التبرك المنحرف (بواعثه ومظاهره)
أكرم مبارك عصبان
إن من أهم بواعث الانحراف في كثير من المفاهيم يعود إلى وجود اللبس في المعنى، فيركب المبطلون عموم اللفظ ابتغاء تمرير معناه المنحرف، وتلبيسًا على الأمة التي تقبله بمعناه الصحيح، ويثمر هذا اللبس كتمان الحق، وقد حذر القرآن من هذا المسلك قال تعالى: ((وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة: ٤٢]، وقال تعالى: ((يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران: ٧١].
فالتوسل والتبرك وزيارة القبور والزهد مثلًا يستغلها أهل الباطل ويلبسون شركهم في مضامينها، وقد احتوت على معنى شرعي وآخر بدعي وثالث شركي، فيطلقونها ويقصدون بها المعنى المنحرف، ويلبسون عليه ثوب الأدلة للمعنى الصحيح، فيقع الناس في أمر مريج، وهكذا دخل أهل الباطل على العامة، وساغت مفاهيمهم، إذ لو أظهروا قصدهم لنكرهم الناس، فإنه لا يرضى الوقوع في الشرك أحد إلا أن يشاء الله فيعمدون إلى هذا المكر.
ومن الخلط البين هنا مفهوم التبرك الذي نريد أن نرفع اللبس ونزيل الإشكال على الانحراف الذي دخل عليه، ونسد الذرائع المفضية إلى الشرك بالله عز وجل تحت هذا المسمى، وهو بريء من لوثته.
وقبل أن نفيض في الحديث عن المعنى المنحرف يجدر بنا أن نوضح معناه وقسمه الصحيح الذي تؤازره النصوص، حتى لا نضاهي سبيل الغالطين الذين إن رأوا الوجه القبيح من الشيء ردوه كله، فتصيبهم معرة بغير علم، ويطيب لأهل الباطل في نقدهم إذ أنهم حين ردوه برمته ردوا المعنى الصحيح الذي يحتويه، وهذا سبيل من يبادر في الإنكار، ويفارق الإنصاف، كما هو الحال في الألفاظ المجملة
فالتبرك هو طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
إما أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم دلت عليه النصوص، مثل القرآن، قال الله تعالى: ((وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)) [الأنعام: ٩٢]، وصور بركته كثيرة، وإما أن يكون التبرك بأمر غير مشروع، كالتبرك بالأشجار والأحجار والقبور والقباب والبقاع ونحو ذلك، مما نبين حقيقته، من خلال هذه المحاور، ولكن نذكر أولًا أهم البواعث للوقوع في التبرك المنحرف وهي:
- اللبس المتعمد بينه وبين المشروع كما سبق.
- تبني أهل الغلبة لترويجه، وهم الذين لا يلوون على النصوص، وإنما يفعلون ما أشربته قلوبهم من كل شبهة.
- الجهل بدين الله، فلا يرى الجهلة بأسًا من مضاهاة المشركين.
- الفتنة بما يحصل من صلاح أو خير للمتبرك به، فيرتكس من لا حظ له من الحق في عبادة غير الله باسم التبرك.
- الشهوة الخفية من الجاه والمال الذي يتحصل به بعض من يحافظ على هذا التبرك المنحرف.
وبعد ذكر هذه الدواعي نأتي إلى وجودها في المظاهر عبر المعالم التالية:
أولًا: القرآن يسد الذرائع:
من التبرك الممنوع ما رآه الغالبون على الأمر في شأن أصحاب الكهف حيث بنوا عليهم مسجدًا، قال تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) [الكهف: ٢١]، وهذا فيه دلالة إلى الخطوات التي تقود إلى مثل هذا اللون من التبرك الممنوع، وهو كون أصحاب الكهف صالحين قد ظهرت لهم كرامة وآية ظاهرة جعلت فئة من الناس تبتدع هذه البدعة.
وفي تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) قال: (حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: إنهم المسلمون منهم، والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)[1] يحذر ما فعلوا، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها)[2].
وقال الحافظ ابن رجب في فتح الباري في شرح البخاري عند حديث (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا أبيائهم مساجد): (وقد دل القرآن على مثل ما دل عليه هذا الحديث، وهو قول الله عز وجل في قصة أصحاب الكهف: ((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)) فجعل اتخاذ القبور على المساجد من فعل أهل الغلبة على الأمور، وذلك يشعر بأن مستنده القهر والغلبة واتباع الهوى، وأنه ليس من فعل أهل العلم والفضل المنتصر لما أنزل الله على رسله من الهدى) [3] اهـ.
فمن البواعث على رواج التبرك المنحرف قيام أهل الغلبة والملك على العناية به، وهكذا ترى أن الذي يتولى هذه المخالفات هم ممن لا حظ له من العلم والهدى، وإنما هو اتباع الهوى، لأن هذا البناء يفضي إلى تعظيم المقبورين، والافتتان بهم، وصرف العبادة إليهم، كل ذلك باسم التبرك بهم، وقد قال النووي في شرح مسلم: (قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به فربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية)[4].
وصيانة لجناب التوحيد تأتي تعمية قبر دانيال التي أشار إليها ابن كثير آنفًا لئلا يفتتن به الناس بحجة التبرك بقبره، وقد وجدوه ميتًا كما قال أبو العالية: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرًا متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه[5].
والحق أبلج، ولكن أمرًا قد بدا للغالبين في إضلال العامة، فيحجبون نور الحق، ويردون أتباعهم في المهاوي فلا يسمعون لوعظ النصوص كما قال الأول:
كأنّي أُنادي صخرةً حين أعرضتْ من الصُّمِّ لو تمشي بها العصمُ زلَّتِ
ثانيًا: السنة والنكير على التبرك الشركي:
لقد كان للمشركين سدرة يتبركون بها، ويعلقون أسلحتهم عليها رجاء النصر على أعدائهم، فعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون حولها، وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: الله أكبر، هذا كما قالت بنو إسرائيل: ((اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [الأعراف: ١٣٨]، لتركبن سنن من كان قبلكم[6].
فهؤلاء بعض مسلمة الفتح ممن لم يفقه في الإسلام أراد أن ينيط السلاح بسدرة تبركًا كما للمشركين نظيرها فتعجب عليه الصلاة والسلام من هذا الجهل بالإسلام في مفهوم التبرك المنحرف، وأنه مضاهاة للمشركين.
والعلة دائرة مع معلولها فحيثما وجد هذا النوع من التبرك بالقبور أو الأشجار أو الأحجار أو العيون التي ينيطون بها حاجاتهم وجد النكير على أصحابه، وعلى هذه الجادة مشى كوكبة من الأعلام في الاستدلال بهذا النص نذكر أقوالهم على النحو التالي:
- قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: انظروا ـ رحمكم الله ـ أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها، ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها[7].
- وقال الحافظ أبو شامة: ومن هذا القسم أيضًا ما قد عم به الابتلاء من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وسرج مواضع مخصوصة من كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدًا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر[8].
- وقال العلامة ابن القيم: فإذا كان اتخاذ هذه الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله تعالى مع أنهم لا يعبدونها، ولا يسألونها فما الظن بالعكوف حول القبر والدعاء به ودعائه والدعاء عنده؟ فأي نسبة للفتنة بشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدعة يعلمون! ...
ومن له خبرة بما بعث الله تعالى به رسوله وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وأنهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغربًا شتان بين مشرق ومغرب [9]
وهكذا نجد أن من تأمل سيرة السلف التي تعكس التربية الصحيحة رأى البون الشاسع بينهم وبين من لم يبال بمواطن الريبة غرورا بنفسه، فأقام المشاهد والقباب والتوابيت والزيارات، وأدام العكوف عند ساكنيها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثًا: موقف الصحابة من التبرك بشجرة الحديبية:
لقد شهدت شجرة بالحديبية بيعة الرضوان، ذكرها القرآن قال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) [الفتح: ١٨]، وكان الصحابة يعرفونها حين يمرون بها في طريقهم للحج، وقد خفيت هذه الشجرة بعد ذلك، ووصف ابن عمر رضي الله عنهما حادثة خفاءها بقوله (كانت رحمة من الله)، قال الحافظ ابن حجر: (وبيان الحكمة فِي ذَلِك وهو أَن لا يحصل بِهَا اِفتِتان لِما وَقع تحتها مِن الخير، فَلو بَقِيت لَما أمن تعظِيم بعض الجهال لَها حتى ربما أَفضى بِهِم إلى اِعتِقَاد أَن لَها قوة نفع أَو ضر كما نراه الآن مُشَاهَدا فِيمَا هو دونها)[10].
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابْنُ عُمَرَ رَضِي الله عنهما قال: (رجعنا من العام المقبِل فما اجتمع منا اثنانِ علَى الشجرة التي بايعنا تحتها كَانت رحمة من الله).
وروى البخاري أيضًا عن طَارِقِ بن عبد الرحمن قال: (انطلقت حاجًّا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فضحك فقال: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها، وفي رواية: فعميت علينا.
فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم)[11].
قطعها:
وقد وردت بعض الروايات التي تفيد أن عمر رضى الله عنه أمر بقطعها منها ما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى قال: أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء أخبرنا عبد الله بن عون عن نافع قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها شجرة الرضوان فيصلون عندها قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فأوعدهم فيها وأمر بها فقطعت.
قال الحافظ في فتح الباري: إِسْنَاده صَحِيحٍ ا.هـ[12].
ورواه ابن أبي شيبة في المصنف قال حدثنا معاذ بن معاذ قال: ثنا ابن عون عن نافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن ناسًا يأتون الشجرة التي بويع تحتها قال فأمر بها فقطعت، ورجاله رجال الصحيح[13].
قال الألباني: فلعل الواسطة بينهما عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ولكنه أشار إلى ضعف الرواية لهذا الانقطاع[14].
قلت: وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ما يشير إلى الجمع بين روايتي قطع الشجرة وخفائها، فعن نافع قال: خرج قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأعوام فما عرف أحد منهم الشجرة واختلفوا فيها؛ قال ابن عمر: كانت رحمة من الله[15].
فالتعبير بالأعوام هنا يجمع بين الروايتين حيث لا يبعد أن القطع كان أولًا فخفيت، والله أعلم.
رواية الشيعة:
ومن عجب في هذا المقام استغلال بعض الشيعة هذا الخبر للنيل من عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والغمز في الحط من فضله، لأن هذا الخبر يتنافى مع دعوتهم لتعظيم المشاهد والصلاة عندها، والتبرك بترابها، وظنوا أن ذاك قدح، وإنما هو مدح، وتفردوا بزيادة زعموا أن عمر رضى الله عنه قال: (أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى، ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، ثم أمر بها فقطعت)[16].
وتلك شكاة ظاهر عن أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه عارها، وصدق من قال:
عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرتني بما هو عار
وبهذا يتبين لنا حسم مادة الشر الداخلة من بوابة التبرك المنحرف، وما أجمل ما قاله ابن القيم في كلامه القيم ونصه: فإذا كان هذا فعل عمر رضى الله عنه بالشجرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن وبايع تحتها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فماذا حكمه فيما عداها من هذه الأنصاب والأوثان التي قد عظمت الفتنة بها واشتدت البلية بها.
وأبلغ من ذلك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هدم مسجد الضرار ففي هذا دليل على هدم ما هو أعظم فسادًا منه كالمساجد المبنية على القبور فإن حكم الإسلام فيها: أن تهدم كلها حتى تسوى بالأرض وهي أولى بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور يحب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور كما تقدم، فبناء أسس على معصيته ومخافته بناء غير محرم وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعًا[17].
رابعًا: تصدي الفقهاء للغالطين في التبرك:
إن تحذير الأمة من التبرك المنحرف قطع للشرك ومادته، وقد صاغ فقهاء الإسلام هذه التعاليم في متون الأحكام، وشروحها، وزادوا الحواشي عليها، والفروع والفتاوى مما تغني شهرته عن التفصيل فيه، ونعطر المقام بشواهد يستدل بها على غيرها.
فالشافعي رحمه الله يجيب عن قول من قال ليس شيء من البيت مهجورًا! بأنا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت، وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنا نتبع السنة فعلًا أو تركًا، ولو كان ترك استلامهما هجرًا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرًا لها، ولا قائل به[18].
وما أجمل عبارة الشافعي (ولكنا نتبع السن فعلًا وتركًا)، ومن أصحابه الفقيه أبو موسى القائل: ولا يمسح القبر ولا يمسه فإن ذلك عادة النصارى.
قال النووي: وما ذكره صحيح لأنه قد صح النهي عن تعظيم القبور ولأنه إذا لم يستحب استلام الركنين الشاميين من أركان الكعبة، لكونه لم يسن استحباب الركنين الآخرين، فلأن لا يستحب مس القبور أولى والله أعلم[19].
ومن أصحاب الشافعي أيضًا الشيخ أبو محمد الجويني القائل بتحريم شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة عملًا بظاهر حديث (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ...) فيحرم شد الرحال زيارة القبور، وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها.
وأشار القاضي حسين إلى اختياره، قال الحافظ ابن حجر: ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت واستدل بهذا الحديث، فدل على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة[20].
وبالجملة فيتضح مما سبق أهمية الفرقان بين التبرك المشروع والتبرك المنحرف الذي يفضي إلى الإشراك، ومن سوّى بينهما فقد نادى على نفسه بالجهالة، ورعى حول حمى الشرك فيوشك أن يقع فيه:
فالقرآن حذر من اقتفاء سبيل أهل الغلبة من الجهلة بشرع الله في تعظيم قبور أصحاب الكهف، وأوضحت السنة خطورة اتخاذ القبور مساجد أتم إيضاح.
كما أوضحت السنة خطأ أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون بسدرة، وضلوا في ثلاثة أمور هي التعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة يعبد أصحاب القبور، وتعظم الأشجار والأحجار والآبار، فمن طلب البركة فمثله كمثل بني إسرائيل حين طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا، فأقسم صلى الله عليه وسلم أن مقالة هؤلاء كمقالة أولئك سواء بسواء.
فالقبور والأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر لها العامة، و يعلقون بها خرقًا، ويأخذون منها شيئا تبركًا، ويرجون قضاء حوائجهم وشفاء مرضاهم، وتمسحون بها، هو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله.
خامسًا: دمعة على التبرك:
ومن نظر إلى ما أصاب المسلمين في بلاد شتى من رواج هذا التبرك المنحرف لا يستطيع أن يغالب الأسى، ويدفع البكاء من جراء المهالك التي يتعاطاها الجهلة، فما أسرعهم إلى الإتيان إليها سعيًا حثيثًا، ثم يفيضون منها، بعدما علقوا عليها الحاجات، وعقدوا عليها الآمال.
ومما هالني الوقوف عليه مما نحن بصدده ما اختصت به بلاد حضرموت مثلًا مما طفحت الكتب بذكره، من تعظيم المشاهد والزيارات والأودية التي شهدت خلوات أقطاب الطريقة، وتراب القبور، والعيون، آثار الموتى وغير ذلك مما يعلقونه على التبرك.
وتفرد فصول من هذه الكتب في ذكر شعاب تريم، وأوديتها، وتربها، ومساجدها، ومقابرها المشهورة بالبركة كما يزعمون، ويقول القائل:
تريم بها منهم ألوف عـديـدة بساحة بشـار شموس الهدى قل
زيارة كــل منهم صـح أنهــــا لما شئت من نفع وجلـب محصـل
وإن قيل ترياق ببغـداد جربـا ففي ربع بشـار شفا كل معضــل
زيارة كــل منهم صـح أنهــــا لما شئت من نفع وجلـب محصـل
وإن قيل ترياق ببغـداد جربـا ففي ربع بشـار شفا كل معضــل
ويفردون فصلًا فيما يتعلق بفضل وبركة الجموعات العامة عند قبور الأولياء المشهورين، وقراء المولد عند ضرائحهم، وما الحديث عن زيارة قبر النبي هود عليه السلام المزعوم بحضرموت بالحديث المرجم، وإنما أشرنا إلى هذا حتى لا تصير المعالم معطلة من ذكر الشواهد، ويكون المقام خلوا من الفوائد، وليس مقصودنا الاسترسال[21].
فيا ليت هؤلاء القوم يعلمون بما جره التبرك المنحرف على التوحيد، ويفيئون إلى الحق، فإن للحق نورًا يعرف به، وعسى القيود التي وضعها الغالبون في أعناق الأتباع قد وهنت، فيسهل حلها، وينطلقون بعدها إلى رحاب السنة كما قال كثير:
فليتَ قلوصي عندَ عزَّةَ قيِّدتْ بحبلٍ ضعيفٍ غرَّ منها فندَّتِ
ولابد إذا من بيان سبيل المنحرفين في التبرك حتى تستبين لكل أحد، كما شد رسول الله في النكير على بعض مسلمة الفتح مع أنهم كانوا معه قبل حنين، إذ أن توحيد الكلمة إنما يكون على كلمة التوحيد، وغض الطرف عن الانحراف يجعله يتسلل لواذًا إلى أفراد المجتمع
والله نسأل أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] متفق عليه، رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، (1265)، ومسلم، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المسجد على القبور واتخاذ الصور فيها، (1212).
[2] تفسير ابن كثير، (5/147).
[3] فتح الباري، ابن رجب، (6/280).
[4] شرح صحيح مسلم، النووي، (5/13).
[5] وقد ذكر هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية، (2/40)، وقال: إسناده صحيح إلى أبي العالية، وذكر لها أيضًا طرقًا أخرى تؤكد أن القصة واقعة وصحيحة.
[6] رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم، (2180)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2180).
[7] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1 / 211).
[8] الحوادث والبدع، ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية بهدم عين وقت السحر ـ تسمى عين العافية ـ فتن بها العوام، فمن تعذر عليه نكاح أو ولد مضى إليها، وهدمها وأذن للصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسًا.
[9] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1 / 205).
[10] فتح الباري، ابن حجر (9 / 136).
[11] رواهما البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، (3930).
[12] انظر الطبقات الكبرى (2 /100)، فتح الباري (11/490).
[13] مُصنف ابن أبي شيبة، (2/375). وبهذا يتبين ما في الرواية المعضلة عند الفاكهي في أخبار مكة 7 /434 قال حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا ابن عون قال: «بلغ عمر أن الشجرة التي بويع عندها تؤتى، فأوعد في ذلك وأمر بها فقطعت».
[14] تحذير الساجد، الألباني، ص(112).
[15] الطبقات الكبرى، (2/205).
[16] انظر هذا في شرح نهج البلاغة، (1/59 – 60)، وشرحه لابن أبي الحديد (3 /122).
[17] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (2/210).
[18] انظر فتح الباري (3 / 474). وذكر الحافظ رواية ابن عباس أنه طاف مع معاوية فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت. ولله در عمر في قوله وهو يقبل الحجر الأسود: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.
[19] شرح المهذب، النووي(5 / 311).
[20] فتح الباري، ابن حجر، (3 / 65).
[21] تطلب هذه الفصول من المشرع الروي والنور السافر والفوائد السنية وغيرها من تراث التصوف بحضرموت.
[2] تفسير ابن كثير، (5/147).
[3] فتح الباري، ابن رجب، (6/280).
[4] شرح صحيح مسلم، النووي، (5/13).
[5] وقد ذكر هذه القصة ابن كثير في البداية والنهاية، (2/40)، وقال: إسناده صحيح إلى أبي العالية، وذكر لها أيضًا طرقًا أخرى تؤكد أن القصة واقعة وصحيحة.
[6] رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم، (2180)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2180).
[7] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1 / 211).
[8] الحوادث والبدع، ثم ذكر ما صنعه بعض أهل العلم ببلاد إفريقية بهدم عين وقت السحر ـ تسمى عين العافية ـ فتن بها العوام، فمن تعذر عليه نكاح أو ولد مضى إليها، وهدمها وأذن للصبح عليها ثم قال: اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسًا.
[9] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (1 / 205).
[10] فتح الباري، ابن حجر (9 / 136).
[11] رواهما البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، (3930).
[12] انظر الطبقات الكبرى (2 /100)، فتح الباري (11/490).
[13] مُصنف ابن أبي شيبة، (2/375). وبهذا يتبين ما في الرواية المعضلة عند الفاكهي في أخبار مكة 7 /434 قال حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا ابن عون قال: «بلغ عمر أن الشجرة التي بويع عندها تؤتى، فأوعد في ذلك وأمر بها فقطعت».
[14] تحذير الساجد، الألباني، ص(112).
[15] الطبقات الكبرى، (2/205).
[16] انظر هذا في شرح نهج البلاغة، (1/59 – 60)، وشرحه لابن أبي الحديد (3 /122).
[17] إغاثة اللهفان، ابن القيم، (2/210).
[18] انظر فتح الباري (3 / 474). وذكر الحافظ رواية ابن عباس أنه طاف مع معاوية فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت. ولله در عمر في قوله وهو يقبل الحجر الأسود: إنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.
[19] شرح المهذب، النووي(5 / 311).
[20] فتح الباري، ابن حجر، (3 / 65).
[21] تطلب هذه الفصول من المشرع الروي والنور السافر والفوائد السنية وغيرها من تراث التصوف بحضرموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق