الاثنين، 3 مارس 2014

البركة في حياة ابن تيمية

البركة في حياة ابن تيمية


محمد جمعة



 
البركة هي زيادة الخير والنماء إذا أنزلها الله  تعُمّ كل شيء: في المال، والولد والوقت والعمل، والإنتاج والزوجة، والعلم والدعوة، والدابة والدار والعقل والجوارح، والصديق والجار..
وقد ظهرت آثارها في حياة كوكبة من علماء الأمة، إذ قدموا في سنوات عمرهم القليلة ما عجز عنه جمع غفير من الناس، بفضل البركة التي حلت في أوقاتهم وأعمالهم.

البركة في حياة علماء السلف - ابن تيمية أنموذجًا -:

وإنك لتعجب أشد العجب من حال السلف وعظم ما أنجزوه وصنفوه؛ إلا أنك تجد أن هناك سرًّا في حياتهم وهو تمكنهم من حصول البركة في جميع شئونهم؛ فكانت البركة في حياتهم أنهم جمعوا من العلم الشيء الكثير حتى قيل: إن الإنسان لو أفنى عمره في قراءتها فلن ينتهي منها، فكيف درسوا هذا العلم وسجلوه؟!
ومن ذلك حال شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول عنه تلميذه ابن القيم: (وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وكتابه أمرًا عجيبًا؛ فكان يكتب في اليوم من التصانيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا)[1].
قال الذهبي أيضًا: جمعت مصنفات شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية فوجدت ألف مصنف ثم رأيت له أيضًا مصنفات أخر[2].
قال ابن حجر: (لاشك أن الشيخ الإمام العالم تقي الدين أبا العباس أحمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام المشهور بابن تيمية الحراني الحنبلي كان من العلم والدين والورع على جانب عظيم، وكان ذا فنون كثيرة ولاسيما علم الحديث والتفسير والفقه وغير ذلك، وله تصانيف شتى، وكان سيفًا صارمًا على المبتدعين، وكانت له مواعيد حسنة، وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة وكان أمارًا بالمعروف نهاءً عن المنكر، ونكب في آخر عمره نكبات وجرت عليه أمور في مسائل تكلم بها)[3].
بل لم يكن هذا العمل هو الوحيد عند شيخ الإسلام وإنما كان صاحب عبادة وتعليم وإنكار للمنكرات وجهاد، وسجن في آخر عمره، وخلف بعد وفاته مشروعًا عظيمًا لا يزال العلماء وطلبة العلم عيال عليه؛ فما السر في ذلك؟! لاشك أنه من البركة في الوقت والعمل.

قال شمس الدين الذهبي:

أفتى ودرس وله نحو عشرين سنة، وصنف التصانيف وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه وله من المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر[4].
فانظر كيف يستقيم له كل هذا العمل؟! ولاشك أن هذا من بركات الله على هذا العالم المتبحر في كل فن من فنون العلم بل في كل وجه من وجوه الخير.

يقول صاحب العقود الدرية:

(أما مبدأ أمره ونشأته فقد نشأ من حين نشأ في حجور العلماء، راشفًا كئوس الفهم، راتعًا في رياض التفقه ودوحات الكتب الجامعة لكل فن من الفنون، لا يلوي إلى غير المطالعة والاشتغال والأخذ بمعالي الأمور، خصوصًا علم الكتاب العزيز والسنة النبوية ولوازمها، ولم يزل على ذلك خلفًا صالحًا سلفيًّا متألهًا عن الدنيا، صينًا تقيًّا برًّا بأمه ورعًا عفيفًا عابدًا ناسكًا صوامًا قوامًا ذاكرًا لله تعالى، في كل أمر وعلى كل حال رجّاعًا إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقّافًا عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر بالمعروف لا تكاد نفسه تشبع من العلم فلا تروى من المطالعة ولا تمل من الاشتغال ولا تكل من البحث، وقلَّ أن يدخل في علم من العلوم من باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبوابًا، ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حذاق أهله، مقصوده الكتاب والسنة.
ولقد سمعته في مبادئ أمره يقول: إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل عليَّ فأستغفر الله تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحل إشكال ما أشكل، قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي[5].
ويقول: (ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه وجمعها وإصلاح ما فسد منها ورد ما ذهب منها ما لو ذكرته لكان عجبًا، يعلم به كل منصف أن لله عناية به وبكلامه، لأنه يذب عن سنة نبيه  تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)[6].
وقد مده الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك والفهم والتعمق والتأمل، والصدق والإخلاص، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد من الناس: إنه لم يكن يحفظ شيء فينساه.
عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله، وكان ذا فراسة وكان مستجاب الدعوة، وله كرامات مشهودة، كان: كريمًا، سخيًّا، ورعًا زاهدًا متواضعًا، صابرًا، خلوقًا فاضلًا مجاهدًا، فصيحًا وكثير العبادة، ويؤثر الفقراء والمساكين والمحتاجين على نفسه في الطعام واللباس، وقوة الاحتمال في سبيل الله ورسوله، حضّ على جهاد المغول وحرّض الأمراء على قتالهم، وكان له دور بارز في انتصار المسلمين في معركة شقحب التي وقعة سنة 702هـ وانتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا، وكان ابن تيمية يقول للأمراء والناس آنذاك: إنكم في هذه المرة منصورون.
فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله.
فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا[7].
وليس هذا فقط هو جهد ابن تيمية بل كان قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في مصالح المسلمين، وقد جرد سيفه لقتال التتار فجمع الجموع لملاقاتهم، ووحد صفوف المسلمين لحربهم، وخاض المعارك ونصره الله عليهم.
إن دراسة البركة في حياة العلماء الربانيين مما يحتاج إليه العالم والمتعلم والمربي، والداعية إلى الله، وأصحاب الأعمال، وأصحاب الأموال وغيرهم من الأمة الإسلامية، يحتاجون إليه وخاصة الدعاة والعلماء وطلبة العلم، وحتى يتمثلوا بقول الله تعالى: ((وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)) [مريم: ٣١]، في أي مكان وزمان؛ فالبركة جعلها الله في تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله؛ فكل من جالسه أو اجتمع به نالته بركته، وسعد به مصاحبه.
وإن الناظر في أيامنا هذه ليلحظ أن تلك البركة قد قلت أو تلاشت من حياة الناس، فقد روى الترمذي في سننه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمة بالنار)[8].
وقال في تحفة الأحوذي: قال التوربشتي رحمه الله: يحمل ذلك على قلة بركة الزمان، وذهاب فائدته في كل مكان، أو على أن الناس لكثرة اهتمامهم بما دهمهم من النوازل والشدائد وشغل قلبهم بالفتن العظام، لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم.انتهى.
ومع هذا فإن فضل الله تعالى واسع، ولا يخلو زمان من الأزمنة من طائفة تسير على جادة السابقين، وتحمل لواء السلف الصالحين، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى وأن يفتح علينا بركات من السماء والأرض.
[1] الوابل الصيب، ابن القيم، ص(106).
[2] الشهادة الزكية، مرعي الكرمي، ص(43).
[3] تقريظ لابن حجر على الرد الوافر، صفي الدين البخاري، ص(17).
[4] مجلة المنار، محمد رشيد رضا، (12/41).
[5] العقود الدرية، ابن عبد الهادي، ص(21).
[6] المصدر السابق، ص(82).
[7] مدارج السالكين، ابن القيم، (2/489).
[8] رواه الترمذي، كتاب الزهد، باب تقارب الزمان وقصر الأمل، (2332)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2332).

جميع الحقوق محفوظة لموقع الصوفية

www.alsoufia.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق