا معلومٌ عند السيوطي .
ثم تزعم الرسالة أن السيوطي المحدّث وهو يخرّج حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ((مررت بقبر موسى وهو قائم يصلي فيه)) يقول خرّجه إبراهيم في الحلية ؟ تخيّلوا السيوطي الذي اشتهر بتأليف المجاميع وكتب التخريج وعزو الأحاديث كالجامع الكبير والصغير والخصائص والدر المنثور يقع في مثل هذه الأخطاء الباردة ! فالحديث مشهور جداً وهو في صحيح مسلم ومسند أحمد والنسائي فهل يُعقل أن يعزوه السيوطي للحلية فقط ولا يعزوه إلى هذه الأمهات ؟
ثم يقول السيوطي في الرسالة المزعومة خرّجه إبراهيم في الحلية .!!! فهل تصدقون أن يقع السيوطي في مثل هذه الهفوة فلا يعرف اسم صاحب الحلية ؟!!!! وقد كان ينقل عنه في كتبه مئات الأحاديث ويسميه باسمه المعروف عند أهل الحديث وهو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني .
أم أنّ الذي كتب هذه الرسالة شخص آخر لا يمتّ بصلة لعلم الحديث ؟.
ثم إن كل من يقرأ الرسالة وهي تقع في أربع صفحات فقط !! منها سطر ونصف للعنوان !! سيلاحظ أن الكاتب قريبُ عهدٍ بزماننا لا بزمان السيوطي.
ولكن السؤال الذي حيّرني ، من هو واضع هذه القصّة ؟
وعند قراءتي لكتاب "المقاصد الحسنة" للسخاوي بتحقيق الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري ، وهو أحد أعلام علماء الصوفية في عصرنا ، بدأ الجواب يرتسم أمامي شيئاً فشيئاً ، وذلك عندما قال الشيخ الغماري في تعليقه على حديث ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)) رقم [45] في كتاب المقاصد الحسنة للسخاوي صفحة: (29) قال: ((قرأته مسنداً بإسنادٍ ضعيف في كتاب الأربعين المنسوب للقطب الكبير أحمد الرّفاعي ، لكنّي غير واثق من صحّة ما يُنسب إليه من المؤلّفات لأنها من صُنع أبي الهدى الصيّادي الذي كان يكتب مؤلّفات في مناقب الرّفاعي وينسبها إلى علماء في القرن الثّامن الهجري أو قبله أو بعده )) . انتهى كلام الشيخ الغماري .
ثمَّ إنني لمّا بحثتُ في مؤلّفات السيوطي لم أجد لهذه الرسالة من ذكر ، ولكنني فوجئتُ بذكرها ضمن مؤلّفات السيوطي في كتاب " إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون " لإسماعيل بن محمد الباباني البغدادي ( وفاته 1339هـ 1920م ) وهو معاصر لأبي الهدى الصيّادي المتوفى سنة ( 1327هـ 1910م ) وكما هو معلوم عند أهل العلم أنّ الكتاب الأصلي وهو " كشف الظنون " لحاجي خليفة ، ليس فيه ذكر لهذه الرسالة ضمن مؤلّفات السيوطي .
والذي أضافها هو إسماعيل البغدادي صاحب الذيل ، فتبيّن بوضوح أنّ واضع الرّسالة هو بالفعل أبو الهدى الصيادي.
كذلك فإن أبا الهدى الصيّادي كان مشهوراً عند علماء الصوفية قبل غيرهم من أنه يخترع أشخاصاً وقصصاً وأنساباً وكتباً وينسبها لمن يشاء.
وأوّل اختلاقاته أنه نسب نفسه من طريق أبيه إلى الشيخ أحمد الرّفاعي ومن طريق أمّه إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه !
والمعروف أن خالد بن الوليد انتهت ذريّته في عصر التابعين ولا عقب له بعد ذلك وأمّا الشيخ أحمد الرّفاعي فكل المراجع الكبيرة تنصّ على أنه لا عقب له كما قال ابن خلّكان في "وفيات الأعيان" (1 ـ172) في ترجمة الرفاعي: ((ولم يكن له عقبٌ وإنما العقب لأخيه)) انتهى ، وكذلك ذكر ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" .
وأمّا ثاني اختراعاته : فهو شيخه " الرواس " الذي لا وجود له ، كما قال الأستاذ الكبير والكاتب الشهير مُسندُ حلب ومؤرّخها الشيخ محمد راغب أفندي الطبّاخ في كتابه "إعلام النبلاء في تاريخ حلب الشهباء" (7 ـ331): (( وزاد الشيخ أبو الهدى في الطنبور نغمةً أنه طبع عدَّة كتب نسبها لبعض المتقدمين ، ولشيخه الشيخ مهدي الرواس ، الذي لا وجود له إلا في مخيلته ، .... ولا رَيبَ أنَّ في إقدامه على هذه المفتريات ، ووضعه لهذه الأكاذيب جرأة عظيمة .
وإنّا ـ وايم الله ـ لنأسفُ على ذكائه المفرط ، وسعة مداركه ، وفضله الجمّ ، وما أوتيه من واسع الجاه ، ورفيع المكانة لدى السلطان عبد الحميد ، أن يصرِفَ ذلك في ترويج بضاعته ، ونفاق سلعته ، بحيث قضت أحواله وأطواره أن يسيءَ الناسُ الاعتقاد بمن تقدّم ، ويقيسوا الحاضِرَ على الغائب )). انتهى
وقال في نفس الترجمة: (( الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي مع اعترافنا بفضله ووفور ذكائه ليس بثقة ، فلا يُعتمد على التراجم والأنساب التي ذكرها في مؤلّفاته إذا انفرد بها ، فإنّ فيها أكاذيبَ كثيرة ، وأموراً واهية ، ولعمري إنه لو كان في زمن تدوين الحديث النبوي لَعُدَّ في مقدّمة الوضّاعين )) انتهى
وقال الشيخ عبد الحفيظ الفاسي ـ وهو من علماء الصوفية في المغرب ومعاصر للصيادي واجتمع به وأجازه ـ في كتابه "رياض الجنة أو المدهش المطرب" صفحة: (144ـ155) أثناء ترجمته للصيادي : (( قلتُ وأمر الروّاس هذا مُشكلٌ جداً ، فإنّ المترجَم ـ أي الصيادي ـ لمّا ذكَرَهُ في كتابه "قلادة الجواهر" وَصَفَه بأوصافٍ عالية في العلم والعرفان ، وقال: إنه شيخُ العصر علماً وعملاً ، وزهداً وأدباً ، ونسَبَ له مؤلفات ودواوين شعرية وطَبَعَها ، وقال: إنه كان خاملاً ، لايستقرّ في بلدٍ ، ويتعيّش من بيع الرؤوس المطبوخة . ومِنَ البعيد أنْ يكونَ كما ذَكَرَهُ ، ولا يَعْرِفُه أحدٌ أصلاً عدا المترجَم ! لأنَّ العلمَ من شأنه الظهور ، ولو أخفى نفسَه الإنسان وأخملها ، فإنَّ زكيَّ عبيره لا بدّ أن يستنشقه الناس .
وَهَبْ أنه كان خاملاً ، فإن الناس لا محالة يعرفونه ، فيذكرونه خاملاً حقيراً ، أو ينكرون فضله وعِلْمه . ومؤلّفات النبهاني مملوءةٌ حتى بالمعتوهين ، ومن لا يُعْرَفُ لهم اسمٌ ولا محل ، والحالةُ أنه لا وجود لمن ذكَرَه أوعرفه ـ لا كونه شيخَ العصر وشاعره ، ولا كونه أميّاً جاهلاً أو خاملاً ـ إلا المترجَم ( يعني الصيّادي ) في مؤلفاته ، وأتباعه كعبد القادر أفندي قدري في كتابه "الكوكب المنير" ، وأحمد عزة باشا الموصلي في كتابه "العقود الجوهرية" و أمثالهما ، ممن يستقي من بحره . وإقدامُ المترجَم ـ يعني الصيادي ـ على اختلاق وجوده وأخباره ومؤلفاته وأشعاره ، إن صحَّ ، ممَّا يُستغرَبُ صدوره منه )) انتهى كلام الشيخ عبد الحفيظ الفاسي .
وذكر الأستاذ الشيخ محمد سليم الجندي مفتي معرّة النعمان وحمص ـ وهو أيضاً معاصر للصيادي ـ في كتابه "تاريخ معرّة النعمان" (2 ـ 215ـ229) عند ترجمته لأبي الهدى الصيادي :
(( وأكثرُ الناس يزعمون أنّ الروّاس شخصٌ موهومٌ ، لا حقيقة له ، اخترعه أبو الهدى الصيادي وأضاف إليه أقوالاً وأعمالا ً )) انتهى
ـ وأمّا ثالث اختراعاته ـ أي الصيادي ـ فهي الكتب والدّواوين الشعريّة التي نسبها لنفسه أو لشيخه الروّاس ، فقد ذكر الدكتور نزار أباظة في كتابه "جمال الدين القاسمي" : أنّ الشيخ توفيق الأيوبي كان له شأنٌ مع أبي الهدى الصيادي ، وأعانه فيما يُعزى إليه من كتب .
((ولم يكتف أبو الهدى بذلك بل كان يَسْتكتبُ الكتب ، وينسبها إلى مؤلفين مشهورين ،من ذلك ما كتبه الشيخ محمد راغب الطبّاخ إلى صاحب "معجم المطبوعات العربية" (3:2 من المستدرك ) قال: إن كتاب (غاية الاختصار في أخبار البيوتات العلويّة) ليس لتاج الدّين بن محمد حمزة بن زهرة الحسيني نقيب أشراف حلب ، بل هو من وضع الشيخ محمد أبي الهدى الصيّادي ، وقد نسبه إلى تاج الدين المذكور ، وسببُ وضعه له ما كان من المنافرة بينه وبين السيد سليمان الكيلاني نقيب أشراف بغداد ، وقد أثبتَ ـ يعني الصيادي ـ في هذا الكتاب نِسبَة الشيخ أحمد الرّفاعي إلى البيوتات العلوية وطعنَ في الكتاب الثاني المطبوع مع هذا الكتاب وهو "مختصر أخبار الخلفا" لابن الساعي بنسب الشيخ عبد القادر الكيلاني ، وأنّ أكابره أصلُهم من الفرس. وأتى بأسباب أخرى تؤكد أنّ هذين الكتابين موضوعان أو ملفّقان " انتهى من حاشية الأستاذ حسن سويدان في كتابه المفيد " أبو الهدى الصيادي في آثار معاصريه " .
وقد يسأل سائل : ما غرض الصيادي من تزوير مثل هذه الكتب ؟
والجواب : إنّ أبا الهدى الصيّادي لمّا ادّعى النسب إلى الشيخ الرّفاعي ، أَنكَرَ عليه هذا النسب بعض أهل العلم ونقباء الأشراف ، ومنهم نقيب أشراف بغداد . فكما ذكرتُ آنفاً فإن الشيخ الرفاعي ليس له أولاد ولا ذرية ، فكيف ينسب الصيادي نفسه إليه ؟
والأمر الثاني أنّ كلّ من ترجم للشيخ أحمد الرفاعي من الأئمة لم يذكر أن الرفاعي ينتسب للبيت العلوي الشريف وهذا معلوم عند نقباء الأشراف .
وكما هو معلوم فإن ابن خلكان والذهبي وأمثالهما عندما يترجمون لشخص من آل البيت فإنهم يبيّنون ذلك من أوّل الترجمة فيذكرون هل هو حسنيّ أم حسينيّ ثمّ في أثناء الترجمة يذكرون نسبه كاملاً ، فكيف إذا كان المترجم شخصاً مشهوراً وعظيماً في زمانه فإنّ التعريف بنسبه من باب أولى وهذا لم يحدث في ترجمة الرفاعي عند كل من ترجم له من المتقدّمين ، بل يذكرون أنه من قبيلة بني رفاعة من العرب فقط .
ولكن الصيادي لمّا ادعى النسب للرفاعي وكان الرفاعي غير منسوب ـ وهذا لا يقلل من قدره ، وقد حاول المغالون من أتباع الرفاعي في العصور المتأخّرة أن ينسبوه لآل البيت في كتبهم ولكنّ ذلك لم يكن له اعتبار عند العلماء ونقباء الأشراف ـ أراد الصيادي أن يوهم الناس بأنّ الرفاعي منسوب لآل البيت ، فاخترع هذه القصة ، حيث قال في أوّلها : إنّ الرفاعي لمّا وصل إلى المدينة وقف تجاه القبر الشريف وقال: السلام عليك يا جدّي ، فردّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم : وعليك السلام يا ولدي !!
ثمّ اخترع قصّة ثانية ليدعم كذبته ، فزعمَ أنّ الرفاعي لمّا حجّ مرّة ثانية وزار قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، وقفَ تجاه القبر وقال :
إن قيل زرتم بما رجعتم يا أكرم الرسل ما نقول ؟
فجاءه الجواب من القبر الشريف بصوتٍ سمعه كلّ من في المسجد :
قولوا رجعنا بكل خيرٍ واجتمع الفروع والأصول
وكما هو ملاحظ في القصّتين المخترعتين أنّ الصيّادي يريد فيهما التأكيد على مسألة إنتساب الرفاعي لآل البيت ، ففي القصة الأولى قال : السلام عليك ياجدّي فقال له وعليك السلام يا ولدي ، وفي القصّة الثانية قال : واجتمع الفروع والأصول ! وكلُّ ذلك في سياقٍ سمجٍ وبارد ، فكلّنا يعلم قولَ الله تعالى في نبيّنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم في سورة يس :
(( وما علّمناه الشعر وما ينبغي له ))
ولكنّ الصيّادي أعماه كذبه عنها فنسب هذا البيت من الشعر للنبي صلى الله عليه وسلم لتستقيم قصّته المفتراة ، وانظر إليه كيف قدّم الفروع على الأصول ! لكي لا تختلّ القافية !!!!!
فلمّا أنكر نقيب الأشراف في بغداد ، وهو من ذريّة الشيخ عبد القادر الجيلاني، على الصيادي انتسابه لآل البيت ، أراد الصيّادي أن يقلب المسألة عليه فألّف رسالة شكك فيها بنسب الشيخ عبد القادر الجيلاني ، وقال فيها كيف يكون من آل البيت وأبوه اسمه جنكي بن دوست ؟ !
ولكي يكون للرسالة وزن وقبول نسبها لابن الساعي وهو منها براء .
وهذا الفعلُ منه شنيع ، كيف يطعنُ في الأنساب ؟! وقد نهانا رسول الله عن ذلك فقال : (( ثنتان في الناس هما بهم كفر ، الطعن في الأنساب والنّياحة على الميّت )) رواه مسلم نسأل الله العافية والسّلامة .
ولمّا أطلعتُ أحد مشايخي على ما وصلتُ إليه من بطلان قصة مد اليد للرفاعي ، وكذلك بطلان نسبة رسالة الشرف المحتم للسيوطي ، أخرج لي كتاباً للشيخ عبد الله الغماري الحسني ـ المرجع الصوفي الكبير في عصرنا ـ بعنوان " النقد المبرم لرسالة الشرف المحتم " يثبتُ فيه بطلان كرامة مد اليد ، وكذلك بطلان نسبة رسالة الشرف المحتم للسيوطي ، وقد استوفى الشيخ الغماري المسألة من جميع وجوهها ، وذكرَ موافقة أخيه ، أبي الفيض أحمد الغماري المحدّث الصوفي المعروف، له في بطلان هذه القصة ، وكلاهما من كبار مرجعيات الصوفية كما لا يخفى .
ثمَّ يتعرّض الشيخ الغماري إلى كرامات كثيرة مبثوثة في كتب الصوفية وخاصّة كتاب "طبقات الأولياء" للشعراني ، ويثبتُ بطلانها كما يُثبت بطلان صفة الولاية عن بعض الأشخاص الذين اشتهر بين الصوفية أنهم أقطاب ، بل أنكر ما اخترعه الصوفية من أن الأقطاب أربعة فقط.
سامحوني لتطويل هذا الاستطراد ولكن أردتُ أن أبين لكم كيف تُخترع بعض القصص ثمّ تلصق بأشخاص كبار وتؤلّف لها المؤلّفات وتلصق بأسماء لامعة في التراث الإسلامي . وهذا منه الكثير للأسف ولكن الحمد لله فإن علماءنا كانوا ومازالوا ينقحون التراث من كل دسيسة ويبرِّؤون أعلام الأمّة من كلّ فرية تفترى عليهم ، ولعلّي أذكرُ لكم أمثلةً على تلك الدسائس يوماً ما .
والحمد لله أن تبرّأت ساحة الشيخ الجليل أحمد الرّفاعي من هذه القصة الملصوقة به ، وقد ارتحتُ جدّاً لمّا تبيّن لي الأمر فأحببتُ أن تشاركوني في اطلاعكم على هذه الحقيقة .
ورحم الله الشيخ أحمد الرفاعي القائل : " لا تجعل رُوَاقَ شيخك حَرَماً ، وقَبْرَهُ صَنَماً ، وحَالَهُ دفّة الكُدية " والكُدية : حِرْفةُ المتسوّلين .
والقائل ، حال كونه منكراً على غلاة المتصوّفة :" قال بعضُ الأعاجم مِنْ صوفيّة خراسان : ( إنّ روحانية ابن شهريار الصوفي الكبير قُدس سرّه ، يتَصَرَّفُ في ترتيب جموع الصوفية في العرب والعجم إلى ما شاء الله ) ! ذلك لمْ يكُن إلا لله الوهّاب الفعّال " انتهى
والحمد لله ربّ العلمين .
أبو إدريس
د . خلدون مكي الحسني دمشق شوّال 1425
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق