قالوا: لا تُقاس الاستغاثة بالأنبياء والأولياء ودعائهم والنذر لهم على عبادة الأصنام والأحجار والأوثان التي لا مكانة لها ولا احترام لها عند الله ولا تضر ولا تنفع

ويُجاب عن هذه الشبهة بما يلي:
1- إن المشركين الذين وردت فيهم تلك النصوص ليسوا كلهم يعبدون الأصنام، فإن منهم من يعبد الأولياء والصالحين، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، ومنهم من يعبد الأحجار وهي في الأصل صور رجال صالحين، والأدلة على ذلك كثيرة من القرآن الكريم، ومن أوضحها قوله تعالى: ]قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[.
فهذه الآية في العقلاء دون شك وإن اختلف المفسرون في تعيينهم:
‌أ- فقيل: الجن، فقد روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كان نفر من الإنس يعبدون نفرًا من الجن، فأسلم النفر من الجن واستمسك الإنس بعبادتهم، فنزلت: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ[). وفي رواية: (فأسلم الجنيون، والإنس الذين كانوا يعبدون لا يشعرون).
‌ب- وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود أنها نزلت في الملائكة، ومثله عن عبد الرحمن بن زيد.

‌ج- وفي رواية أنهم: عزير وعيسى وأمه والملائكة، رُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.

فهذه الأقوال المنقولة عن السلف في تفسير هذه الآية ليس بينها اختلاف؛ لأنها عامة تشمل كل هذه الأقوال، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم إنه ليس مراد من فسرها بالجن أو الملائكة أنها خاصة بذلك، وإنما مراده مجرد التمثيل.
قال شيخ الإسلام: (وهذه الأقوال كلها حق، فإن الآية تعم كل مَن كان معبوده عبادًا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، والسلف رضي الله عنهم في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ: الخبز؟ فيريه رغيفًا، فيقول: هذا، فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه.
وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع من شمول الآية للنوعين، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوًا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، وهذا موجود في الملائكة والجن والإنس).
فمعنى الآية: أن الذين يدعوهم المشركون هم أنفسهم يتقربون إلى الله بالطاعات ويرجونه ويخافونه، فكيف يجوز دعاؤهم؟ وهذا كقوله تعالى: ]أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء[.
وأما القول بأنه لا تعم إلا الذين كانوا أحياء في وقت النزول – وهم الملائكة والجن؛ لأنهم هم الذين يتقربون ويرجون ويخافون وقت نزول الآية، وأمَّا الذين ماتوا مثل عزير ومريم فلا تشملهم – فقيه نظر؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الآية تذكر صفتهم في حال حياتهم فقد كانوا يتقربون إلى الله تعالى، ويمكن أن يقال أيضًا: إنهم ما زالوا يتقربون كما ورد أن موسى يصلي في قبره، وأما الرجاء والخوف فلا ينقطع إلا بعد دخول الجنة يوم القيامة.
فتبيّن بهذا أن الآية في المعبودين من العقلاء من دون تخصيص صنف دون صنف. وقد اتفقت أقوال المفسرين على أن هذه الآية في المدعوين العقلاء وليست في الأصنام: يقول الرازي: (وليس المراد: الأصنام؛ لأنه تعالى قال في صفتهم: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ[، وابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام ألبتة).
ومما يدل على أن المشركين الذين نزل فيهم القرآن يعبدون غير الأصنام ما بيَّنه الله سبحانه وتعالى في كتبه من الشرك بالملائكة، والشرك بالأنبياء، والشرك بالصالحين، والشرك بالكواكب، والشرك بالأصنام، والشرك بالجن، وأصل ذلك كله الشرك بالشيطان. وقد سبق معنا بيان أنواع الشرك التي كانت موجودة في الجاهلية، واستدللنا لكل هذا الأنواع من الشرك بدلالات القرآن والسنَّة ومن أخبار العرب وتاريخهم بما لا مزيد عليه.
2- لو سلّمنا أن تلك النصوص وردت في الأصنام فقط على سبيل التنزل فإننا نقول: إن تلك الأصنام هي تماثيل لقوم صالحين؛ فقد ثبت في: ود وسواع ويغوث... إلخ، إنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح، كما ثبت أن اللات رجل يلت السويق للحجيج. وقد تقدم معنا ذكر ذلك كله بالتفصيل.
فعلى هذا فعبادة الأصنام ترجع في الحقيقة إلى عبادة الصالحين فهي الأساس في العبادة وأصل الفتنة ورأس البلية. وقد ذكر كثير من علماء الإسلام هذا المعنى وبيَّنوا أن عبادة الأصنام ترجع إلى عبادة العقلاء من الملائكة والأنبياء والصالحين أو الكواكب.
3- إن تلك النصوص عامة شاملة لجميع المدعوين من دون الله سواء كانوا من الأصنام الجامدات أو العقلاء؛ لأن تلك النصوص وردت بألفاظ العموم فتشمل الجميع.
وبعض تلك النصوص جاءت بألفاظ خاصة بالعقلاء، نحو: ]وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[. وليست هذه الآية في الأصنام كما يزعمه من لم يتدبر؛ لأن (الذين) لم يخبر به إلا عن العقلاء؛ ولأن الأصنام من الأخشاب والأحجار لا يحلها الموت.
وبهذا يتبين أن النصوص عامة لكل المدعوين من العقلاء وغيرهم، ومن ادّعى التخصيص بغير العقلاء فعليه البرهان ولا برهان له يدل على الفرق بين العقلاء وغيرهم؛ (لأن الحكم واحد إذا حصل لمن يعتقد في الولي والقبر ما كان يحصل لمن كان يعتقد في الصنم والوثن، إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات، بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئًا يختص به سبحانه، سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية أو أطلق عليه اسمًا آخر، فلا اعتبار بالاسم قط...
وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، والاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور...).
وإنما قلنا بأن الآيات جاءت بألفاظ العموم؛ لأنها جاءت بصيغة الموصول وهي من صيغ العموم، كقوله: ]وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ[، وقوله: ]وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ[، وقوله: ]قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ[.
فهذه الموصلات في كلام الله وكلام رسوله واقعة على كل مدعو ومعبود نبيًّا كان أو ملكًا أو صالحًا، إنسيًّا أو جنيًّا، حجرًا أو شجرًا متناولة لذلك بأصل الوضع، فإن الصلة كاشفة ومبيّنة للمراد، وهي واقعة على كل مدعو من غير تخصيص، وهي أبلغ وأدل وأشمل من الأعلام الشخصية والجنسية.
وهذا هو الوجه في إيثارها على الأعلام، وشرط الصلة أن تكون معهودة عند المخاطب، والمعهود عند مَن يعقل مِن أصناف بني آدم أن الأنبياء والملائكة والصالحين قد عبدوا مع الله وقصدهم المشركون بالدعاء في حاجاتهم.
فتبيَّن مما سبق بطلان القول بأن النصوص واردة في الأصنام، واتضح أنها عامة لكل معبود من دون الله تعالى.
( المرجع : رسالة : الشرك في القديم والحديث ، أبوبكر محمد زكريا ، 3 / 1258-1268) .