هذا العالم ( الأحسائي ) حذّره شيخه من السلفية .. فخالفه واعتنقها .. فكذبوا عليه ! 

بقلم : سليمان الخراشي


هو الشيخ العلامة أحمد بن حسن بن رشيد الأحسائي ، ( وُلد عام 1155هـ تقريبًا ، وتوفي عام 1257هـ ) ، وتتلمذ على يد أحد كبار المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله – السلفية ، في الأحساء : محمد بن فيروز . بل قال صاحب " السبل الوابلة " ( 1 / 126 - 127 ) : " رباه الشيخ محمد بن فيروز تربية بدنية و علمية ، فأقرأه في أنواع العلوم النقلية و العقلية، فبرع في الكل ؛ لما له من وفور الذكاء و الفهم و شدة الحرص و الإجتهاد ، ففاق رفقاءه ، حتى أن منهم من تتلمذ له بإشارة شيخه " .

وكان شيخه ابن فيروز يُحذره من دعوة التوحيد أشد الحذر ، إلا أن الحذر لا يغني من القدَر ! كما قال تعالى عن موسى عليه السلام الذي رباه فرعون على عينه : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزَنًا ) .

فلما دخلت جيوش الدولة السعودية الأحساء ، وفرّ – أو أُبعد - منها ابن فيروز وتلاميذه إلى العراق ، استأذن الشيخ أحمد شيخه في المجاورة في الحرمين الشريفين ؛ فأذن له ، وهذا من نعمة الله عليه ؛ إذ اختار المجاورة في الحرم على مرافقة شيخه ، ولعل " المفاصلة الشعورية " مع المناوئين للدعوة بدأت عنده منذ هذا الموقف الملفت ، والله أعلم .

وقبل مفارقة شيخه أوصاه ابن فيروز– كما يقول ابن حميد – " بوصايا ، منها قوله :
احــذر تُصـَـب بعــارض 
مـن مــحقِ أهــل الــعارض " !
يقصد أهل الدعوة السلفية ( والعارض إقليم يشمل عدة مدن ، منها : الدرعية ) .

إلا أن هذا التحذير لم يمنع الشيخ أحمد من التعرف على مبادئ الدعوة السلفية عندما دخلت مكة والمدينة في حكمها ؛ فوفقه الله تعالى لاعتناقها ، وقَبول الحق الذي جاءت به - ولله الحمد - .
وهذا مما لايرضاه المناوئون ، إذ كيف يُربى على أعينهم ؛ ثم تكون هذه خاتمة مطافه ! ولهذا زعم أحدهم كذبًا وزورًا أنه إنما اعتنق دعوة التوحيد مصانعة وتُقية ! يقول ابن حميد في " السحب الوابلة " ( 1 / 129 ) : " فما أمكن الشيخ إلا المصانعة معهم ، والمداراة لهم ، والمداهنة خوفًا منهم، و رجاء نفع الناس عندهم بجاهه ، فأقرأ كتبهم ، وقام معهم ؛ فبجّلوه و رأَسوه ؛ لاحتياجهم الشديد إلى مثله ، لتقدمه في العلوم ، ومعرفته بمذهب الإمام أحمد .. " . 

قلتُ : وهذا من أكاذيب ابن حميد ، الذي أغاظه اعتناق العلامة ابن رشيد لمبادئ الدعوة السلفية ، فحاول إيهام القراء بغير الحقيقة .
والعجيب أنه ناقض نفسه ، فقال في نفس الترجمة متحدثًا عن خروج أنصار الدعوة من المدينة : " فلما انقضت مدتهم ، وهربوا ، هرب معهم ، وتردد بينهم و بين الوزير إبراهيم باشا بن محمد علي باشا في الصُلح ، فما تم له ، ولامه إبراهيم باشا في الخروج معهم عن المدينة المنورة ؛ فاعتذر بأعذار واهية ، فعرض عليه أن يرده إلى المدينة كالمجبَر في الظاهر ، وهو طيب النفس في الباطن ، وإن نُسب إلى الغدر بإمساك الرسول ؛ فأبى ، وقال : لا أفارقهم إلا إذ انغلبوا ؛ فأغضب الباشا ذلك ، ولما أخذ بلادهم أمسكه وعذبه أنواع العذاب " .

ولهذا رد غير واحد من العلماء كذب ابن حميد .

فقال الشيخ سليمان بن حمدان – رحمه الله – في ترجمة أحمد بن رشيد من كتابه " تراجم متأخري الحنابلة " ( ص 49 ) تعليقًا على ماذكره ابن حميد : " هذا بعض ماذكره صاحب السبل الوابلة في ترجمته .. ولا شك أن هذا تحامل من المترجِم ، وإلا فصاحب الترجمة قد تبين له صحة دعوة الشيخ ، ولذا لم يُجب الباشا إلى طلبه ، ولو كان كما ذكر عنه ، أنه أظهر الموافقة ظاهرًا ، وهو بضد ذلك ، لكان يجيبه إلى طلبه ، ويكون ذلك أحب ما إليه ، ولترك مصانعة الإمام سعود ومن معه ، ومداراتهم ، ومداهنتهم ، كما زعم ؛ لأنه لا حاجة تدعو إلى ذلك ، وهذا لا يُظن بصاحب الترجمة ، بل قد شرح الله صدره للحق ، ووافق ظاهرًا وباطنًا ، فلهذا ناله ماناله من الأذى في الله ، فرحمه الله ورضي عنه " .

وقال الدكتور عبدالرحمن العثيمين في تعليقه على " السحب الوابلة " ( 1 / 130 ) : " قال ابن بشر في عنوان المجد : " وكان الشيخ العالم القاضي أحمد بن رشيد الحنبلي ، صاحب المدينة ، في الدرعية عند عبدالله ، فأمر عليه الباشا ، وعُزر بالضرب ، وقلعوا جميع أسنانه " ، فهل يُعقل بعد هذا أن يبقى مُصانعًا ؟! " .

قلت : ومما يؤكد كذب ابن حميد ، ماقاله الشيخ البسام في ترجمته في " علماء نجد " ( 1 / 459 ) : " ولما استولى الإمام سعود بن عبدالعزيز رحمه الله على المدينة ، والشيخ المذكور فيها ، فأكرمه الإمام سعود ، كعادته في إكرام العلماء ، وعينه قاضيًا فيها ، فباشر قضاءها بعفة ونزاهة وقوة ، وأخذ يُدرس العامة كتب ورسائل الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله ، ويشرح لهم منها خالص التوحيد ، ويُبين لهم عقيدة السلف ، وصار له دور كبير في ذلك ، حيث كان يُناظر المخالفين ويرد عليهم " .

ومما يؤكد كذب ابن حميد أيضًا : أن الشيخ أحمد بن رشيد لما نقله إبراهيم باشا إلى مصر بعد سقوط الدرعية ، عُرضت عليه قبل وفاته بقليل – أي بعد سقوط الدرعية بأكثر من 20 سنة – رحلة النصراني فتح الله الصائغ الحلبي ، الذي ادعى أنه زار الدرعية زمن الإمام سعود ! فعلق عليها بقوله : " نظر فيها نظر فيها الفقير إلى مولاه العلي، أحمد بن رشيدٍ الحنبلي ، فوجد صاحبها لم يصدق في شيء مما أخبر عنه، لا في وصف سعود ، ولا كلامه ولا أفعاله، ولا صدق من جهة وصف الدرعية .. ولنا صاحب من أكبر أهل الدرعية، ابن للشيخ الوهابي، موجود الآن تحت سفرية أفندينا الخديوي، اسمه إبراهيم ، ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، من المشايخ الركّع العبَّاد العلماء، لماعرضتُ عليه كلام هذا النصراني، رأى مثل ما رأيتُ، وكذَّبَه مثل ما كذبته " . انظر : " رحلة فتح الله الصايغ الحلبي " ، تحقيق : الدكتور يوسف شلحد ، الملحق ( ص 290 – 291 ) . 

فقد وصف الشيخَ محمد بن عبدالوهاب بشيخ الإسلام ! ولم يخشَ لومة لائم ، وليس هو – أثناء مقامه بمصر - في حاجة للمصانعة أو للمداهنة !

توفي ابن رشيد وقد ناهز الثمانين أو جاوزها وهو مُمتع بحواسه ، ما عدا ثقلاً قليلاً في سمعه ، سنة 1257هــ ، في مصر . رحمه الله رحمة واسعة ، ووفق مَن نشّـأَه قومه أو أهله على المعتقدات الباطلة أن يسير سيره ، ويصدع بالحق ، ولو خالفهم ، ويحذر أن يقول كما قال مَن ذمهم الله : ( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) .. والله الهادي .