هذه قصة حقيقية حدثت لأستاذي الذي درسني مادة الفلسفة في مرحلة الماجستير وهو الدكتور عبد الله الشارف أستاذ التعليم العالي بكلية أصول الدين بجامعة القرويين بالمغرب وقد طلبت منه شخصياً أن يرويها لي بلسانه وطلبت الإذن في نشرها وقد دونها بكتابه الموسوم: «تجربتي الصوفية في ميزان الكتاب والسنة»، وقد حدثت أثناء دراسته الدكتوراه في جامعة السوربون بفرنسا، وحاولت تلخيصها ليعرف القراء فساد وضلال الصوفية وانحرافهم عن الدين الصحيح.الدكتور عبد الله الشارف خريج السوربون يحكي قصته مع التصوّف
بدأ طفولته منتظماً ومريداً في سلك الطريقة العيساوية الشاذلية بزاوية بحي من أحياء مدينة تطوان يسمى حي العيون ، وهي فرع عن الزاوية الأصلية الكائنة بمدينة مكناس حيث يرقد جثمان الشيخ الكامل محمد بن عيسى وإليه تنسب الطريقة المذكورة.
وكان صاحب التجربة من خدام الزاوية وله ورد رسمي للمؤيدين يسمى بـ «حزب سبحان الدائم» كل يوم بعد صلاة المغرب بطريقة جماعية، وعلى رأس كل سنة هجرية يحتفل الفقراء بـ «الليلة الكبيرة»، حيث يذبح عجل، ويباع لحمه داخل الزاوية على طريقة المزاد العلني الدلالة ويتسابق الناس على شراء نصيبهم من اللحم لبركة الزاوية ، مع اجتماع وتوافد جل أتباع الزوايا الأخرى مثل الزاوية التيجانية والزاوية الدرقاوية والقادرية لحضور الحفل.
ومما لا شك فيه أن هذا المناخ الذي عاشه الدكتور المفعم بالسعادة الروحية الناتجة عن ممارسة الذكر الصوفي والاحتكاك بالفقراء كان له اثر عميق في كيانه ، فأوقد فيه محبة الصوفية في قلبه ولم يصل بعد سن البلوغ.
وهذه من أحد العوامل الأساسية وغير المباشرة في اقتحامه التجربة الصوفية لاحقاً عند التحاقه بمدينة باريس بفرنسا لإكمال دراسته العليا.
وقبل ذلك بعد حصوله على الباكلوريا ـ أي: الثانوية العامة ـ، انتقل إلى مدينة فاس لمتابعة دراسته الجامعية، فاختار شعبة الفلسفة، لولوعه بالفكر والفلسفة والثقافة الإسلامية.
وكما قلت: قصد فرنسا من اجل التحصيل العلمي، فولج جامعة السوربون في شعبة علم الاجتماع تخصص الانتربولوجيا الاجتماعية والثقافية.. ومن العوامل التي يسرت ومهدت للخلوة الصوفية، يقول:
1ـ جو الحرية والإباحية في العاصمة الفرنسية.
2ـ ربط علاقات الصداقة بفرنسيين متصوفة.
3ـ معاناته الروحية والنفسية.
ثم إن الدكتور حصلت له قناعة، مع طول تأمل وبحث في بطون كتب الفلسفة وعلم النفس بالإضافة إلى كتب التصوف ، أنه لا يمكن لإنسان فهم نفسه حق الفهم دون امتلاك أداة الذوق، لان اجتياز العتبة ودخول المنـزل أمر متوقف على الذوق، فبدأ الدكتور يكثر من الرياضة الروحية، ويكثر من الصيام، فصام أربعين يوماً متتالية مع الاجتهاد في الذكر والعبادة، ثم التقليل من كمية الأكل ما يقرب سنة إلى أن هزل جسمه وصار يشعر بخفة نفس وصفاء ذهن كما صار يتحسس خمود القوى النفسية الحيوانية كالغضب والشهوة.. وهذا ما عبر عنه هو بقوله: «الولادة الثانية، الولادة المعنوية في حياة الصوفية الجديدة، وهي طريق صوفي باطني تطهيري يصل بصاحبه إلى درجة الفناء».
فباتت مسألة الخلوة تؤرقه وهي ما يصطلح عليها الصوفية بالخلوة الأربعينية، واغتر فيها كما يقول بحديث منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- «من أخلص لله أربعين يوماً أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» (حديث موضوع لا يصح. انظر موسوعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 176/9). فتأثر به وظنه صحيحاً ولم يتحمل عناء البحث عن مدى صحة الحديث كما هو شأن معظم الصوفية.. وكانت البداية فاشترى ثلاثة أو أربعة كيلو غرامات من الدقيق، ولتراً واحداً من الزيت وقليلاً من السكر والعنب المجفف والملح، وبعض العلب من الحليب، ودخل مسكنه في الحي الجامعي بمدينة انطوني وكان يهيئ طعامه، يجعل جزءاً منه للإفطار بعد صلاة المغرب، وجزءاً آخر احتفظ به لوقت السحور وهو عبارة عن رغيف كان يصنعه لنفسه، واعتمد طريقة الإقلال حتى صار بعد أسبوعين يكتفي بربع الرغيف في المغرب وربع آخر في السحور مع حبات الزبيب المجفف، ثم يوزع وقته بين الصلاة والتلاوة والذكر والتأمل والتدبر..
وفي بداية الأسبوع الثاني عزم على ممارسة الذكر بالاسم المفرد الله.. الله.. الله..لم يكد يمر يومان حتى حصل ما لم يستطع تحمله في الساعات الأولى كما يقول: «فوجئت بموسيقا تنفجر في دماغي وكانت ألذ ما سمعت أذناي..!! ولها شبه بمقاطع السنفونيات الشهيرة..»
وثم بدأ يكثر تلاوة القرآن وكان هذا في الأسبوع الثالث حتى أصبح قلبه مشغوفا بالقرآن كما يقول: «كلما شرعت في قراءته أجهشت بالبكاء.. فأشعر ببرد اليقين والأمن والطمأنينة.. أجد أثرها اللذيذ في صدري وجوارحي وسائر أعضائي..» ثم يسرد قائلا: إنه في ليلة من الليالي يقرأ سورة لقمان وفي منامه تلك الليلة زاره رجل يناهز السبعين فاخبره أنه «الحكيم الترمذي» فقال له: أنا أتيتك لأفسر لك سورة لقمان وأعلمك الحكمة، ثم انطلق يفسرها له تفسيرا باطنياً غريباً فأخبره بعد انتهائه من تفسيرها قائلا: يا عبد الله: فإنك بدأت معراجك الروحي وإنك الآن في السماء الثانية على قدم عيسى؟!! ومرة أخرى رأى في منامه رجلاً عرفه بنفسه: أنا «محي الدين ابن عربي» جئت أعلمك كلمات واحتفظ صاحب التجربة بعبارات منها: «ولسان حالي قول روحي أنا لم أكن يوماً هنا أو في مكان..!!» ولا يخفى على ذي بصيرة أن العبارة لها علاقة بنظرية وحدة الوجود الصوفية.
ولما أشرف على نهاية أيام الخلوة أيقن الدكتور بأن ما يغمره من السعادة الباطنية والطمأنينة وما يسمعه من ألوان الذكر والموسيقا وما يحس به من حلاوة روحية واعتزال الناس، فغدا عقله مشغولاً كيف يحتفظ بهذه اللذة والكنز الثمين.
فعقد العزم على الإعراض عن الزواج والتفكير فقط في الانشغال بالذكر والعبادة والخلوة، إلى أن فكر في الهجرة إلى الهند أو تركيا ليعيش في فضاء الروح والتنعم بنسيم الإشراقات والإلهامات..؟ حيث يمكنه أن يحيا حياة صوفية بعيداً عن الأقارب والأحباب والأصدقاء لكن يقول: إن مشيئة الله تدخلت وحلت عنايته وانتشلته من أيدي الشياطين التي كانت على وشك الإلقاء به في أودية الهلاك والضلال.
والخلاصة كما يقول صاحب التجربة: إن الحالة النفسية التي كان يعيشها أشبه بالأحوال التي تعتري الصوفية وكثيراً ما تطغى الحال على العقل والعلم عند أهل التصوف.. ومن هاهنا دخل الداخل على أكثر السالكين وانعكس سيرهم حيث أحالوا العلم على الحال وحكموه عليه.
ثم يحمد الله أن طهره من أدران وشوائب هذا المنهج المنحرف في العبادة والسلوك ويقول: قد أعاد الله الإرادة إلى مجراها الطبيعي حيث العبودية لله ونهج المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى عقيدة أهل السنة والجماعة.
كتبه: أحمد عبد الرحمن الكوس
المصدر: موقع الصوفية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
التأصيل للدراسات ** الورد الصوفي، بكسر الواو، جمعه أوراد، يطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها، صباحاً بعد صلاة الصب...
-
13 شبهة للقبوريين والجواب عليها عبد الله بن حميد الفلاسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد (1) : ...
-
نؤمن بجواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وسلّم بشروط الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من ى نبي بعده، وعلى آله وصحبه . أما بعد، قال...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق