الخميس، 6 مارس 2014

دعوى خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا أثناء الاحتفال بالمولد والقيام له عند ذكر ولادته

دعوى خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا
أثناء الاحتفال بالمولد والقيام له عند ذكر ولادته
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد حثت القصص التي تقرأ بمناسبة الاحتفال بالمولد على القيام عند ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إلى الدنيا، ومما جاء فيها من ذلك ما يلي:
 1- قال البرزنجي في "مولده" (ص:77): (قد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذوو رِواية، وروية، فطوبى لمن كان تعظيمه صلى الله عليه وسلم غاية مرامه ومرماه".
2- قال الشيخ محمد بن محمد العزب في "مولده"(ص:11):
ولذكر مولده يُسَن قيامنا            أدباً لدى أهل العلوم تَأَكَّدا
وقد ذكر في توجيه ذلك عدة أشياء:
أحدها: أنه للترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم، الذي يعتقد أولئك القائمون أنه يحضر بجسده الشريف مجلس الاحتفال بالمولد، وقد يوضع له البخور والطيب في ذلك المجلس على أساس أنه يتطيب ويتبخر، كما يوضع له الماء على أساس أنه يشرب منه.
الثاني: أن القيام الذي يقع هو لحضور روح النبي صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة، وهذا هو الذي اختاره محمد بن علوي المالكي في كتابه: حول الاحتفال بالمولد، بعد جزمه بأن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المولد بجسده الشريف باطل، فقد قال (ص:26): (إننا نعتقد أنه صلى الله عليه وسلم حي حياة برزخية كاملة لائقة بمقامه، وبمقتضى تلك الحياة الكاملة العليا تكون روحه جوالة سياحة في ملكوت الله سبحانه وتعالى ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور والعلم، وكذلك أرواح خلص المؤمنين من أتباعه،وقد قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقال سلمان الفارسي: (أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت) كذا في "الروح" لابن القيم (ص:144).
الثالث: أن ذلك القيام لتشخيص ذات النبي صلى الله عليه وسلم.
 جاء ذلك في نظم "مولد البرزنجي"‏ ونصه:
وقد سنَّ أهلُ العلمِ والفضل والتقى قياماً على الأقدام معْ حُسنِ إمعانِ
بتشخيصِ ذاتِ المصطفى وهو حاضرٌ         بأي مقامٍ فيه يذكر بل داني
وفي تفسير ذلك التشخيص يقول محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص:30-31): (فالناس يقومون احتراماً وتقديراً لهذا التصور الواقع في نفوسهم عن شخصية ذلك الرسول العظيم، مستشعرين جلال الموقف وعظمة المقام، هو أمر عادي كما تقدم، ويكون استحضار الذاكر ذلك موجباً لزيادة تعظيمه صلى الله عليه وسلم).
الرابع: أن ذلك القيام هو لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر ذلك بعض الموجهين لذلك القيام من دون بيان، وقد وصل الأمر ببعض القائلين بهذا إلى تكفير تارك القيام، كما بينه محمد علي بن حسين المالكي في "تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية"‏ (4/277) حيث ذكر أن المولى أبا السعود قال: (إنه –أي: القيام عند ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم- في تلك القصص قد اشتهر في تعظيمه صلى الله عليه وسلم واعتيد في ذلك، فعدم فعله يوجب عدم الاكتراث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وامتهانه، فيكون كفراً مخالفاً لوجوب تعظيمه صلى الله عليه وسلم).
ولم يتعقب محمد علي بن حسين المالكي ذلك إلا بقوله: (أي: إن لاحظ من لم يفعله تحقيره صلى الله عليه وسلم بذلك، وإلا فهو معصية) اهـ.
ومن الواضح أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون بما شرع تعظيمه به، وهذا القيام غير مشروع.
 الخامس: أن ذلك القيام مقيس على القيام الذي وقع من الشيخ علي بن عبد الكافي السبكي حينما سمع قول الصرصري في قصيدته التي أولها:
قليلٌ لمدحِ المصطفى الخطُّ بالذهب                     ....................
إلى أن قال: وأن ينهضَ الأشرافُ عند سماعِه
وقد ذكر قصته ابنه التاج أبو نصر عبد الوهاب في ترجمة والده من كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" ‏(6/174) حيث قال: (حضر -أي والده- مرة ختمة بالجامع الأموي! وحضرت القضاة وأعيان البلد بين يديه وهو جالس في محراب الصحابة، فأنشد المنشد قصيدة الصرصري التي أولها:
قليلٌ لمدحِ المصطفى الخطَّ بالذهبِ                     .....................
فلما قال: وأن ينهضَ الأشرافُ عند سماعه... البيت؛ حصلت للشيخ حالة وقام واقفاً للحال، فاحتاج الناس كلهم أن يقوموا، فقاموا أجمعون)، وممن ذكر هذا التوجيه أحمد زيني دحلان في "السيرة النبوية والآثار المحمدية"‏ (1/45)، وعلي بن برهان الحلبي في "السيرة الحلبية"‏ (1/100).
 هذه هي المسالك التي ذكرها أولئك في توجيه ذلك القيام، وبعد استعراضها نجيب عن كل مسلك منها، فنقول وبالله التوفيق:
 أما دعوى حضور النبي صلى الله عليه وسلم الاحتفال بجسده الشريف، فأساسها دعوى خاطئة لجماعة من المتصوفة تعلقوا بما رواه البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من رآني في المنامِ فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي}؛ فزعموا أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك، وقد تحمس لهذه الدعوى ابن أبي جمرة، وابن الحاج، والسيوطي، ومحمد عليش، واستنكرها المحققون من أهل العلم الذين نذكرهم وعباراتهم فيما يلي:
1- القاضي أبو بكر بن العربي: قال: (شذ بعض الصالحين فزعم أنها –أي: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته- تقع بعيني الرأس حقيقة)، نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (12/384).
 2- الإمام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في "المفهم لشرح صحيح مسلم": ذكر هذا القول وتعقبه بقوله: (وهذا يدرك فساده بأوائل العقول، ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها، وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين، وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى من قبره فيه شيء، فيزار مجرد القبر، ويسلم على غائب؛ لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره. وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل).
وإلى كلام القرطبي هذا أشار الحافظ ابن حجر في "الفتح" بذكره اشتداد إنكار القرطبي على من قال: (من رآه في المنام فقد رأى حقيقته، ثم يراها كذلك في اليقظة).
3- شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعية":
قال: (منهم من يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الحجرة وكلمه، وجعلوا هذا من كراماته، ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه، وبعضهم كان يحكي أن ابن مندة كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية، ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: ويحك! أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار؟! فهل في هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الموت وأجابه؟! وقد تنازع الصحابة في أشياء، فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثها فهلا سألته فأجابها؟!).
وحكاية ابن مندة التي أشار إليها ابن تيمية رحمه الله في هذا الكلام ذكرها الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"‏ (17/37-38) في ترجمة أبي عبد الله محمد بن أبى يعقوب إسحاق بن الحافظ أبى عبد الله محمد بن يحي بن مندة وقال الذهبي فيها: (هذه حكاية نكتبها للتعجب!)
وقال في إسنادها: (إسنادها منقطع) اهـ.
 4 - قال الحافظ الذهبي في ترجمة الربيع بن محمود المارديني في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال": (دجال مفتر ادعى الصحبة والتعمير في سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وكان قد سمع من ابن عساكر عام بضع وستين).
ويعني الحافظ الذهبي بالصحبة التي ادعاها الربيع ما جاء عنه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو بالمدينة الشريفة، فقال له: أفلحت دنيا وأخرى، فادعى بعد أن استيقظ أنه سمعه وهو يقول ذلك.
ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة"(1/513).
5- الحافظ ابن كثير: ذكر في ترجمة أحمد بن محمد بن محمد أبى الفتح الطوسي الغزالي في "البداية والنهاية" ‏ (12/196): أن ابن الجوزي أورد أشياء منكرة من كلامه، منها أنه –أي: أبا الفتح الطوسي - كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب، وأقر ابن كثير ابن الجوزي على عد هذا من منكرات أبى الفتح الطوسي، وابن الجوزي ذكر هذا في كتابه "القصاص والمذكرين" (ص:156).
6- ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (12/385) أن ابن أبى جمرة نقل عن جماعة من المتصوفة أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك، ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله: (وهذا مشكل جداً، ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف).
7- قال السخاوي في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته: (لم يصل إلينا ذلك -أي ادعاء وقوعها- عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم، وقد اشتد حزن فاطمة عليه‏ صلى الله عليه وسلم حتى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح، وبيتها مجاور لضريحه الشريف، ولم تنقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه) نقل ذلك القسطلاني في "المواهب اللدنية" (5/295) عن السخاوي.
كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلالة قدره وعظمة شأنه، أنه كان يظهر الحزن على عدم معرفته ببعض المسائل الفقهية، فيقول: (ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الرِبا). متفق عليه.
فلو كان يظهر لأحد بعد موته لظهر لعمر الفاروق وقال له: لا تحزن، حكمها كذا وكذا.
8- وقال ملا علي قاري في "جمع الوسائل شرح الشمائل للترمذي" (2/238): (إنه –أي: ما دعاه المتصوفة من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد موته -لو كان له حقيقة لكان يجب العمل بما سمعوه منه صلى الله عليه وسلم من أمر ونهي، وإثبات ونفي، ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعاً، كما لا يجوز بما يقع حال المنام ولو كان الرائي من أكابر الأنام، وقد صرح المازري وغيره بأن من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية). انتهى كلام الملا علي قاري وفيه فائدة أخرى: هي حكايته الإجماع على عدم جواز العمل بما يدعي من يزعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة أنه سمع منه أمراً أو نهياً أو إثباتاً أو نفياً، وفي حكايته الإجماع على ذلك الرد على قول الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (7/29) ما نصه: (لو رآه يقظة –أي: بعد موته صلى الله عليه وسلم- وأمره بشيء؛ وجب عليه العمل به لنفسه، ولا يعد صحابياً، وينبغي أن يجب على من صدقه العمل به قاله شيخنا).
9- قال العلامة رشيد رضا في "فتاويه" (6/2385): (صرح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة، واستدلوا على ذلك بأن أولى الناس بها لو كانت مما يقع ابنته سيدة النساء وخلفاؤه الراشدون وسائر أصحابه العلماء، وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة، وبعضه إلى القتال، فلو كان صلى الله عليه وسلم يظهر لأحد ويعلمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة عليها السلام، وأخبرها بصدق خليفته أبي بكر رضي الله عنه فيما روى عنه من أن الأنبياء لا يورثون، وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه، ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ أكثر أمته دينهم عنهم، ولم يدَّع أحد منهم ذلك، وإنما ادعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية، فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى، وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خيل إليه في حال غيبة أو ما يسمى(بين النوم واليقظة) أنه رآه صلى الله عليه وسلم، فخال أنه رآه حقيقة على قول الشاعر: ومثلك من تخيل ثم خالا.
والدليل على صحة القول بأن ما يدعونه كذب أو تخيل: ما يروونه عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤية، وبعض الرؤى المنامية مما تختلف باختلاف معارفهم وأفكارهم ومشاربهم وعقائدهم، وكون بعضه مخالفاً لنص كتاب الله وما ثبت من سنته صلى الله عليه وسلم ثبوتاً قطعياً، ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين. نعم، إن منهم من يجلهم العارف بما روى من أخبار استقامتهم أن يدعوا هذه الدعوى افتراء وكذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن غلبة التخيل على المنهمكين في رياضاتهم وخلواتهم لا عصمة منها لأحد وكثيراً ما تقضي إلى جنون) اهـ.
10- قال الشيخ عبد الحي بن محمد اللكنوي رحمه الله في "الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة" (ص46): (ومنها –أي: من القصص المختلقة الموضوعة- ما يذكرونه من أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بنفسه في مجالس وعظ مولده عند ذكر مولده، وبنوا عليه القيام عند ذكر المولد تعظيماً وإكراماً.
وهذا أيضا من الأباطيل لم يثبت ذلك بدليل، ومجرد الاحتمال والإمكان خارج عن حد البيان).
11- قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في "حكم الاحتفال بالمولد النبوي": (بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: ((ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ))]المؤمنون:15-16[، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر}، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث، كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة) … إلخ.
12- قال عبد الفتاح أبو غدة في تعليقه على "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" لعلي قاري رحمه الله (ص:273): (ومن غريب ما وقفتُ عليه بصَدَدِ (التصحيح الكشفي) و(التضعيف الكشفي): ما أورده الشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي في مقدمة كتابه "كشف الخفاء ومزيل الإلباس"(1/9-10)، على سبيل الإقرار والاعتداد به! قال: (والحكم على الحديث بالوضع والصحة أو غيرهما، إنما بحسب الظاهرِ للمحدثين، باعتبار الإسناد أو غيره، لا باعتبار نفس الأمرِ والقطع، لجواز أن يكون الصحيح مثلاً باعتبار نظر المحدث موضوعاً، أو ضعيفاً في نفس الأمر، وبالعكس. نعم المتواتر مطلقاً قطعي النسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً.
ومع كون الحديث يحتمل ذلك، فيعمل بمقتضى ما يثبت عند المحدثين، ويترتب عليه الحكم الشرعي المستفاد منه للمستنبطين.
وفي "الفتوحات المكية"! للشيخ الأكبر قدس سره الأنور!! ما حاصله: فرب حديث يكون صحيحاً من طريق رواته، يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح؛ لسؤاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيعَلم وضعه، ويترك العمل به، وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه.
 ورب حديثٍ تُرِك العمل به لضعف طريقه، من أجل وضَّاع في رواته، يكون صحيحاً في نفس الأمر، لسماعِ المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم) اهـ.
قال عبد الفتاح أبو غدة: هذا ما نقله العجلوني وسكت عليه واعتمده!
ولا يكاد ينقضي عجبي من صنيعه هذا!
 وهو المحدث الذي شرح "صحيح البخاري"، كيف استساغ قبول هذا الكلام الذي تهدر به علوم المحدثين، وقواعد الحديث والدين؟! و يصبح به أمر التصحيح والتضعيف من علماء الحديث شيئاً لا معنى له بالنسبة إلى من يقول: إنه مكاشَف أو يَرى نفسه أنه مكاشَف؟! ومتى كان لثبوت السنة المطهرة مصدران: النقل الصحيح من المحدثين، والكشف من المكاشفين؟!
فحذارِ أن تغتر بهذا، والله يتولاك ويرعاك) اهـ.
ولمزيد من الفائدة انظر كتاب "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً" للشيخ صادق سليم صادق (ص:405-430)، وكتاب "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" للشيخ محمد أحمد لوح (2/36-52)، وكتاب "خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء" تأليف الصادق بن محمد بن إبراهيم، وكتاب "رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة ومناماً ضوابطها وشروطها" للشيخ الأمين الحاج محمد أحمد.
 وأما دعوى أن الذي يحضر مجلس المولد هو روحانية النبي صلى الله عليه وسلم، فالرد عليها يستفاد من الجواب السابق، وهو أن ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم أجمعين هم أولى الناس بهذه المزية العظيمة لو حصلت، ولم يدع أحد منهم هذه الدعوى.
وأما قول الإمام مالك: (بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت)، فالجواب عنه بما يلي:
أولاً: ما صحة نسبة هذا القول إلى الإمام مالك؟
ثانياً: هل قول الإمام مالك حجة، وخصوصاً أن قوله هذا في مسألة متعلقة بالغيب، فهي من مسائل العقيدة؟
وكثير ممن يستدل بقول الإمام مالك هذا -ومنهم محمد علوي المالكي- يقولون بعدم حجية حديث الآحاد في العقيدة، وان كان في صحيح البخاري أو صحيح مسلم!!
ثالثاً(أن قول الإمام مالك هذا ليس المراد به ما ادعاه محمد بن علوي المالكي من أن الأرواح جوالة يمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور؛ بل المراد به بيان سرعة انتقال أرواح المؤمنين الموتى من العرش إلى الثرى، ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها، كما بينه ابن القيم في نفس كتاب "الروح"!!
 وأما ما روي عن سلمان الفارسي أنه قال: (أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت)، فقد فسره ابن القيم في كتابه"الروح" بما نصه: (وأما قول من قال: إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، فهذا مروي عن سلمان الفارسي، والبرزخ هو الحاجز بين شيئين، وكأن سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت)، قال (وهذا قول قوي، فإنها قد فارقت الدنيا ولم تلج الآخرة؛ بل هي في برزخ بينهما، فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح و الريحان والنعيم، وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب، قال تعالى: ((وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))]المؤمنون:100[، فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة، وأصله الحاجز بين الشيئين) اهـ.
(وقد جاء في سنن ابن ماجة والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام يوم أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا جابر! أَلا أخبرك ما قال الله لإبيك}.
قلت: بلَى.
قال: ما كلم الله أَحداً إلا من وراء حجابٍ، وكلم أَباك كفَاحاً، فَقَال: يا عبد الله! تمن علي أعطك.
قال: يا رب! تحيينِي فأقتل فيك ثانية.
قال: إنه سبق مني أنهم إلَيها لا يرجِعون.
قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ)) [آل عمران:169].. الآية كلها)؛ وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة" (2/392-393).
وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن مستقر أرواح الشهداء كما في صحيح مسلم عن مسروق قال: (سألنا عبد الله -هو ابن مسعود- عن هذه الآية: ((وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ))]آل عمران:169[قَال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل...) إلخ.
وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أرواح المؤمنين الصالحين فقال: {إِنما نسمة المسلم طَير يعلَّق بشجرِ الجنة حتى يرجعه الله تبارك وتعالى إِلَى جسده يوم يبعثهُ}، رواه أحمد والنسائي وابن ماجة ومالك.
وأما اعتبار ذلك القيام الذي يقع عند ذكر وضع النبي صلى الله عليه وسلم وخروجه إلى الدنيا في قصص المولد من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جزم الشامي والهيتمي ورشيد رضا بأنه غير صحيح، وأنه بدعة لا يعذر من يفعلها من الخواص، وصرح الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي بأنه محرم، وفيما يلي نصوصهم:
قال الشيخ محمد الشامي في "سيرته"‏ (1/415): (جرت عادة كثير من المحبين إذا سمعوا بذكر وضعه صلى الله عليه وسلم أن يقوموا تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، وهذا القيام بدعة لا أصل لها).
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص:58) بصدد كلامه عن الوثوب عند قراءة قوله تعالى:((أَتَى أَمْرُ اللَّهِ))[النحل:1]، واعتباره إياه بدعة بعد زوال سبب الوثوب عند نزوله، وهو الفزع الذي زال بنزول: ((فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ))، كما ذكره الواحدي، فلا ينبغي فعله بعد زواله لما فيه من إيهام العامة ندبه؛ قال بعد استنكاره ذلك الوثوب ما نصه: (ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم ووضع أمه له من القيام، وهو أيضاً بدعة لم يرد فيه شيء، على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيماً له صلى الله عليه وسلم، فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص) اهـ.
وقال رشيد رضا في جوابه عن تلقين العلويين في (جاوه) الناس أن من لم يقم أثناء حفلات المولد عند سماعه (مرحباً بالنبي)‏ إلخ فهو كافر، قال في "فتاويه" ‏(5/2113) ما نصه:
(أما القيام عند ذكر وضع أمه صلى الله عليه وسلم، وإنشاد بعض الشعراء أو الأغاني في ذلك، فهو من جملة هذه البدع، وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويين على كتبه في دينهم). ثم نقل كلام ابن حجر الهيتمي السابق. اهـ.
وقال الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي في كتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/93): (ومنه – أي: من الاستحسان المحرم -أيضاً القيام عند ذكر الولادة النبوية، مع ورود النص بل النصوص الصريحة بالنهي عنه، انظر رسالتنا "صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد"،‏ ورسالتنا "الحق المبين في الرد على من رد عليها"‏ وهو صاحب "حجة المنذرين" اهـ.
وأما قول الصرصري في قصيدته:
وأن ينهضَ الأشرافُ عند سماعهِ              قياماً صفوفاً أو جثياً على الركَبِ
فليس بدليل شرعي على صنيع السبكي؛ فضلاً عن قياس القيام أثناء قراءة بعض القصص التي تقرأ في الاحتفال بالمولد النبوي على قيام السبكي، وليس الصرصري ممن يؤخذ بقوله في مثل هذا، وشعره يقع منه أحياناً ما لا يرضي، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري".
وحجة من أنكر هذا القيام هو ما جاء عن أنس رضي الله عنه أنه قال: {لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهيته لذلك}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق