اقبل البُشرى أيها التالي كتاب ربك
فقد قال سبحانه في سورة فاطر _وتدبر هذا الموضع جيدًا ففيه زاد أيّما زاد, وتلمّح تلك التجارة الرابحة_: "إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًّا وعلانية يرجون تجارة لن تبور . ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور . والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إنه بعباده لخبير بصير . ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير . جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير . وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب" فهل بقيت بقية لمعتبر ومدّكر وبائع لهواه بفلاح الأبد بعد هذا؟!
بل إن الدين كلَّه مبني على وعدِ غيبٍ لم نره حِسًّا, وهنا يكون محكّ الإيمان وبرهان التصديق ودليل التسليم, وعلى قدر الثقة بالله تعالى, بوجوده وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وأفعاله تكون الثقة به وبوعده, ومن هنا افترقت الخليقة, فأطيبُهم من يثق الثقة المطلقة التي لم تتزعزع ولم تضطرب مهما عصفت بها زلازل الخطوب وبلايا الفتن والرزايا وهذا مقام المرسلين, ثم الأمثل فالأمثل من الصالحين.
وتدبّر كلّ قصص الأنبياء بلا مثنوية؛ تجد أن عنوان الثقة بالله وبوعده موجود باضطراد في تضاعيف أحداث القصص, ولو تأملت السلك الناظم والخيط الجامع لقصص الصالحين من المرسلين فمن دونهم لرأيت أن الذي ينتظم ذلك هو الثقة بوعد الله ولقائه, وتأمل المعنى المتردّد على ألسنة رسل الله في حِجاجهم لأقوامهم قد اتفقوا على إشهاره: "وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين" ثقةً به واستغناء, "قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله" ولقد تكرر هذا المعنى الغني العزيز وتصرّف في القرآن كثيرًا, مما يدل على أنه من أعظم موارد معاني بناء الثقة في قلوب الصالحين والمصلحين.
وتأمّل تكرار الوعد الإلهي ووصفه بالحق في كثير من آيات الكتاب العزيز, كما في قول الحق تبارك وتعالى: "وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلا" وقوله: "ألا إن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون" وقوله جل في علاه: "فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون" وقوله: "وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق" وقوله: "يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" وقريب منه مع مسارٍ خطابي بطراز مختلف, وله وقع خاص جدًّا: "قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" وكيف لا يوثق بالله وحده وهو القائل: "وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليمًا قديرًا"؟!
ثم تدبر آية يونس وكرر فيها نظر قلبك وافرح بالله وافرح بفضله وافرح برحمته: "يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون"
وقبل الرحيل قف طويلًا مع آيتي سورة العنكبوت وحرّك بهما قلبك شوقًا لله وثقة به وشكرًا له على إنزال القرآن العظيم لك, وتأمل صدرك ما الذي حوى؟!: "بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون" وقوله: "أولم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون" بلى وعزتك يا ربنا, ومن لم يكن له في كتابك وسنة رسولك غُنية فلا أغنيتَه.
إبراهيم الدميجي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق