الغلو في الدين معناه وبيان صوره وأسبابه وخطره
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد :
أيها الإخوة والأخوات ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، وحياكم الله في هذا اللقاء الطيب المبارك ، الذي يجمعنا بصاحبي الفضيلة ؛ صاحب الفضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهل ،الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية . وصاحب الفضيلة الشيخ محمد بن أحمد الفيفي ،الداعية بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالرياض . وقد اعتذر عن الندوة صاحب الفضيلة الدكتور أحمد بن محمد المنيعي ؛ لظروف حالت دون حضوره .
ولا شك أن موضوع هذا اللقاء يحتاج المجتمع بصورة كبيرة لبيانه ، وتشتد الحاجة لكثرة مَن تبنَّى هذا الفكر : فكر “الغلو في الدين” لبيان معنى الغلو وتجليته وأسبابه ، والأسباب التي تجعل الإنسان ينجو من هذا الفكر الخطير .
نبتدئ حديثنا أيها الأحبة مع فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح الكنهل ، عن بيان المراد الغلو في الدين ، ويبين لنا الأدلة الشرعية التي تحذر من هذا الفكر ، فليتفضل أثابه الله وسدده.
حديث فضيلة الدكتور عبد الله بن صالح
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليمًا كثيرًا ، أما بعد :
الغلو عند أهل الكتاب :
أيها الإخوة ، هذه الظاهرة التي سنتحدث عنها – إن شاء الله – في هذه الليلة ظاهرة قديمة ، وجدت قبل الإسلام ، فقد قص الله – عز وجل – علينا في كتابه الكريم ما كان من أهل الكتاب من غلو ، على سبيل التحذير من سلوك مسالكهم ، وفعل مثلما فعلوا . وقد قص الله – عز وجل – علينا عن النصارى ما وقع منهم من غلوٍّ في عيسى ابن مريم ، كما في قوله سبحانه : ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ﴾ [سورة التوبة : الآية 31] . فقد غلوا في أحبارهم ، وغلوا في رهبانهم ، فكانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه ، وجعلوا عيسى ابن مريم إلهًا مع الله – جل وعلا ، وهذا من الغلو .
الغلو عن المسلمين :
وهذه الأمة ليست بمنأًى عن الغلو ، ولذا قص الله – عز وجل – علينا هذه الأخبار ؛ لكي نحذر أن نسلك مسلكهم ، لما جاء الإسلام وجدت أيضًا بعض بوادر الغلو ، لا سيما في العبادة ، في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يبادر إلى علاجها ، ويحذر من الغلو ، ويرشد إلى اتباع السنة ، وتجنب طرق أهل الغلو .
وفي عهد الصحابة – رضي الله عنهم – وبعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ظهرت فرقٌ غلت في أمور اعتقادية ، فظهرت الخوارج ، وظهرت القدرية ، وهكذا كان صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهم علماء الأمة حين ذاك ، كانوا يتصدون لهذه الظاهرة ، فيبينون بطلان هذا المسلك ، ويحذرون من مَغبة الغلو ، ويرشدون الناس إلى الطريقة الصحيحة الوسط ، التي جاءت بها شريعة الإسلام .
الغلو في العصر الحالي :
واستمر مسلسل الغلو في تاريخ الأمة ، فلم يسلم عصر من العصور من وجود فِرق من فرق الغلاة ، وكان علماء الأمة يتصدون لمثل هذه الظواهر ، فيبينون حكم الشرع فيها ؛ إبراءً للذمة ، وتحذيرًا من تلك المسالك المردية ، وهذا هو دور العلماء في كل زمان ومكان .
ولم يكن عصرنا – أيها الإخوة – بمنأًى عن هذه الظاهرة ، فقد ظهرت مظاهر عدة من مظاهر الغلو ، وإن ما نشهده ، مما اكتوت به هذه البلاد من أحداثٍ وتفجيرات وعنف وتكفير ، كل هذا من مظاهر الغلو ، التي حذرنا منها الإسلام ، وحذرتنا منها نصوص الوحيين .
ولهذا – أيها الإخوة – كان من الواجب على أهل العلم أن يبينوا أخطار هذه الظاهرة ، ويبينوا الأدلة الشرعية على تحريم سلوك مثل هذه المسالك ؛ ليكون الناس على بصيرة من أمرهم ، ومن هنا كان طرح هذا الموضوع .
وسيكون حديثي في البداية عن النقطة الأولى ، أو العنصر الأول ، وهو : معنى الغلو . قبل أن ندخل في بيان التحذير من الغلو ، وأسبابه وعلاجه ، إلى آخره .
تعريف الغلو :
لا بد أن نتعرف على المراد بالغلو ، ذكر أهل اللغة أن الغلو في اللغة هو بمعنى مجاوزة الحد ، فكل مَن جاوز الحد فهو غالٍ . وذكر بعض أهل العلم أن تعريفه شرعًا هو تجاوز الحد الشرعي بالزيادة ، اعتقادًا أو عملاً ، وتجاوز الحد الشرعي بالزيادة على ما جاءت به الشريعة ، سواء في الاعتقاد أم في العمل .
أنواع الغلو :
ومن هنا – أيها الإخوة – يتبين لنا أن للغلو نوعين :
النوع الأول :
•الغلو الاعتقادي : ومن أمثلته الغلو في الأنبياء والصالحين ، كمن يغلو في نبي من الأنبياء ، فيستغيث به ، ويسأله من دون الله – عز وجل – أو يدعي فيه أنه يعلم الغيب ، أو غير ذلك ، مما هو من خصائص المولى تبارك وتعالى . ومن ذلك أيضا الغلو في الصالحين ، وفي قبور الصالحين ، وسؤالهم تفريج الكربات ، وإجابة الدعوات ، فهذا أيضًا من الغلو الاعتقادي . ومن ذلك أيضًا الغلو في التكفير بغير برهان من الله – عز وجل – ولا من رسوله – صلى الله عليه وسلم . فهذه من أمثلة الغلو الاعتقادي .
وقد ثبت في صحيح البخاري ، من حديث أبي سعيد مرفوعًا ، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ ( 1) هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ » ( 2) .
وهاتان الصفتان اللتان ذكرهما النبي – صلى الله عليه وسلم – هما صفتان مشتركتان ، توجدان في كثير من فرق الغلاة على مدار التاريخ ، فهم قليلو العلم ، جاهلون بالشرع . ولهذا حتى لو قرءوا القرآن فإنه لا يجاوز حناجرهم ، بمعنى أنهم يقرءون بدون تدبر ، وبدون فهم ، ولهذا لا يهتدون بهدي القرآن ، ولا ينتفعون بمواعظه ، والصفة الثانية أنهم يقعون في استباحة الدماء ، فهم : ” يدعون أهل الأوثان ، ويقتلون أهل الإسلام ” . وذلك نتيجة لتكفيرهم لأولئك القوم ، فهم يكفرون المسلمين ، ثم ينطلقون من ذلك الاعتبار إلى استباحة دمائهم .
النوع الثاني :
•الغلو العملي : والمراد بالغلو العملي هو : الزيادة في العبادة . فقد يزيد المسلم في عبادة من العبادات على الحد الذي وضعه الشرع ؛ طلبًا للتقرب إلى الله – عز وجل – فيشق على نفسه ، مثلاً كالشخص الذي يصوم ولا يفطر ، أو يقوم الليل كله ولا يرقد ، أو يتعبد لله – عز وجل – باعتزال النساء ، واعتزال الزوجات .
وهذه الظاهرة وجدت في عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما في حديث أنس ، في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت النبي – صلى الله عليه وسلم – فسألوا عن عمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكأنهم تقالوه ، ثم قالوا : وأين نحن من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . ثم قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل ولا أرقد . وقال الآخر : وأما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر . وقال الثالث : وأما أنا فأعتزل النساء . فلما جاء رسول الهدى – صلوات ربي وسلامه عليه – وعلم بما قالوا بيَّن لهم المنهج الصحيح ، وأنكر عليهم هذا الانحراف عن السنة ، فقال – صلى الله عليه وسلم – : « أَمَا إِنِّي أَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » ( 3) .
وإن النوع الأول – وهو الغلو في الاعتقاد – أشد خطرًا من النوع الثاني ، وإن كان كلاهما فيه خطر على الأمة ؛ لأن النوع الثاني يؤدي إلى الفرقة بين المسلمين ، ومنه نشأت الفرق الضالة التي انحرفت عن جادة الصواب ، واستباحت دماء المسلمين وأموالهم ، وأوقعت في بلاد الإسلام الفتنة .
المرجع لمعرفة ما يكون فيه الغلو :
فما المرجع فيما يُعد غلوًّا ؛ حتى تتبين لنا حقيقة الغلو ؟ لا بد من مرجع يتبين من خلاله ما يصح أن يسمى غلوًّا ، وما لا يصح أن يسمى كذلك .
المرجع في هذا – أيها الإخوة – هو الكتاب والسُّنة ، وشريعة رب العالمين ؛ لأننا ذكرنا أن تعريف الغلو هو تجاوز الحد الشرعي ، يعني الحد الذي وضعه الشرع ، فحتى نعرف أن فعلاً من الأفعال ، أو اعتقادًا من الاعتقادات هو غلو ، لا بد أن نتبين حدود الشرع في هذا الجانب . فإن كان ذلكم الفعل ، أو ذلك الاعتقاد ، متجاوزًا لحدود الشرع فهو غلو ، وإن كان في حدود الشرع فليس غلوًّا ، وإن سماه مَن سماه غلوا .
لأننا نجد بعض الناس ممَّن قل علمهم ، أو وجدت عندهم نيات غير صالحة ، أنهم يصفون بعض ما هو من الدين بالغلو ، فتجد من يصف الحجاب – حجاب المرأة المسلمة – بالغلو ، وتجد من يصف تحريم المعازف التي جاءت النصوص بتحريمها بالغلو ، وتجد من يجعل إعفاء اللحى نوعًا من الغلو . وكل هذه الأمور جاءت بها نصوص الشريعة ، فهي من الإسلام ، وليست من الغلو في شيء .
مقابل الغلو :
حتى يتضح لنا حقيقة الغلو فلا بد أن نعرف ما مقابل الغلو ، مقابل الغلو في الطرف الآخر هو الجفاء ، فكما قال بعض السلف : ” دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ” . فدين الله وسَط بين الغالي فيه ، وبين الجافي عنه . فالطرف الآخر هو الجفاء ، وهو التفريط ، والغلو هو الإفراط ، وكلا الأمرين مذموم .
فالشريعة جاءت بذم التفريط ، وبذم الإفراط ، وجاءت بالعدل ، وسلوك منهج الوسط في الاعتقاد وفي العمل . لهذا يقول ابن القيم – رحمه الله – : ” ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان ؛ إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه ” ( 4) . فكما أن الجافي عن الأمر مضيع له ، فالغالي فيه مضيع ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه الحد .
لكن الغلو – أيها الإخوة – أشد خطرًا من الجفاء ، وإن كان كلاهما انحراف من ناحية أن الغلو يفرق الأمة ، ويفتح الطريق إلى البدع على مصراعيه ، وتستباح به الدماء ، والأموال المعصومة .
ثم إن الغالي يظن أنه على حق في كثير من الأحوال ، فيستمر في غيه ، وفي غلوه ، بخلاف العاصي المفرط ، الذي يعلم تقصيره ، فهو أرجى إلى أن يرجع ويئوب ويتوب إلى الله – جل وعلا .
الأدلة على التحذير من الغلو :
القضية الثانية التي سأتحدث عنها هي الأدلة على التحذير من الغلو ، فقد تبين فيما مضى حقيقة الغلو ، وما يتعلق به من أنواع . وسأنتقل الآن إلى ذكر بعض الأدلة الشرعية في التحذير من الغلو ومسالكه .
فقد قص الله – عز وجل – علينا – كما أشرت فيما مضى – ألوانًا من غلو أهل الكتابين ، وما ذاك إلا لكي تتعظ هذه الأمة ، وتتجنب سلوك مسالك الغلو .
الأدلة من القرآن :
الدليل الأول :
فمن ذلك قوله سبحانه : ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ [سورة النساء : الآية 171] .
الدليل الثاني :
ويقول – جل وعلا – في الآية الأخرى : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 77] .
الأدلة من السنة المطهرة :
الدليل الأول :
وأما من السُّنة ؛ فقد جاءت أحاديث عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تحذر من الغلو والتنطع ، منها حديث عبد الله بن مسعود ؛ حيث قال – صلى الله عليه وسلم : « هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ » ( 5) .
والمتنطع – كما يقول النووي في شرحه على صحيح مسلم – هو المتعمق في الشيء ، المغالي فيه ، المجاوز حدَّ الشرع فيه ، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقادًا .
الدليل الثاني :
ومن الأدلة أيضا التي تحذر الأمة من الغلو حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداةَ جمع – يعني صبيحة ليلة مزدلفة ، وهي ليلة يوم النحر : « هَاتِ، الْقُطْ لِي » . فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ ( 6) ، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ قَالَ : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » .يعني : فارموا . « وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ » (7 ) .
هذا هو الدليل ، وإن كان جاء على سبب خاص ، وهو قضية الغلو في حصى الجمار ؛ لأن بعض الناس قد يظن أن كبر حجم الحصى من الدين ؛ لأن الحصى كلما كان أكبر كان أقوى وأوقع أثرًا . فأرشد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى اتباع السنة بقوله : « بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ » أي : فارموا بما يقارب هذا الحجم ، ولا تحكموا عقولكم ، بل اتبعوا سنة نبيكم – صلى الله عليه وسلم – وإياكم والغلو في الدين .
لكن كما يقول العلماء : العبرة بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – عليه رحمة الله – بعد أن أورد هذا الحديث : ” عام في جميع أنواع الغلو ؛ في الاعتقاد والأعمال ” ( 8) .
الدليل الثالث :
من الأدلة التي تحذر الأمة من الغلو حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – يرفعه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال : « إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ » ( 9) . ويشاد بمعني : يغالب . فمَن غالب الدين ، فشق على نفسه ، فسيكون منتهى أمره إلى الانقطاع ويُغلَب ، كما قال – صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر – : « عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا » (10 ) .
الدليل الرابع :
ومن النصوص التي تحذر ، أو تفيد التحذير من الغلو النصوص الواردة في مدح ضد الغلو ، فقد جاءت النصوص الشرعية ببيان يُسر الإسلام وسهولته ، وأنه جاء برفع الحرج ، وجاءت الشريعة تحث على الرفق ، وتحث على الاعتدال ، وعلى الوسطية . هذه الأمور كلها تنافي الغلو ، فالحث عليها ، وإرشاد الأمة إليها ، هو في الواقع أيضًا تحذير من ضدها ، وهو الغلو .
ومن ذلك قوله جل وعلا : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ﴾ [سورة البقرة : الآية 185] . وقوله سبحانه : ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [سورة الحج : الآية 78] . وقوله سبحانه : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [سورة البقرة : الآية 143] . وسطًا يعني : عدولاً خيارًا .
وقوله – صلى الله عليه وسلم – : « إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ » ( 11) . هذه بعض الأدلة التي تحذر من الغلو وأكتفي بهذا القدر .
حديث الشيخ محمد الفيفي
مظاهر الغلو في الدين في عصرنا الحالي :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم النبيين ، وسيد المرسلين ، وإمام المتقين ، نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
مما يحسن الكلام حوله في هذه الندوة الحديث الكلام عن بعض مظاهر الغلو ، وهي – وإن كانت كثيرة – فسوف نقتصر على أهمها ، مما يتسع ويسمح به الوقت .
من مظاهر الغلو :
•الغلو في الأنبياء والأولياء والصالحين .
•الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات .
•الغلو في إنكار المنكر .
•الغلو في الجهاد .
•الغلو في الولاء والبراء ، وغير ذلك من الأنواع .
الغلو في الأنبياء والأولياء الصالحين :
لقد خلق الله – عز وجل – الثقلين لحكمة واحدة ؛ وهي أن يعبدوه وحده ، كما قال تعالى : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات : الآية 56] . والعبادة اسم جامع لكل ما يحب الله ويرضاه ، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ، كالدعاء والاستغاثة والاستعاذة والذبح والنذر والسجود ، وغير ذلك .
ومَن صرف شيئًا من العبادة لغير الله فقد جعله شريكا لله تعالى ، فإن كل ما أمر الله أن يصرف له فلا يجوز صرفه لغيره ، فإن فعل فقد وقع في التنديد ، الذي هو أعظم الكبائر .
فقد سُئِل النبي – صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم ؟ فقال : « أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ » (12) . متفق عليه . وسواء أكان هذا الشريك مَلِكًا أم نبيًّا أم وليًّا أم شجرًا أم حجرًا أو كوكبًا ؛ لأن الله – عز وجل – يقول : ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [سورة النساء : الآية 36] . ويقول جل وعلا : ﴿ وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [سورة الجن : الآية 18] .
وقد بُعث النبي – صلى الله عليه وسلم – في أقوام مختلفي المشارب ، متبايني الاعتقادات ، فمنهم مَن يعبد الملائكة ، ومنهم من يعبد الأنبياء ، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار ، ومنهم من يعبد الصالحين . فلم يفرق النبي – صلى الله عليه وسلم – بينهم ، بل حَكم عليهم جميعًا بالكفر والشرك ، واستحل بذلك دمائهم وأموالهم ، وسبي نسائهم ، فدل على أن حكم الجميع واحد ، ولما كان الشرك أعظم الذنوب ؛ إذ هو الذنب الذي لا يغفر أبدًا ، لمن لقي الله عليه من غير توبة ، كما قال – جل وعلا – : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾ [سورة النساء : الآية 48] .
كما أن توحيد الله تعالى في العبادة أعظم الواجبات ، فلذلك كان هو أول ما دعت إليه الرسل جميعًا ، كما قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وحين بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – معاذًا إلى اليمن أمره بأن يبدأ بدعوة الناس إلى التوحيد فقال : « إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » ( 13) .
وهذا الدين الخاتم جاء بتقرير التوحيد ، والنهي عما يضاده ، وجاء بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما لم يأتي مثله في الشرائع السابقة .
وكان مما حذر منه الكتاب والسُّنة الغلو في الصالحين من الملائكة والأنبياء ، أو العلماء والزهاد ، وكذا الغلو في بعض الجمادات ، كالأشجار والأحجار وغيرها ؛ لأن هذا الغلو هو مفتاح الشرك الأكبر ، وبابه النافذ إليه ، وبه ضل قوم نوح ، ومن بعدهم ، وقد سبق في علم الله أن هذا واقع في هذه الأمة ، كما وقعت فيه الأمم من قبلها ، فلذا كثر التحذير منه ، ومع ذلك وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام في القديم والحديث .
تقسيم آخر للغلو :
والغلو على نوعين :
•نوع مخرج من الملة ، وهو ما بلغ بصاحبه إلى تسوية غير الله بالله ، فيما هو من خصائص الله ، كمن ينسب إلى بعض الخلق أنه يعلم الغيب ، أو أنه على كل شيء قدير ، أو أنه يتصرف في الكون بحياة أو موت ، أو نفع أو ضر ، وهذا استقلال بقدرته هو ومشيئته . وهذا يوجد عند كثير من الغلاة من الروافض والصوفية وأشباههم ، ومن صوره أيضًا صرف العبادة لغير الله – عز وجل – كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم ، والذبح لهم ، والنذر لهم ، والطواف بقبورهم تقربًا إليهم ؛ لأنها عبادات ، والعبادة لا يجوز صرفها لغير الله ، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك .
•نوع يؤدي إلى الشرك : وهو ذريعة إليه ، مثل : رفع قبور الأولياء ، وبناء القباب والمساجد عليها ، أو دفن الأولياء في المساجد ، وشد الرحال إليهم ، والتوسل إلى الله – عز وجل – بجاههم ، والحلف بهم ، مع الاعتقاد أن الحلف بهم دون الحلف بالله ، إما إن قام بقلب صاحبه – يعني الحالف – أن الحلف بغير الله كالحلف بالله أو أعظم فهذا شرك أكبر .
ومن هنا يتبين لك – أخي المبارك – خطورة الغلو في الصالحين ، كيف لا وهو سبب أو شرك وقع في بني آدم ، كما حصل للقوم الذين بُعث فيهم نوح عليهم – عليه الصلاة والسلام – في الخبر المشهور ؛ حيث غلو في وَدٍّ وسُواع ويغوثَ ويَعوقَ ونَسرًا . وهؤلاء كانوا قومًا صالحين ، فلما ماتوا صوروا لهم تماثيل ؛ حتى يتذكروهم ، فيعملوا مثل عملهم . ثم تقادم الزمان ، ونسي العلم ، ومات أولئك ، فجاء مِن بعدهم قوم أوحى لهم الشيطان أن اعبدوها من دون الله – عز وجل – فعبدوها من دون الله ، فوقع أول شِرك في بني آدم .
فأرسل الله نوحًا – عليه الصلاة والسلام – فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ودعاهم إلى الكفر بعبادة ما سواه ، ولبث فيهم ألفَ سنة إلا خمسين عامًا ، فأهلك الله – عز وجل – كفار قومه ، ونجَّى نوحًا ومَن آمن معه ، وما آمن معه إلا قليل .
وقد ورثت العرب تلك الأصنام ، وبقيت فيهم ، حتى بعث الله محمدًا – صلى الله عليه وسلم – فأهلكها على يديه . ولخطورة الغلو في الصالحين ، وشدة الفتنة بهم ،
النصوص الواردة في التحذير من الغلو :
وقد جاء التحذير منه في الكتاب والسُّنة ، وفي كلام السلف ، في نصوص كثيرة منها :
عن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن عمر – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : « لا تُطْرُونِي ( 14) كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنِّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ » ( 15) . رواه البخاري .
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، يا ابن سيدنا وخيرنا ، وابن خيرنا . فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ ، لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ، وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ » ( 16) . رواه أحمد بإسناد صحيح .
وعن عائشة – رضي الله عنها – أن أم حبيبة وأم سلمة – رضي الله عنهما – ذكرتا كنسية رأيْنَها بالحبشة ، فيها تصاوير ، فذكرتا للنبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : « إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » ( 17) . متفق عليه .
وعن ابن سويد قال : خرجنا مع عمر في حجة حجها ، فقرأ بنا في الفجر : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ ﴾ و﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ ﴾ . فلما قضى حجه ورجع ، والناس يبتدرون ، فقال : ” ما هذا ؟ ” قالوا : مسجد صلى فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم . فقال : ” هكذا هلك أهل الكتاب ، اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعًا ، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ، ومن لم تعرض له منكم فيه الصلاة فلا يصل ” ( 18) . رواه ابن أبي شيبة ، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال الإمام محمد بن وضاح – رحمه الله – : ” وكان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد ، وتلك الآثار ، للنبي صلى الله عليه وسلم ، ما عدا قباء ” . وقال ابن وضاح : ” وسمعتهم يذكرون أن سفيان الثوري دخل مسجد بيت المقدس ، فصلى فيه ، ولم يتبع تلك الآثار ، ولا الصلاة فيها ” .
فمن تأمل هذه النصوص – أيها الإخوة – عرف أن الغلو في الأولياء والصالحين والأضرحة ليس من الدين في شيء ، بل دين الله منه براء . ومحبة الصالحين إنما تكون بالاقتداء بهم في الخير ، لا بجعلهم أندادًا لله تعالى ، ولا أن يفعل بهم ما يكون وسيلةً إلى الشرك الأكبر – والعياذ بالله – كما هو الحاصل اليوم في كثير من بلاد العالم الإسلامي .
ومما يبعث على الأسى زهد كثير من أهل العلم في الجامعات والمعاهد الدينية ، والمشتغلين بالدعوة إلى الله من الأفراد والجماعات ، ببيان حقيقة توحيد العبادة ، وبيان ما يضادها ، وتقصيرهم في تحذير الأمة من الغلو في الصالحين ، وأصحاب الأضرحة ، في الوقت الذي يكثر فيها المفتونون بها .
والباعث على هذا التقصير ؛ إما الجهل بحقيقة الإسلام ، وإما خشية إغضاب الجماهير ، وإما أن يلتزم الداعي بمنهج جماعة لا تُقرُّ أصلاً الدعوة إلى التوحيد ؛ أي توحيد العبادة ، ولا التحذير من الشرك ووسائله ، كما هو الغالب على حال الجماعات اليوم .
ولا شك أن السكوت عن بيان الشرك ، وعن بيان التوحيد ، لا سيما توحيد العبادة ، من أعظم الغش للأمة وللأتباع وللمدعوين . فإن المبتلى بالشرك إذا مات عليه كان من أهل النار ، خالدًا فيها . فكيف يتركه الداعي في هذه الورطة العظيمة ، التي لا مخرجَ له منها ، إلا بإخلاص العبادة لله .
إن على الدعاة إلى الله أن يترسموا خُطا محمد – صلى الله عليه وسلم – والنبيين من قبله ، في الدعوة إلى الله . فقد قص الله عنهم جميعًا أن أساس دعوتهم كانت الدعوة إلى توحيد الله ، وترك الإشراك به .
فقال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [سورة النحل : الآية 36] . وقال تعالى : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [سورة الأنبياء : الآية 25] . وقص الله تعالى عن جملة من رسله أنهم دعوا أقوامهم ، فقال كلٌّ منهم : ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [سورة الأعراف : الآية 59] . وأمر الله نبيه – صلى الله عليه وسلم – أن يبين للناس حقيقة دعوته في قوله تعالى : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ ﴾ [سورة يوسف : الآية 108] .
ولقد جر السكوت عن بيان التوحيد – توحيد العبادة – إلى تعلق كثير من الناس بغير الله تعالى ، يدعونهم ويرجونهم ، ويذبحون لهم ، ويستغيثون بهم عند الشدائد والكربات ، في عامة بلاد المسلمين . وكثير منهم يظن أنه على حق ، لا سيما وهم يرون من يحسنون الظن بهم ، من المنتسبين للعلم والدعوة ، لا ينكرون عليهم هذا ، إذا لم يسوغوا لهم بدعهم وخرافاتهم وشركياتهم .
نسأل الله أن يقيض لبلاد المسلمين ، التي ليس فيها من يدعو إلى التوحيد من أهل العلم ، من يقوم بهذا الواجب أحسن قيام وأتمه.
الغلو في المتبوعين والأحزاب والجماعات :
لقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يكونوا أمة واحدة ، متفقين غير مختلفين ، تربطهم أخوة الإيمان والمحبة فيه سبحانه وتعالى ، مجتمعين على كتاب الله ، وعلى سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعلى فَهم السلف الصالح ، ونهاهم عن التفرق والتحزب والتعصب ، فقال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآيتان 31 – 32] .
ولكن داء التحزب والتعصب والتفرق دبَّ إلى هذه الأمة كما دبَّ إلى الأمم سابقًا من قبلنا ، بل أكثر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ : ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ » ( 19) .
وقد حذر أئمة الإسلام من هذه الفرق والأحزاب . وإليك – أخي المبارك – هذه الفتوى القيمة المختصرة للإمام محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – حيث سُئِلَ : هل هناك نصوص في كتاب الله وسُنة نبيه – صلى الله عليه وسلم – فيها إباحةٌ لتعدد الجماعات الإسلامية . فأجاب – رحمه الله – : ” ليس في الكتاب ، ولا في السنة ، ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب ، بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك ؛ قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 159] . وقال تعالى ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآية 32] .
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به ، بل ما حثَّ عليه في قوله : ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [سورة المؤمنون : الآية 52] . ولا سيما حين ننظر إلى آثار هذا التفرق والتحزب ؛ حيث كان كل حزب وكل فريق يرمي الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق ، وربما بما هو أعظم من ذلك .
لذلك فإنني أرى أن هذا التحزب خطأ ، وقول بعضهم : إنه لا يمكن للدعوة أن تقوى وتنتشر إلا إذا كانت تحت حزب . فنقول : إن هذا الكلام غير صحيح ، بل إن الدعوة تقوى وتنتشر ، كلما كان الإنسان أشد تمسكًا بكتاب الله ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم ، وأكثر اتباعًا لآثار النبي – عليه الصلاة والسلام – وخلفائه الراشدين ” . انتهى كلامه رحمه الله .
الغلو ومظاهره عند الجماعات المختلفة :
والغلو عند أتباع هذه الجماعات ذو مظاهر متعددة ، مثل :
•غلو أتباع الجماعات في أئمتهم ومنظريهم : حتى إن بعضهم ليجعل أئمتهم في مصافِّ أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم .
•الغلو في الحكم للجماعة والولاء والبراء عليها : والكلام في هذا النوع يدور على مسألتين :
النوع الأول :
-متابعة المتبوع في كل ما يدعو إليه ، وهذا مثل غلو الروافض في أئمتهم ، وغلاة الصوفية في مشايخ الطرق ، وغلو غلاة المتعصبة من أصحاب المذاهب الفقهية ، ومثل المتحزبين للجماعات ، ومشاهير الدعاة . ومَن لم يصرح من هؤلاء باعتقاده عصمةَ متبوعه فلسان حاله يشهد عليه بمقتضاه .
ومذهب أهل السنة والجماعة أن كل مَن عدا الرسول – صلى الله عليه وسلم – فلا يلزم اتباع شيءٍ من قوله ، إلا ما وافق فيه الحقَّ : الكتاب والسنة . ومتى خالفهما ، أو واحدًا منهما رددنا قوله . ثم إِنْ كان ممن لا يتعمد مخالفة النصوص اعتذرنا له بأحسن الاعتذار . وإن كان المخالف لهما ممن لا يبالي بنصوص الشرع فهذا لا وزن له .
وقد برَّأ الله أئمة الإسلام من هذه الدركة – والحمد لله – قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ [سورة النساء : الآية 59] .
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : ” ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع ، غيرَ النبي – صلى الله عليه وسلم ” (20) . وقال أيضًا : ” أُرَاهُمْ سَيَهْلِكُونَ أَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَيَقُولُ : نَهَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ” (21) .
وعن مجاهد قال : ” كل أحد بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – يؤخذ من قوله ويترك ، إلا النبي – صلى الله عليه وسلم ” . وقال الإمام أحمد : ” عجبت لقومٍ عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [سورة النور : الآية 63] . أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة : الشرك . ولعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ” .
وكلام السلف في تقرير هذا الأصل العظيم كثير مشهور ، متداول بين أهل العلم ، وتقريره لا يلزم منه بغض الأئمة الأربعة ، وأمثالهم من أئمة الإسلام ، ولا تنقصهم ، ولا يلزم منه الطعن في دواوين الفقه وموسوعاته ، التي ألفها جهابذة الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة ، وإنما يبين هذا الأصل أنه لا بد من اتباع الدليل إذا كان قول العالم بخلافه ؛ لأن الله – عز وجل – إنما أمرنا بإجابة المرسلين ، كما قال : ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ ﴾ [سورة القصص : الآية 65] . ولم يكلفنا بإجابة أحد سواهم . فهذه الكتب تُدرَس ويُنتفَع بها ، لكن دون غلو يؤدي بصاحبه إلى طرح نصوص الكتاب والسُّنة ؛ تعصبًا لإمامه المتبوع .
وأما أتباع الجماعات المعروفة بالإسلامية اليوم فالواجب عليهم أن يستمسكوا بالسنة ، وأن يوالوا أهلها ، وأن يحذروا البدع ، وأن يجتنبوا أهلها ، وأن يتجردوا للحق ، وأن يجعلوا طلب الحق ديدنهم ، لا أن يجعلوا تعاليم الجماعة وقادتها هو الحق ، الذي ليس بعده إلا الضلال ، فهذا هو التعصب المقيت ، والغلو الذي نهانا الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وهكذا أيضًا يجب على أهل السنة ، والمنتمين للسلف الصالح ، أن يلتزموا بهذا الهدي ، فإذا صدرت زلة من عالم سُنِّي كبير ، فضلاً عمن دونه ، أن يتحروا الحق ، وينتصروا له ، وليحذروا أن تحملهم المحبة أن ينتصروا لزلته ، ويحشدوا من الشبهات ما يقوون بها زلته ، فهذا هو عمل أهل الأهواء .
وإذا كان العالم وقع في زلة خطأً ، أو اجتهادًا ، أو تأويلاً ، أو نحو ذلك ، مما يعذر به ، فليس حال المنتصرين له بالهوى كذلك ، فالمنتصرون له على زلته على خطر عظيم . فقد قال – صلى الله عليه وسلم – في حق المجتهد : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ، ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ، ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ( 22) .
فالعالم مأجور في اجتهاده ، معذور في خطئه . وأما المنتصر له هوًى ومحبةً ، فقد قال تعالى : ﴿ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [سورة ص : الآية 26] .
النوع الثاني :
-جعل المتبوع مناط الولاء والبراء : ونتيجة لهذا الغلو ، فمن أحب المتبوع ، وأثنى عليه ، فهو الحبيب الصديق . ومن انتقده – ولو بالحق – فهو البغيض العدو . وهذا من الغلو المذموم ، فالله عز وجل لم يجعل الحب والبغض والولاء والبراء لأحد من الناس ، أو لجماعة من الجماعات . وإنما أمرنا سبحانه بحبه ، وحب رسوله – صلى الله عليه وسلم – وبحب من اتبعه ، واتبع رسوله – عليه الصلاة والسلام – بقدر ما عنده من الاتباع . وأمرنا ببغض مَن خالف شيئًا من الكتاب أو السنة ، على قدر مخالفته . فبغض العاصي ليس كبغض الكافر .
قال تعالى : ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [سورة التوبة : الآية 71] . وقال تعالى : ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [سورة المائدة : الآية 55] .
وأما الدعوات الحزبية المخترعة اليوم فإنها تقوم على أساس البراء الحزبي ، وهو الذي يحكم علاقة أفرادها فيما بينهم ، وعلاقتهم بمن ليس من الحزب ، وحب السُّني للسُّني ليس هو من باب التحزب المذموم ؛ لأن السُّنة هي دين الله الذي ارتضاه لعباده ، وليس من اختراع أحد . فالمتمسكون بها متمسكون بالكتاب والسنة ، وهكذا بغضهم لأهل البدع ، ليس هو من التحزب المذموم ؛ لأنهم لا يبغضونهم لكونهم يخالفونهم في آراء أو اجتهادات ، وإنما يبغضونهم لمخالفتهم كتاب الله ، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وخروجهم على إجماع السلف الصالح .
ثم إن أهل السنة أيضًا لا يبغضون أهل البدع إلا على قدر بدعهم ، وحين اختلف اثنان من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحدهما من المهاجرين ، والآخر من الأنصار ، واستنجد كل واحد منهما بأصحابه ، أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك . فإذا استنكر النبي – صلى الله عليه وسلم التعصب من المهاجرين للمهاجرين ، ومن الأنصار للأنصار ، على أساس هذا الوصف ، فما ظنك بالتعصب للانتماء إلى الأحزاب والجماعات المحدثة اليوم ، التي هي جماعاتُ بدعةٍ وضلالة ، عافانا الله وإياكم .
فضيلة الدكتور عبد الله الكنهل :
أيها الإخوة ، ظاهرة الغلو في الدين لها أسباب ، ولها علاج .
أسباب الغلو :
فأما أسبابها فيمكن إجمالها – نظرًا لضيق الوقت في سببين رئيسين ، ترجع إليهما كثير من الأسباب :
السبب الأول :
الجهل ، والتلقي عن أهل الجهل : وقد أشار الله – جل وعلا – إلى هذا السبب في قوله سبحانه : ﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ ﴾ [سورة النساء : الآية 171] . فقرن بين النهي عن الغلو ، والنهي عن القول على الله – عز وجل – بلا علم . وهو سبب عظيم من أسباب الغلو في الدين .
السبب الثاني :
اتباع الهوى : وهذا السبب أيضًا أشار إليه سبحانه بقوله : ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [سورة المائدة : الآية 77] . فانظر كيف قرن الله – عز وجل – بين النهي عن الغلو ، والنهي عن اتباع أهواء الغالين ، الذين يقودون الأتباع إلى الغلو . فاتباع الهوى من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى الغلو ؛ وذلك أن الشخص قد يكون ذا علم وذا معرفة ، ولكن اتِّبَاعه لهواه يصدُّه عن العمل بمقتضى معرفته ، فيكون كمن لا يسمع ، كما قال جل وعلا : ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ﴾ [سورة القصص : الآية 50] .
علاج الغلو :
أما بالنسبة للعلاج ، فلعلي أوجز فيه أيضًا ، وهو أنواع :
العلاج الأول :
•الاعتصام بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح ، ومجانبة البدع والحذر منها ، وهو أعظم أنواع العلاج ، يقول الله عز وجل : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [سورة آل عمران : الآية 103] . والاعتصام بحبل الله هو سبيل إلى اجتماع الأمة وعدم تفرقها .
وفي حديث ابن عباس قال – رضي الله عنه – : خطبنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في حجة الوداع فقال : « يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا : كِتَابَ اللَّهِ ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ » ( 23) .
وعن العرباض بن سارية – رضي الله عنه – أنه قال : وعظنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، كأنها موعظة مودع ، فأوصنا . فقال : « أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا » . فما المخرج من هذا الاختلاف ؟ قال – صلى الله عليه وسلم – : « فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ » ( 24) .
العلاج الثاني :
•لزوم الجماعة ، والسمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية . وقد تقدمت أدلة تشير إلى ذلك ، منها حديث العرباض بن سارية المتقدم ، ومنها قوله تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ﴾ [سورة آل عمران : الآية 103] . وفي حديث عبد الله بن مسعود أيضًا ، يرفعه إلى رسول الهدى – صلوات الله وسلامه – عليه أنه قال : « ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ العَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ » ( 25) . رواه الترمذي ، وهو حديث صحيح . ويُغِل – كما قال ابن الأثير – من الخيانة . ويروى : يَغِل . بالفتح ، وهو الحقد . يعني : لا يدخله حقد يزيله عن الحق .
العلاج الثالث :
•الاستعانة بالله جل وعلا ؛ توكلا ودعاءً : كلنا يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة : ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [سورة الفاتحة : الآية 5] . يعني : لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين على عبادتنا إلا بك . والإنسان في هذه الحياة الدنيا في أمس الحاجة إلى معونة الله – جل وعلا .
وهناك بيت حكمة ينسب لعلي بن أبي طالب :
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللهِ لِلْفَتَى *** فَأَوَّلُ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
ولهذا لما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لمعاذ : « إِنِّي أُحِبُّكَ » . أوصاه بوصيةِ مُحبٍّ ، فقال له : « أَنْ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ » ( 26) . فالإنسان حتى يستقيم على طاعة الله – عز وجل – ويتجنب مسلكَيِ الإفراط والتفريط هو بأمسِّ الحاجة إلى معونة الله – جل وعلا .
وهذا ما تضمنته سورة الفاتحة ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [سورة الفاتحة : الآية 5] . ثم : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾ [سورة الفاتحة : الآية 6] . وهو لا غلو فيه ولا جفاء ، ثم : ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [سورة الفاتحة : الآية 7] . وهم أهل الجفاء : اليهود ، ﴿ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [سورة الفاتحة : الآية 7] . وهم أهل الجهل : النصارى الذين غلوا .
فهكذا المسلم يستشعر هذا المعنى عندما يقرأ هذه السورة العظيمة ، فيعلم أنها علاج لكثير من المشكلات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم ، ومنها مشكلة الغلو .
ومن الاستعانة بالله عز وجل الدعاء ، فقد كان من دعاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، اهْدِنِى لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ ، إِنَّكَ تَهْدِى مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ » ( 27) .
العلاج الرابع :
•طلب العلم من أهله : والصدور عن رأي العلماء ، لا سيما في القضايا العامة . فطلب العلم سبب عظيم من أسباب عدم الوقوع في الغلو في الدين ؛ لأن الغلو – كما تقدم – هو مجاوزة الحد الشرعي ، فإذا عرفتَ حدود الشريعة صرت بمنأًى عن مجاوزة تلك الحدود ، فتعلَّم العلم الشرعي ، واحرص على أن تأخذه من أهله المتحققين به ، المعروفين باستقامة المنهج . ولا بد أن تصدر الأمة والشباب عن آراء علماء الأمة ، لا سيما في القضايا العامة ، التي تمس واقع الأمة ، كما قال الله – جل وعلا – : ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [سورة النساء : الآية 83] .
العلاج الخامس :
•القيام بالمناصحة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وذلك بالطرق المشروعة ، على جميع مستويات الأمة ، للغالين على وجه الخصوص ، فيقول ربنا – جل وعلا – : ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [سورة آل عمران : الآية 104] . ويقول سبحانه : ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [سورة الشورى : الآية 13] .
وهاتان الآيتان تبينان أن المشروع هو الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لكن على وجهٍ لا يُفرِّق الأمة . ولهذا نجد اقتران هاتين الآيتين : ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ ﴾ . [سورة آل عمران : الآيتان 104 – 105] . وفي الآية الأخرى : ﴿ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ﴾ يعني : بالجهاد بالعلم بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لكن أيضًا : ﴿ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [سورة الشورى : الآية 13] .
فهذه الأمور يجب أن تكون على الوجه المشروع ، وإذا كانت على الوجه المشروع فإنها تؤدي إلى اجتماع الأمة ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى تفريق الأمة .
العلاج السادس :
•أن يترك الإنسان ما لا يعنيه : وألا يتصدى لما ليس له بأهل ، لا سيما قضايا الأمة العامة ، وقد مرَّ معنا ذكر هذه الآية : ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ [سورة النساء : الآية 83] . ونبي الهدى – صلوات ربي وسلامه عليه – يرشدنا جميعًا إلى ترك ما لا يعنينا . فيقول – صلى الله عليه وسلم – : « مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ » ( 28) .
وكثير من الشباب يقعون في ألوان من الحديث ، فيما لا يعني من أمور الأمة العامة ، وتكفير الأشخاص المعينين ، ويقع بينهم نزاع واختلاف ، ويحصل التباغض أحيانًا والتفرق والتحزب ، بسبب الحديث في أشخاص مَدحًا أو قَدحًا .
الواقع – أيها الإخوة – أن المسلم ينبغي أن يعرف المنهج الحق ، وأن يسير عليه ، وأن يعتني بصلاح قلبه ، وألا يشتغل بتكفير الأشخاص المعينين ، بغير برهان ولا حجة ، فإن هذا مسلك غير محمود العاقبة .
والقضايا العامة التي تعترض الأمة يتصدى لها أهل العلم ، وأهل الحل والعقد ، وولاة الأمور ، بما مكنهم الله – عز وجل – من القدرة العلمية والسلطة ، فهؤلاء يتصدون لمثل هذه القضايا . وأما عامة الناس ، وقليلو العلم ، وقليلو التجربة ، فليس لهم أن يتصدوا لتلك القضايا ؛ لأنهم إذا تصدوا لها وقعوا في كثير من الخطأ ، وانشغلوا بذلك أيضًا عما يصلحهم .
فكثير من الناس ينشغل عن صلاح قلبه ، وعن استقامة عمله ، بمثل هذه الأشياء . والله – جل وعلا – يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [سورة المائدة : الآية 105] . فصلاح القلب هو سبيل صلاح الجوارح .
يقول – صلى الله عليه وسلم – : « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ » (29 ) . وصلاح القلب يحصل بالعلم النافع ، والعمل الصالح . فعلى المسلم أن يحرص على تدبر القرآن ، وتدبر السنة ، وتعلم العلم النافع ، فإنه السبيل إلى صلاح قلبه ، واستقامته على الطريق الوسط ، من غير إفراط ولا تفريط .
تعليق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
بسم الله ، والحمد لله ، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله ، وعلى آله ، وعلى صحابته أجمعين ، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا جميعًا . نسأله أن يجعلَنا ممن تبعهم بإحسان ، وبعد :
الشيخان الفاضلان عبد الله بن صالح الكنهل ، ومحمد الفيفي ، تحدثا في هذه الندوة المباركة عن موضوع واحد ، ولكنه موضوع كبير في معناه ، عظيم في شأنه ، له أهميته وله مكانته . وعندما يستبين للمسلم حقيقة ذلك الأمر يكون سببًا لهدايته واستقامته على طاعة ربه .
دين الله وسط ، وصراطه مستقيم :
إن الله – جل وعلا – بعث محمدًا – صلى الله عليه وسلم – بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، بعثه بهذا الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ليسير المسلم على نهجه ، مقتفيًا أَثَر نبيه . وأمرنا ربنا في كل ركعة من ركعات صلاتنا بفاتحة الكتاب ، المشتملة على هذه الآية : ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ﴾ [سورة الفاتحة : الآيتان 6- 7] .
نَعَم ، صراط الله المستقيم ، فاستقامته هو وضوح سبيله ، وعدم اعوجاجه . وهو يجانب طريق الضُّلال ؛ أعداء الله اليهود ، المخالفين لما علموا ، المعطلين لما علموا ، التاركين لما علموا ، فضَلُّوا بترك الحق الذي علموه وكتموه وأخفوه . ومنها صفة محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، ولكن الكبر والحسد صدهم عن سبيل الله المستقيم ، والضالون : الذين لا علم عندهم ، وأعرضوا عن العلم والتعلم ، وبدلوا دينهم وحرفوه وغيروه ، وعملوا بجهل وضلال ، دون استناد إلى علم وهدى . فكلا الفريقين ضالٌّ عن سواء السبيل ، مجانب للصراط المستقيم .
أما أتباع محمد – صلى الله عليه وسلم – فهم الذين علموا وعملوا وآمنوا ، عملوا بما علموا ، ولم يكن مصدر دينهم آراء ولا استحسانات بشرية ، ولكن مصدرها كتاب الله ، وسُنة محمد – صلى الله عليه وسلم .
فقد خطَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خطًّا مستقيمًا ، فقال : « هَذَا سَبِيلُ اللهِ » . ثم خطَّ خطوطًّا عن يمين ذلك الخط ويساره ، وقال : « وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ » ( 30) . فالسبل متعددة ، والسبل متباينة ، كل سبيل له شيطان يدعو إليه ، ويؤيده ، ويحامي عنه ؛ لأنها طرق ملتوية ومتباينة ومتغايرة .
أما صراط الله المستقيم فهو الحق الذي لا ضلالة فيه ، والنور الذي لا ظلمة فيه ، قال تعالى : ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 153] .
الغلو مذموم في العبادة :
الغلو مذموم في الأقوال والأعمال ، والغلو مذموم في الموالاة والمعاداة ، والغلو مذموم في العبادات والعادات . غلوك في عبادتك مذموم ؛ لأن الواجب عليك أن تكون عبادتك – مع كونها خالصة لله – على وَفق ما شرعه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .
فالوضوء للصلاة شرط لصحتها ، فلو غلا إنسان في الوضوء ، وزاد على الحد المشروع ، كان من الغالين . الأعلى غسل العضو ثلاث مرات ، فالنبي توضأ ثلاثًا ثلاثًا ، ومرتين مرتين ، ومرة مرة . فمن زاد عن الثلاث فقد أساء وتعدَّى في الوضوء ، وغلا في وضوئه .
الصلوات الخمس تُؤدَّى بكمال أركانها وواجباتها ، ومن وفقه الله ، فاستكمل سننها ، فذاك خير ، لكنه لو غلا أتعب المؤمنين . فالنبي يقول لمعاذ : « فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ » ( 31) . وقال لمعاذ : « يَا مُعَاذُ ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ » ( 32) . لأنه أطال ، وهذه الإطالة ضرت بالمؤمومين ، فلا بد من الاعتدال ، حتى في الصلاة ، والاعتدال في النفقة ، والاعتدال في الملبس ، والاعتدال في المشي ، والاعتدال في كل الأحوال ؛ في محبة الأشخاص وبغضهم ، لا بد من الاعتدال ، والبعد عن الغلو .
ولذا قال الله لنا : ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [سورة المائدة : الآية 8] . فكَوْنِي أبغض إنسانًا ، أو أعادي إنسانًا ، يجب أن يجعل المعاداة تتخطَّى الحدود ، فلا تحملني كراهيتي له أن أغلو في بغضه ؛ بأن أُسيء وأضر به ، وإنما أكون في بُعدِي عنه على اعتدال . ولا تحملني محبته أن أغلو فيه ، فأتناسى أخطاءه وسيئاته .
الولاء للأحزاب والجماعات سبب للغلو :
وقد أشار المشايخ إلى الولاء للأحزاب والجماعات والانتماءات ، فأحسَنوا القول في ذلك ؛ فإن ولاء المسلم حقًّا لكتاب ربه ، وسُنة نبيه ، وجماعة المسلمين ، هذا هو الحق والهدى . وأما الولاء لغير الكتاب والسنة ، ولغير المنتسبين إليها ، إن كان هذا الولاء مصدره تحزب وتآلف على غير المنهج الصحيح كان ذلك بُعدًا عن الهدى . قال تعالى : ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [سورة الروم : الآيتان 31-32] . وقال تعالى ﴿ لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ﴾ [سورة الأنعام : الآية 159] .
الاعتدال في كل شيء يبعد عن الغلو :
فلا بد من الاعتدال في الأمور كلها ، ونبينا – صلى الله عليه وسلم – حذر أن نغلو فيه غلوَّ مَن قبلنا ، فقال : « إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ »(33 ). فمحبتنا له أصل الإيمان ، وكمالها أن نحبه محبةً فوق محبةِ النفس والولد والمال . ولكن لا نغلو فيه ، ونجاوز الحد ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : « « لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنِّمَا أَنَا عَبْدٌ ، فَقُولُوا : عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ » ( 34) .
ولا تغلُ في حب ابنك وابنتك ، غلوًّا يحجبك عن بيان أخطائهم وتجاوزاتهم ، فالحب يجب أن يكون معتدلاً ؛ حتى لا يطغى شيء على شيء . أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق ، وأن يحفظ هذا البلد من كل سُوء ، ويصلح وليَّ أمرنا ، وولي عهده . وأسأله أن يأخذ بنواصيهم لما يحبه ويرضاه ، وأن يرد عن هذا البلد كيد الكائدين ، وحسد الحاسدين ، وظلم الظالمين ، وأن يديم عليها نعمة الإسلام والأمن والرخاء ، وأن يحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين من كل سوء .
الأسئلة
يقول السائل : هل من الغلو في الدين مطالبة الأمة شعوبًا وجماعاتٍ وأفرادًا بترك ومقاطعة المأكولات والمشروبات الحلال ، التي هي من منتجات الكفار ؟
الجواب : يا إخواني ، كوني أبغض من خالف الشرع فهذا شيء حسن ، لكن المقاطعة هذه تخضع لولي الأمر ونظره العام ، وهل لها أثر أم لا ؟ ينبغي في الأمور هذه أن نَكِلَها إلى من يقيم هذه الأمور حقَّ التقييم ، وينظر إليها بنظره الصحيح .
يقول السائل : في الأسبوع الماضي احتفل كثير من المسلمين بما يُسمَّى بالمولد النبوي ، فهل هذا غلوٌّ في النبي – عليه الصلاة والسلام – وجفاء عن سُنته ؟
الجواب : بلا شك هو غلو وجفاء عن السنة ، فنحن نحب رسول الله ، ونُشهِد الله على محبته ، ، ونرى أن حبه فرض علينا ، أصلٌ من أصول ديننا ، لكننا لا نعمل إلا بما يرضى عنا ، فلو كان الاحتفال بليلة مولده شرعًا شرعه الله لنا لكنا – والله – أولى الناس بذلك . لكننا نعلم أنه شيء ما شرعه ، لا هو ولا خلفاؤه وأصحابه ، ومن سار على نهجهم من ملوك الإسلام . فلو كان خيرًا لسبقنا إليه الصحابة ، وهم يعلمون ليلة المولد والمبعث والمهجر ، وما أقاموا لذلك شأنًا ؛ لعلمهم أن المحبة لرسول الله وشكره مستمرٌّ دائمًا ، ونحن نشكر الله على النبي بأقوالنا وأعمالنا وجوارحنا وألسنتنا .
يقول السائل : ما حكم وضع بعض النايلون أو البلاستيك على القبر ؛ لكي يُعلم موقع القبر ؟
الجواب : النبي علَّم قبر عثمان بن مظعون بحجر وقال : « أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي » ( 35) . فالتعليم بالحجر أحسن ، ولا يكون بشيء فيه مظهر غلو .
يقول السائل : هل تعظيم الآثار والحفاظ عليها من الغلو في الدين ؟
الجواب : والله الآثار والغلو فيها إن كانت آثار مساكن أو بناء سهلة إذا ما تعلقت بها عقيدة أما مسكن أو دار أو جبل أو وادٍ أو كذا قيل هذا فهذا أمر سهل لكن لا تتعلق بها عقيدة وأمر يخل بالعقيدة .
يقول السائل : في الآية : ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [سورة البقرة : الآية 130] ، ما ملة إبراهيم ؟
الجواب : ملة إبراهيم : التوحيد وعبادة الله وإخلاص الدين له ، وألا يكون مع الله شركة في ذلك ، ومحمد – صلى الله عليه وسلم – قد جدَّد ملة إبراهيم .
يقول السائل : إذا عرضت عليَّ مسألة من المسائل ، وسمعت إجابتها من أحد العلماء ، هل لي أن أبينها للناس ؟
الجواب : إذا كانت قضية متطابقة مع ما سئل عنه ذلك العالم ، وبين الأمرين تطابقٌ ، وأنت على يقين فانقلها ، وقل : هذا فُتيا فلان .
يقول السائل : جاءني بعض الأحباب يريدون مني الخروج معهم للدعوة إلى الله عدةَ أيام أو شهور في السَّنة ، فجئت لهم بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى يقرءوه ، فغضبوا وخرجوا من عندي ، وصاروا لا يسلمون عليَّ ، ويحذرون مني ، فما حكم الذهاب والخروج ؟
الجواب : هؤلاء – هدانا الله وإياهم – بعض جماعات تُسمى بالأحباب ، أو التبليغيين ، بعضهم لديه شيء من هذا ، يقولون : خروجنا لا أمر ولا نهي فيه ؛ خروجنا لا نأمر بمعروف فيه ، ولا ننهى عن المنكر ، فمن كان على منكر فهو على منكره ، ومَن كان على معروف فهو على معروفه ، ولتكن القدوة هي التي تنقذ الإنسان من منكره .
فهم لا يدعون إلى التوحيد ولا إلى الفقه ، إنما يقرءون “حياة الصحابة” ، وأذكار الصباح والمساء ، وأذكار النوم وأذكار الطعام ، هذه مهمتهم ، حتى القرآن لا يقرءونه ، ولا يحفظونه ، ولا يتدارسونه . فمنهم – في الحقيقة – فئة جهلية ، ولهذا ردُّوا كتاب التوحيد ، ولم يقبلوه . وهذا خطأ عظيم منهم ، فإنهم يردون كتابَ علمٍ ونصوص من الكتاب والسنة ، تقوي العقيدة ، وتوضح المنهج الصحيح ، وتنأى بهم عن الشرك ؛ قليله وكثيره .
يقول السائل : هل التعصب القبلي من الغلو في الدين ؟
الجواب : إن كان تعصَّب لقبيلته من أجل أعدادهم فقط فلا ضرر . وأما إن تعصب من أجل دِينهم ، وقال : هؤلاء أتقى منكم ، وأدين منكم . ونحو ذلك ، وغلا غلوًّا كبيرًا فهذا عمل جاهلي ، لكن لا علاقة له بالغلو .
***********************************************************************************************************
( 1) الضئضئ : الأصل . النهاية ضأضأ .
( 2) أخرجه البخاري (3/1219 ، رقم 3166) ، ومسلم (2/741 ، رقم 1064) .
( 3) أخرجه البخاري (5/1949 ، رقم 4776) .
( 4) مدارج السالكين لابن القيم (2/464) .
( 5) أخرجه مسلم (4/2055 ، رقم 2670) .
( 6) الخَذْفُ : هو رَمْيك حَصَاة أو نَوَاةً يأخُذُها بين سُبَّابَتَيك وتَرْمي بها ، أو تَتَّخذُ مِخْذَفَة من خشب ثم ترمي بها الحصاة بين إبْهامك والسبابة . النهاية خذف .
( 7) أخرجه أحمد (3/350 ، رقم 1851) . والنسائي (5/268 ، رقم 3057) . وابن ماجه (2/1008 ، رقم 3029) . وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (3/278 ، رقم 1285) .
( 8) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (1/328) .
( 9) أخرجه البخاري (1/23 ، رقم 39) .
( 10) أخرجه البخاري (5/2201 ، رقم 5523) ، ومسلم (1/540 ، رقم 782) .
( 11) أخرجه مسلم (4/2003 ، رقم 2593) .
( 12) أخرجه البخاري (4/1626 ، رقم 4207) ، ومسلم (1/90 ، رقم 86) .
( 13) أخرجه البخاري (2/544 ، رقم 1425) ، ومسلم (1/37 ، رقم 130)
( 14) الإطْراءُ : مُجَاوَزةُ الحَدِّ في المَدْح والكَذِبُ فيه . النهاية طرا .
( 15) أخرجه البخاري (3/1271 ، رقم 3261) .
( 16) أخرجه أحمد (3/153 ، رقم 12573) . وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (3/88) .
( 17) أخرجه البخاري (1/15 ، رقم 417) . ومسلم (2/66 ، رقم 1209) .
( 18) أخرجه ابن أبي شيبة (2/151 ، رقم 7550) . وصححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/221) ، والشيخ الألباني في الثمر المستطاب (1/417) .
( 19) أخرجه أبو داود (4/198 ، رقم 4597) . والدارمي (2/314 ، رقم 2518) . وصححه الشيخ الألباني في السلسة الصحيحة (1/404 ، رقم 204) .
( 20) رواه الطبراني في الكبير (11/339 ، رقم 11941) . وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/430 ، رقم 840) : رجاله موثقون .
( 21) رواه أحمد (5/228 ، رقم3121) .
( 22) البخاري (6/2676 ، رقم 6919) ، ومسلم (3/1342 ، رقم 1716) .
( 23) أخرجه البيهقي (10/114 ، رقم 20123) . والحاكم (1/171 ، رقم 318) . وقال صحيح الإسناد . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/10 ، رقم 40) .
( 24) أخرجه أحمد (4/126 ، رقم 17184) ، وأبو داود (4/200 ، رقم 4607) ، والترمذي (5/44 ، رقم 2676) وقال : حسن صحيح . وابن ماجه (1/15 ، رقم 42) ، والحاكم (1/174 ، رقم 329) وقال : صحيح ليس له علة . والبيهقي (10/114 ، رقم 20125) . وأخرجه أيضًا : ابن حبان (1/178 ، رقم 5) ، والدارمي (1/57 ، رقم 95) . وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (6/526 ، رقم 2735) .
( 25) أخرجه الترمذي (5/34 ، رقم 2658) ، وابن ماجه (1/85 ، رقم 232) . والحميدي (1/47 ، رقم 88) . وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/78 ، رقم 228) .
( 26) أخرجه أحمد (5/244 ، رقم 22172) ، وأبو داود (2/86 ، رقم 1522) ، والنسائي في الكبرى (6/32 ، رقم 9937) ، والحاكم (1/407 رقم 1010) وقال : صحيح الإسناد على شرط الشيخين . والطبراني (20/60 ، رقم 110) وابن حبان (5/365 ، رقم 2021) . وعبد بن حميد (ص 71 ، رقم 120) . وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (2/1320) .
( 27) أخرجه مسلم (2/185 ، رقم 1847) .
( 28) أخرجه مالك (2/903 ، رقم 1604) ، والترمذي (4/558 ، رقم 2318) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/416 ، رقم 10806) . وصححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (3/1361 ، رقم 4839) .
( 29) أخرجه مسلم (4/1987 رقم 2564) .
( 30) أخرجه أبو داود (1/197 ، رقم 241) ، وأحمد (7/207 ، رقم 4142) . وحسنه العلامة أحمد شاكر . والدارمي (1/285 ، رقم 208). وحسنه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح (1/58) .
(31 ) أخرجه البخاري (1/249 ، رقم 672) ، ومسلم (1/340 ، رقم 466) . واللفظ لمسلم .
(32 ) أخرجه البخاري (1/142 ، رقم 705) ، ومسلم (1/339 ، رقم 178) .
(33 ) أخرجه أحمد (1/347 ، رقم 3248) ، والنسائي (5/268 ، رقم 3057) ، وابن ماجه (2/1008 ، رقم 3029) ، وابن سعد (2/180) ، والطبراني (18/289 ، رقم 742) ، والحاكم (1/637 ، رقم 1711) وقال : صحيح على شرط الشيخين . والبيهقي (5/127 ، رقم 9317) . وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/177 ، رقم 2144) .
(34 ) أخرجه البخاري (3/1271 ، رقم 3261) .
(35 ) رواه أبو داود (2/230 ، رقم 3206) ، وحسنه الشيخ الألباني .
رابط الموضوع : http://www.assakina.com/mohadrat/17713.html#ixzz2vSIziTBj
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق