الاثنين، 3 مارس 2014

علماء الجزائر والطرق الصوفية

الـمُختَصر الـمُفيِد لِـ«مَوَاقِفُ الـمُصْلِحِينَ الجَزَائرِيِّين مِنْ رُسُومِ الـمُتَصَوِّفِينَ وَأَوْضَاعِ الطُّرقيِّينَ» 

كتبه / سمير سمراد 
إمام خطيب بالجزائر العاصمة والمشرف العام على موقع «مصابيح العلم»


الحمدُ لله، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه ومَن والاه، أمَّا بعد:
فَهذَا مُختصرٌ مُفيدٌ -إن شَاء الله- للكتاب الموسُوم بـ: «مَوَاقِفُ الـمُصْلِحِينَ الجَزَائرِيِّين مِنْ رُسُومِ الـمُتَصَوِّفِينَ وَأَوْضَاعِ الطُّرقيِّينَ» للأُستاذ الشَّيخ سمير سمراد (حفظه الله)، رأيتُ اختصَارهُ ليكُونَ سَهْلَ التَّناوُل، وليستفيدَ منهُ مَنْ لمْ تَسْمَ هِمَّتُهُ لقراءةِ الكُتُب المُطَوَّلات


فقُمتُ -بعون الله- بتَجريدِ النُّقولات عن أئمَّة الإصلاَح مِنْ «جمعيَّة العُلماء المسلمين الجزائريِّين»، رجَاءَ أن يَتِمَّ بها الغرضُ المَقصود، وهو: تَنبِيهُ الغَافلين، وإرشادُ الحَائرين، وقَمْعُ المُعاندين الضّالِّين، فَكلامُ العُلماء فيهِ النُّصحُ الخالِصُ والدَّلالةُ على النَّهجِ المستقِيم، وفيهِ البَركة والخيرُ العَميم، كَمَا قَالَ النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «البَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ»، أسأل الله تعالى القَبول، إنَّه خيرُ مَسْؤُول، وللإجابة مَأْمُول، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين. [أحدُ الإخوة المُجِدِّين]
* بَـدْءُ تَفَرُّق المسلمين في الدِّين:
يقول الإمام الإبراهيمي (رحمه الله): «أقام سلفُنا الصّالحُ دينَ الله كما يجب أن يُقام، واستقاموا على طريقته أتمَّ استقامة، وكانوا يَقِفُونَ عند نُصوصه مِن الكتاب والسُّنَّة، لا يتعدَّونها، ولا يتناولُونَها بالتَّأويل.
ثمّ توسّعت الفُتُوحات وبَسَطَ الإسلامُ ظلَّهُ على كثيرٍ من الممالك.... ودَانَتْ له كثيرٌ من الأُمَم، و في كلِّ أمّةٍ طوائفُ دخلت في الإسلام وهي تَحملُ أوزارًا من بقايا ماضيها، وما كادت هذه المجموعات البشريّة تمتزجُ ويَفعلُ الإسلامُ فيها فِعْلَهُ، حتّى ظهرت عليها أَعْرَاضُ التّفرُّق»، ويقول: «وكان لترجمة الفلسفة اليُونانيّة والحِكمة الفارسيّة والهندية أَثَرٌ قويٌّ في تَعَدُّدِ المذاهب الكلاميّة والصّوفيّة ... وهذا هو مَبْدَأُ التّفرّق الحقيقيّ في الدِّين» [«آثار الإبراهيمي» (1/163-164)]. 
* حُدُوث بِدْعَة «التّصوّف»:
أوضح الشَّيخ مباركٌ الميليّ (رحمه الله) [1898م - 1945م] أنَّ: «التّصوّف» يونانيّ الأصل، وأنَّ هذا اللَّقَب «لا أصل له في العربيّة، وهو الحقّ، فإنّ التّصوّف مُعَرَّبُ تيو صوفية: (théosophie)، وهو لفظٌ يونانيّ مُرَكَّبٌ مِن «تـيو» بمعنى الإله، و«صوفية» بمعنى الحكمة، وهي طريقةٌ رياضيّةٌ لمعرفة الله، يَزعم أهلُها مناجاته ووَحْيَهُ إليهم ونَيْلَهُمْ منه عِرْفَانًا ومِنَنًا خاصّة، وأنّه يَتَجَلَّى لهم في الكون أو الطّبيعة حتّى يَمتزجوا به، ومذهبُهم وحدة الوجود، ولمُرِيديهم درجاتٌ في السّلوك إلى هذه الغاية، هذا هو التّصوّف الّذي عرفه اليونان والهنود قديمًا، ثمّ اسْتَقَتْ منه المسيحيّة حتّى إذا انتشرت بأوربا غَطَّتْهُ فتُنُوسي بها إلى أن أَحياه بالتّآليف العديدة «سْبِينُوزَا بروخ» اليهوديّ المتوفَّى بمدينة لاهاي سنة : 1077 [1677م] فصار التّصوُّف معروفًا اليوم بأوربا»، وقال أيضًا: «ودخلت لفظةُ «التّصوّف» اليونانيّة إلى العربيّة لمّا تُرجمت كتب اليونان والهند في الدَّوْر العبّاسي لاسيّما أيّام المأمون» [«تاريخ الجزائر في القديم والحديث» الجزء الأول والثاني، ص: (714- 715)]، ونَقَلَ عن الشَّيخ محمّد رشيد رضا قوله : «والكلمة يونانية، معناها الحكمة، والصّوفيّة الحقيقيّون كلّهم طلّاب حكمة، وهم مِن صنف الفلاسفة الإشراقيّين عند اليونان، وذلك أنّه لمّا دخلت الفلسفة اليونانيّة البلاد الإسلاميّة أَخَذَ كلُّ أُناسٍ منها ما يُناسِبُ استعدادهم فعُـنِيَ بعضُ النّاس بالعلوم النّظريّة، وبعضهم بالعلوم العملية مع العمل، وذلك قسمان: ما يتعلّق بالظّاهر كالطّبّ، وما يتعلّق بالباطن كرياضة النّفس وتهذيب الأخلاق، وهذا هو موضوع التّصوّف، ويعرف أهلُ التّاريخ أنّ هذا التّصوّف قديم العهد في البشر، فهو معروفٌ عند بَرَاهِمَةِ الهند إلى اليوم، وعند أهل الصِّين أيضًا، ومِن الصِّينيّين طائفةٌ يُسمّون أهل الطّريقة لهم شَارَات كشَارَات أهل الطّريق وأَعلامٌ يكتبون عليها كلمات دينيّة، كالّذي تراه كلّ يومٍ عند أهل الطُّرُق»[«عودٌ إلى الحديث عن التّصوّف -1-»: «الشّهاب»، المجلد (8)، جزء شعبان (1351هـ)، (ص: 653)، وكلام الشَّيخ رشيد من : «تاريخ الأستاذ الإمام» (1/109- 100)]
وبهذا قرّر الشَّيخ مبارك الميليّ: «حُدُوث التّصوّف وكونَهُ طَارِئًا في الإسلام ولا نزاع في ذلك، لأنَّ هذا اللّفظ لم يستعمله رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) في أحاديثه، ولا بلغنا استعمالُهُ عن صحابيٍّ، ولا وُصِفَ به صحابيّ ولا تابعيّ... وإنَّما حَدَثَ بعد القرون الثّلاثة المشهود لها بالخيريّة» [«عودٌ إلى الحديث عن التّصوّف -2-»: «الشّهاب»، المجلد (9) الجزء الأول، غرة رمضان 1351هـ، جانفي 1933م، (ص:35)].
* انكشافُ أمر الصُّوفيّة، وذَمُّ العُلماء لهم:
يقول الإمام الإبراهيمي عن المذاهب الصّوفيَّة، هي: «شيءٌ غامضٌ يُسْعَى إليه بوسائل غامضة»، ويقول مُعلِّلاً: «لأنّها تَرجعُ في أصلها إلى نَزْعَةٍ غامضةٍ مُبْهَمَةٍ، تستّرت في أوّلِ أمرها بالاِنقطاع للعبادة والتّجرُّد من الأسباب والعُزُوف عن اللَّذَّات الجسدية والتّظاهر بالخصوصيّة»، ويقول: «وكانت تَأخُذُ مُنْتَحِلِيها بشيءٍ مِن مظاهرِ المسيحيّة، وهو التَّسليمُ المطلق، وشيءٍ مِن مظاهر البَرْهَمِيَّة وهو تعذيبُ الجسد وإرهاقُه توصُّلاً إلى كمال الرُّوح زعموا. وأين هذا كُلُّهُ مِن روح الإسلام وهَدْيِ الإسلام؟ ولم يَتبيَّن النّاسُ خيرَها مِنْ شَرِّهَا لِمَا كان يسُودُها مِن التكتُّم والاحْتِرَاس»، «حتّى جرى على ألسنة بعض مُنْتَحِليهَا كلمات ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار، فَرَابَ أئمَّةَ الدِّين أمرها، وانفتحت أَعْيُنُ حُرَّاس الشّريعة فوَقَفُوا لها بالمرصاد»[«آثار الإبراهيمي» (1/168)]
* ابْتِدَاعَاتُ الصُّوفيّة:
يقول الإمام الإبراهيمي: «فَلاَذَ مُنْتَحِلُوهَا بفُرُوقٍ مُبْتَدَعَة يُريدون أن يُثبتوا بها خُصوصيَّتهم كالظَّاهِر والباطن، والحقيقة والشّريعة، إلى ألفاظٍ أخرى مِن هذا القبيل لا تَخرُجُ في فَحْوَاهَا عن جَعْلِ الدِّينِ الواحِدِ دِينَين» [«آثار الإبراهيمي» (1/168)] ، ويقول: «والصُّوفيَّةُ يَقولون إنَّ علومهم هي لُبابُ الشّريعةِ وحقيقتُها» [«آثار الإبراهيمي» (1/164)]
* الصُّوفيّةُ تَسْتَعْلِنُ بمذهبها:
يقول الإمام الإبراهيمي: «وما كاد السَّيْفُ الّذي سُلَّ على الحَلَّاج وصَرْعَى مَخْرَقَتِهِ يُغْمَدُ، ويُوقِنُ القوم أنّهم أصبحوا بمَنْجَاةٍ مِن فَتَكَاتِهِ، حتّى أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وأبْدَوْا للنَّاسِ بعضَ مَكْنُونَاتِ أَسْرَارِهم مَلفُوفةً في أغشيةٍ جميلةٍ مِن الألفاظ، ومَحفوفةً بظواهرَ مقبولةٍ مِن الأعمال» [«آثار الإبراهيمي» (1/167)]، ويقول: «وحاولوا أن يَصِلُوا نِحْلَتُهمْ تلك بعُجَرِهاوبُجَرِها بصاحبِ الشّريعة أو بأحدِ أصحابه فلم يُفلحوا، وافتضحت حِيلَتُهُم وانقطع الحبل مِن أيديهم، فرجعوا إلى ادِّعَاءِ الكَشْفِ وخَرْقِ الحُجُب والاطِّلاع على ما وراء الحِسّ، إلى آخر تلك «القائمة» الّتي لا زِلْتَ تَسمعُها مِن أفواه العامّة وتَجدُها في مُعتقداتهم» [آثار الإبراهيمي (1/168)]
وقال الشَّيخ أبو يعلي الزّواوي (1862م-1952م) عن المتصوّفة : «إنَّهم يُثْبِتُون الخيالات والأوهام المتقدِّمة [عقيدة إِسْنَاد الحوادث إلى الأولياء الأموات أو لأهل الدِّيوان ...] بالكَشْفِ الّذي يقولون به، وأصولُ الشّريعة وفروعُهَا لا تقولُ به. ولنا - وللهِ الحمد - شريعةٌ واضحةٌ .. ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام:153]... وعليه فالمتصوِّفَةُ المسلمون مُقَيَّدون بالشّريعة ولا سبيلَ إلى غيرها إلَّا بالمُرُوقِ مِن شريعتهم»، وقال: هذا هُوَ « الوَهْمُ والضَّلالُ الباطنيُّ الباطِل الّذي وقع فيه المتصوِّفةُ أكثر مِن غيرهم» [مقالة: «التّصوّف؟؟»: «البصائر»، العدد (7)، (21) ذو القعدة 1354هـ، (14) فيفري 1936م، (ص:4-5)]. 
* شُبهاتٌ يتعلَّقُ بها المتصوِّفة:
يقول الإمام الإبراهيمي: «ونحنُ نعلمُ مِن طريق التّاريخ لا مِن طريق الشُّهرة العامّة أنَّ بعض أصحاب هذه الأسماء الدّائرة في عالم التّصوّف والطُّرُق كانوا على استقامةٍ شرعيّةٍ وعملٍ بالسُّنَّة ووُقوفٍ عند حدود الله، فهم صالحون بالمعنى الشّرعيّ، ولكنَّ الصَّلاح لم يَأْتِهِم مِن التّصوّف أو الطُّرُق وإنّما هو نتيجةُ التّديُّن، وفي مِثلِ هؤلاء الصّالحين الشّرعيِّين إنّما نختلف في الأسماء، فنحن نُسمِّيهم صالحي المؤمنين وهم يُسمُّونهم صوفيّة» [«آثار الإبراهيمي» (1/174-175)]، وقريبًا من هذا الجواب، يجيبُ الشَّيخ مبارك الميلي أحدَ المتصوِّفين بقوله : «إنْ كنتَ تعني أنّ في الصّوفيّة أهل علمٍ ودينٍ يَستحقّون الثَّناء فهذا لا أُنازعك فيه، وقد أثبتُّ منهم سُنّيِّين وذكرتُ منهم الجُنَيْد وشيئًا مِن كلامه، ووَصْفُ الرّجلِ بالسُّنَّة أَبْلَغُ الثّناء عندي، فإن وافَقْتَنِي فما هذه الجَعْجَعَة؟ وإن رأيتَ أنّ لفظة «صوفي» أشرف مِن كلمة «سُنِّي» فلكُم دينكم ولي دين» [«عودٌ إلى الحديث عن التّصوّف -2»: «الشّهاب»، المجلد (9)، الجزء الأول، غرة رمضان 1351هـ، جانفي 1933م، (ص:33)]
ماذا أنتج لنا التّصوّف؟:
ثم يَرجع الإمام الإبراهيمي إلى هذه النِّحْلَة، ويصرح بعدم شرعيّتها، وأنّها دخيلةٌ، فيقول: «ثمَّ ما هذا التّصوّف الَّذي لا عهدَ للإسلام الفطري النَّقيِّ به؟ إنَّنَا لا نُقِرُّهُ مظهرًا من مظاهر الدّين أو مرتبةً عُليا من مراتبه، ولا نعترف مِن أسماء هذه المراتب إلاَّ بما في القاموس الدِّينيّ: النُّبوَّة والصّدِّيقيَّة والصُّحبة والاِتّباع ثمّ التّقوى الَّتي يَتفاضلُ بها المؤمنون، ثمّ الوَلاية الَّتي هي أثرُ التّقوى، وإن كنَّا نُقِرُّهُ فلسفةً روحانيّةً جاءتنا مِن غير طريق الدِّين ونُرغمها على الخضوع للتّحليل الدّينيّ» [«آثار الإبراهيمي» (1/175)]، ثمّ يَنتقد الإمام الإبراهيميّ هذه التَّسمية، ولا يَعترف بها مِن أصلها، بعد أن انتقد المسمَّى وكشف عن سَوْأَتِهِ، يقول : «وهل ضاقت بنا الألفاظُ الدّينيّة ذات المفهوم الواضح والدِّقَّة العجيبة في تحديد المعاني حتّى نستعير مِن جَرَامِقَةِ اليونان، أو جَرَامِقَة الفُرس هذه اللّفظة المُبهمة الغامضة الَّتي يتَّسع معناها لكلِّ خير ولكلِّ شرّ؟» [«آثار الإبراهيمي» (1/175)]،ثمّ يُشدّد في إنكار هذا المصطلح الدّخيل يَنبوعِ الفتن، والَّذي جلب شرًّا عظيمًا على الأمّة، فيقول: «ويمينًا، لو كان للمسلمين يوم اتّسعت الفتوحات، وتكوَّنت المعامل الفكرية ببغداد ديوانُ تفتيش في العواصم ودُرُوب الرّوم ومنافذ العراق العجمي، لكانت هذه الكلمة من المواد ّالأوّليّة المحرَّمة الدّخول...؟» [«آثار الإبراهيمي» (1/175)] 
ويقول: «فقد أصبحت هذه الكلمة الّتي غفلوا عنها أُمًّا وَلُودًا تَلِدُ البَرَّ والفاجر، ثمّ تَمَادَى بها الزّمن فأصبحت قلعةً محصنةً تُؤْوي كلّ فاسق وكلّ زنديق وكلّ مُمَخْرِق وكلّ داعِر وكلّ ساحِر وكلّ لصّ وكلّ أفَّاكٍ آثيم، وانظر «طبقات الشّعرانيّ الكبرى» وما طُبع على غرارها من الكتب تجد أصنافَ المُحْتَمِينَ بهذه القلعة - وهم ببركة حمايتها - طُلَقَاء مِن قُيود الشَّريعة»، ليقول: «أَفَيَجْمُلُ بجنود الإصلاح أن يدَعُوا هذه القلعة تَحْمِي الضّلال وتُؤْوِيهِ أم يَجِبُ عليهم أن يَحملوا عليها حَمْلَةً صادقةً شعارُهُم «لا صُوفيّةَ في الإسلام» حتّى يَدُكُّوها دكًّا وينسفونها نَسْفًا ويَذَرُوها خاويةً على عروشها؟»[«آثار الإبراهيمي» (1/175)].
اتِّحاد الصُّوفيّة مع الباطنيّة:
يقول الإمام الإبراهيمي: «ثمّ أَمِرَ أَمْرُ هذه الصُّوفيّة وتَقَّوَت على الزّمن، والتقت مع الباطنيّة وغيرها مِن الجمعيّات الّتي تبني أمرَها على التَّستُّر على طبيعةٍ دسَّاسَةٍ وعِرْقٍ نزّاع ومِزَاجٍ مُتّحد، واختلطت تعاليم هذه بتعاليم تلك، وتَشَابَهَت الاِصطلاحات وابْتُلِيَ المسلمون مِن هذه النِّحَل بالدَّاء العُضال، وقد اتَّسع صدرُها بعد أن تعدّدت مذاهبُها، واختلفت مَشاربُها في القرون الوسطى والأخيرة مِن تاريخ الإسلام فانضوى تحت لوائها كلُّ ذي دِخْلَةٍ سيِّئةٍ وعقيدةٍ رديئةٍ حتّى أصبح التّصوّف حيلةَ كلِّ محتال، وحيلةَ كلِّ دجّال» [«آثار الإبراهيمي» (1/168)]
القَوْلُ الجامِعُ المُحَرَّرُ في الصّوفيَّة:
يقول الإبراهيميّ: «والصُّوفيّة، أو الطُّرقيّة - كما نُسميِّها نحن في مواقفنا معها- هي نَزْعَةٌ مُسْتَحْدَثَةٌ في الإسلام لا تخلو مِن بُذُورٍ فارسيّة قديمة، بما أنَّ نشأة هذه النَّزْعة كانت ببغداد في النّصف الثّاني من القرن الثّاني للهجرة، واصطباغ بغداد بالألوان الفارسيّة في الدِّين والدّنيا معروف، وتدسّس بعض المتنطِّعين مِن الفُرْس إلى مكامن العقائد الإسلاميّة لإفسادها، لا يقلُّ عن تدسّس بعضهم إلى مجامع السّياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النِّحْلَة في ظاهر أمرها التّبتّل والاِنقطاع للعبادات الّتي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النّفس من طريق الرّياضة بِفَطْمِهَا عن الشّهوات حتّى تصفو الرُّوح وتشِفَّ وترقّ وتتأهّل لمشارفة الملأِ الأعلى، وتكون بمقربةٍ من أفق النّبوّة، وتتذوّق لذّة العبادة الرّوحية، وقد افترق النّازعون إلى هذه النّزعة من أوّل خطوةٍ فِرَقًا، وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الّذي يمثّله أبو القاسم الجُنَيْد، إلى الغلوّ الّذي يمثّله أبو منصور الحلَاَّج، إلى ما بين هذين الطَّرفين ، وكانت لأئمّة السُّنّة وحُماتها - الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها - مواقف مع الحاملين لهذه النَّزعة، وموازين يَزِنُون بها أعمالهم وآراءهم وما يَبْدُرُ على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريحُ الكتاب وصحيح السّنّة، وكانت في أوّل ظهورها بسيطةً تنحصر في الخَلْوَة للعبادة أو الجلوس لإرشاد وتربـية مَن يشهد مجالسهم، ثمّ اسْتَفْحَلَ أمرُها فاستحالت عِلمًا مستقلاًّ، يشكّل معجمًا كاملاً للاصطلاحات، ودوّنت فيها الدّواوين الّتي تُحلّل وتشرح، وتصف الألوان الباطنيّة للنّفس، وتبيّن الطّريق الموصل إلى الله والوسيلة المؤدّية للسّعادة وكيفية الخلاص مِن مضائق هذه الطّريق وأوْعارها، ثمّ انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال الّتي تستر أصحابها، إلى الأقوال الّتي تفضحهم، فخاضوا في شرح مُغيَّبات، وأفاضوا في جدالٍ مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببًا مِن الأسباب الأصيلة في شقّ الأمّة شقّين: أنصارًا ومُنْكِرِين، وضاعت في هذا الضّجيج ثمرةُ هذه النِّحْلَة وهي رياضة النّفس اللَّجوج على العبادة وقمع نَزَواتها البدنيّة، وأصبحت هذه النِّحْلَة أقوالاً تُدافع ، يقولها مَن لا يفقه لها معنى، فضلاً عن أن تَصْطَبِغَ بها نفسه، والحقُّ في هذه النّزعة أنّها صبغةٌ روحيّةٌ مرجوحةٌ في ميزان الشّرع وأحكامه، وإنّما يُقبل منها ما يُساير المأثور، ولا يُجافي المعروف مِن هَدْيِ محمّدٍ(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فإنَّ الدِّينَ قد تكامل بختام الوحي، والزّيادة فيه بعد ذلك كالنّقص منه كلاهما مُنكرٌ، وكلاهما مرفوضٌ، وما لم يكن يومئذٍ دينًا فليس بدينٍ بعد ذلك» [«آثار الإبراهيمي» (5/141-142)] 
مَفَاسِدُ الطُّرُقِيَّة:
يقول الإمام الإبراهيمي: «ومبنى هذه الطُّرُق في ظاهرِ أمرِها وباطنه على حيوانيّةٍ شَرِهَةٍ لا تَقِفُ عند حدٍّ في التّمتّع بالشّهوات، والاِنهماك في اللّذائذ واحْتِجَانِ الأموال مِن طريق الحرام والحلال، واصطياد الجاه وحُبّ الظّهور والاِختلاط بأهل الجاه وإيثارهم والتّزلُّف إليهم» [«آثار الإبراهيمي» (1/169)]، ويقول: «وبالجملة فهذا الطِّراز الطُّرقيّ الّذي أدركناه مِن آباء وأبناء يَجمعهم قولُك طُلاّب دنيا وعُبَّاد شهوات» [«آثار الإبراهيمي» (1/176)] ، ويقول: «كلُّ ما هو مُتَفَشٍّ في الأُمّة مِن ابتداعٍ في الدّين، وضلالٍ في العقيدة، وجهلٍ بكلّ شيء، وغفلةٍ عن الحياة، وإلحادٍ في النّاشئة، فمنشؤُه مِن الطُّرُق ومرجعُهُ إليها» [«آثار الإبراهيمي» (1/190)] ، وقد لخَّص الإمامُ ذلك في قوله: «فيها ... إِفسادٌ للعُقول وقَتْلٌ للمواهب» [«آثار الإبراهيمي» (1/190)] 
الطُّرقيَّة حَامِيَةُ الشِّرك والهَادِيَةُ إليه:
يقول الإمام الإبراهيمي: «يَجري كلُّ هذا والأشياخُ أشياخٌ يُقدَّسُ ميّتهم وتُشاد عليه القباب، وتُساق إليه النُّذُور، ويُتمرّغ بأعتابه، ويُكتحلُ بترابه، وتُلتمسُ منه الحاجات وتفيض عند قبره التّوسّلات والتّضرُّعات، ويكون قبره فتنةًبعد الممات كما كان شخصه فتنةً في الحياة. ثمّ تَتوالدُ الفِتنُ فيكونُ اسمُه فتنةً، وأولاده فتنةً، وداره فتنةً ..» [«آثار الإبراهيمي» (1/172)]، ويقول الإمام ابن باديس : «... إنَّ المصلحين ما تصدَّوْا لمُقاومة الطُّرقيّة إلاَّ بعد أن رأوا رؤساءها قد قعدوا للمسلمين على رأسِ كُلِّ طريقٍ للخير يَصدُّونهم عنه، قعدوا على طريق التَّوحيد، فإذا دعونا النّاسَ إلى عبادة الله وحده وسؤالِهِ وحده والقَسَمِ بِهِ وحده والرّجاء فيه وحده والخوف منه وحده والخضوع له وحده - أَبَوْا إلاَّ أن يَحلف النَّاسُ بهم وإلاَّ أن يخضعوا لهم ويَرْجُوا «تصرّفهم» لهم ويخافوا دعوة «شرّهم» »، إلى أن يقول: «فبعد هذا البيان لا نظنُّ أحدًا مِن أهل العلم والدِّين والنُّصح للإسلام والمسلمين يَتردَّدُ في استصواب ما سلكه المصلحون مِن مُقاومة الخُرافات الطَّرائقيَّة وضلالاتها ومَضارِّها» [مقالة: «الأستاذ محبّ الدّين الخطيب لمقاومة الطُّرقيّة والطُّرقيّين»: «الشّهاب»، (ج5/م10) محرم 1353هـ، أفريل 1934م، (ص:210-212)]، وكتب الشَّيخ مباركٌ الميلي في «رسالة الشِّرك ومظاهره»(ص:273) فصلاً بعنوان :«هُدَاةُ الشِّرْكِ وحُمَاتُهُ»، يقول فيه عن «شيوخ الطُّرُق الصُّوفيّة»: «كانوا هم المشجِّعين لمن اتَّحَدَ معهم في الغرض والمضلِّلين لبعض من وقع معهم في هذا المرض، وقد بلغنا لما أعلنّا نشر رسالة «الشِّرك ومظاهره» أنّهم قالوا في مجتمعٍ لهم: «لابدّ لنا من الدّفاع عن الشِّرك »، فكانوا أحقّ أن يُسمّوا: «هُدَاة الشِّرك وحُمَاته» ».
ويقول الإمام الإبراهيمي: «وأكبر جُرْحَةٍ دينيّةٍ فيهم عندي إقرارُهم لتلك الأماديح الشّعريّة المَلْحُونة الّتي كان يقولها فيهم الشُّعراء المتزَلِّفون ويُنشدونها بين أيديهم في مَحافلهم العامّة، وفيها ما هو الكفر أو دونه الكفر مِن وصفهم بالتّصرّف في السّماوات والأرضين، وقدرتهم على الإِغْنَاء والإفقار وإدخال الجنّة والإنقاذ من النّار، دَعْ عنك المبالغات الّتي قد تُغتفر، كلّ ذلك وهم ساكتون، بل يعجبون لذلك ويطربون ... ولو كانوا على شيءٍ من الدِّين لما رضوا أن يَسمعوا تلك الأماديح وهم يَعلمون كذبها من أنفسهم، ويعلمون أنّ فيها تضليلاً للعامّة وتغريرًا بعقائدها، وأنَّ تلك الأماديح المنشورة بين النّاس في وطننا هذا هي سِرُّ انتشار الطُّرقيّة وتوغلّها فيها، وقد سمعنا الكثير منها»[«آثار الإبراهيمي» (1/176)]
الطُّرُق بدعةٌ في الإسلام:
ـ يقول الشَّيخ أبو يعلي الزّواويّ: «ثمَّ لِنَنْظُر الآن هل العملُ كذلك مثل القول، لا يُمكنُ بحالٍ أن يخالف الكتاب والسُّنّة وما كان عليه محمَّد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه رضي الله عنهم؟؟ لم يكن محمَّد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ... قادِرِيِّين ولا خَلْوَتِيِّين ولا شاذِلِيِّين ولا رِفَاعِيِّين ولا عِيسَاوِيِّين إلخ ستٍّ وأربعين، إنّما كانوا مسلمين مِلَّةَ أبيهم إبراهيم (عليه السّلام)... وكان طريقُهم - وإن شئت قلت: طريقتُهم- السُّنّة الصّحيحة طريقةُ محمَّد (صلى الله عليه وسلم)، بَيْدَ أنَّهُمْ كانوا مُسْتَغْنِينَ بالطّريق عن الطّريقة، كما روى عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: «خطَّ لنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومًا خطًّا، فقال: هذا سبيلُ الله، وخطَّ عن يمينِ الخطّ وعن شماله خطوطًا، فقال: هذه سُبُل، وعلى كلّ سبيلٍ شيطانٌ يدعو إليه، ثمَّ تلا قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام:153]» [مقالة: «توحيد التّربية والتّعليم والرّجوع إلى مذهب السَّلَف»: «الشّهاب»، العدد (54)، (ص:2-3)، (2/324-325)]، ويقول الإمام ابن باديس: «سُلُوك السَّلَف الصّالح «الصّحابة والتّابعين وأتباع التّابعين» تطبيقٌ صحيحٌ لهَدْيِ الإسلام. فُهُوم أئمّةِ السَّلَف الصَّالح أَصْدَقُ الفُهُوم لحقائق الإسلام ونصوص الكتاب والسُّنّة» [«آثار ابن باديس» (5/154)]، ويقول الشَّيخُ الطَّيِّب العُقبيّ (1890م-1960م) في مقالته : «يقولون وأقول»: «لا طَريقة ولا حقيقة ولا شريعة إلاَّ ما كان عليه محمّدٌ وأصحابُه الكرام، فهُم خَوَاصُّ الخواصّ، فسِيرُوا بسَيْرِهِم تكونوا مِن الصّادقين، وإلاّ فأنتُم - والحالةُ هذه - تَنسبون إليهم النّقص، وتَحطُّون من أقدارهم، وتَرَون أنفسكم سبقتُم إلى ما قَصَّرُوا هم عنه، واهتديتُم إلى ما لم يَهتدوا إليهِ هم، ونِلْتُم المقامات العالية والمراتب الجليلة الّتي ما نالوها هم، ولا جاء من أقوالهم عند وصولهم إليها ما جاءنا من مشايخكم، وكلّ أقوالهم المأثورة المحفوظة لديكم والّتي تُقدِّمون الاِحتجاج بها على كلّ شيء، فقد قلتُم غير ما قالوه، وفعلتُم خلاف ما فعلوه، ومع ذلك تَدَّعُون السُّلوك والوصول وتزعمون أنكم مُحِقّون، والنَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم: «تركتكم على .. البيضاء ليلُها كنهارها، لا يضلُّ من سلكها»، فهل سلكها الصّحابةُ من بعده والتّابعون، أم أنتم وحدكم السّالكون؟؟ وهل هُم أَهْدَى منكم سبيلاً أم أنتم وحدكم الهادون المهديّون؟ ... فماذا عسى يقولون بعد هذا المقال، وماذا بعد الحقّ إلاَّ الضّلال؟» [«الشّهاب»، العدد (16)، (ص:18-19)، 12 شعبان 1344هـ، 25 فيفري 1926م].
الافتراقُ الطُّرقيّ:
يقول الإمام الإبراهيمي: «والحقيقة أنّ الطُّرقيِّين أرادوا أن يَصبغوا طُرُقَهُم بالقُدْسِيَّة الدِّينيَّة فانْتَحَلُوا لها هذه الأباطيل وأعطوها خصائص الدِّين كلّها، ألم تَرَ أنّهم يَعُدُّون الخروج مِن طريقةٍ ولو إلى طريقةٍ أخرى كالاِرتداد عن الدِّين، يموتُ فاعلُهُ على سُوءِ الخاتمة قبّحهم الله؟ فما هو إلاَّ خروجٌ من ضلالةٍ إمّا إلى هدى وإمّا إلى ضلالة أشنع» [«آثار الإبراهيمي» (1/176)]، ويقول: «وإنّك لتسمعُهُم يقولون الأُخُوّة والإخوان فاعلم أنّهم لا يُريدون أُخُوّة الإسلام العامّة، ولا يَرْعَوْنَ مِن حقوقها حقًّا، وإنّما يُريدون أُخُوّة الشَّيخ وأُخُوّة الطّريق، وكلّ ما يجبُ عليك من حقّ فهو لأخيك في الطّريق - أعاذك الله منها-، وأنّ هذه الأُخُوّة القاطعة تَفرض عليهم أن يُبغضوا كلّ من لم يتّصل معهم بحَبْلِ الشَّيخ، ويُنابذوه ولا يجتمعُوا معه ولو في العبادات الشّرعيّة كالصّلاة وقراءة القرآن أو البدعيّة كحِلَقِهم الخصوصيّة، بل يبلغُ الغُلُوّ ببعضهم «كالتِّيجانيّة» أن لا يُصَلُّوا خَلْفَهُ ولا يُصاهروه» [«آثار الإبراهيمي» (1/172)].
وسُئِلَ الشَّيخُ الطّيِّب العُقبيّ، سألهُ فرنسيٌّ كبيرٌ ذو مجلّة شهيرة: «لماذا تُحاربون الطُّرُق؟» فأجابه بقوله: «نُحارب الطُّرُق، لأنّه لا طُرُقَ في دين الإسلام، وإنّما هو دينٌ واحدٌ وطريقٌ جامعةٌ» [«الشّهاب»، (ج5، م11، ص:286-288) تحت عنوان: «أجوبة حكيمة»]
أركانُ النَّظَامِ الطُّرقيِّ المُبْتَدَع:
يقول الإمام ابن باديس: «الأوضاعُ الطُّرقيّة بدعةٌ لم يَعرفها السَّلف» [«آثار ابن باديس»(5/154-155)].
وقد صرّح برأيه في الأوضاع الطُّرُقيّة سنة 1934م، فقال تحت عنوان «بِدَعُ الذِّكر»: «تقومُ هذه الطَّرَائِقُ المنتسِبة للتّصوّف على أوضاعٍ مُخترَعةٍ تمتازُ كلّ طريقةٍ بصنفٍ منها، ومِن تلك الأوضاعِ أوضاعٌ ابتدعوها في الذِّكر، وأذكارٌ انصرفوا بها عن الأذكار النّبويّة المأثورة، وانتهى بهم الاِبتداع إلى قبائح وفضائح يُنكرها العقل والشّرع، ويَخجلُ الكاتِب مِن أن يجري بها البنان، وقد طال إنكارُ العلماء عليهم قديمًا وحديثًا، ولكن رؤساء تلك الطَّرائِق والمتعيِّشِين منها كانوا أعظم الصّادِّين عن الاِنتفاع بإنكار أولئك العلماء النّاصحين، وكثيرًا ما كان علماء السُّوء الجُبناء أو الطّمّاعُون سببًا بسكوتهم أو تحسينهم لتمادي الضّالّين على الضّلال ..» [«الشّهاب»، ج 2 ، م 10، شعبان 1353هـ،9 نفامبر 1934م، (ص:529)]
وقال في سياقٍ آخر: «أَخْذُ العَهْدِ الطُّرقيّ بدعةٌ لم يفعلها السَّلَف الصّالح رحمهم الله، وهي الذَّريعةُ لكلِّ ما ذَكَرَهُ في السُّؤال وأجاب عنه ولغيره، فهي حَرَامٌ لِبدْعِيَّتهَا والتَّذرُّعِ بها للشّرّ والفساد والضّرر» [ «الشّهاب»، م13،اج1،1محرم1356ﻫ، 14مارس1937م، (ص:25-26)].
ويذكرُ الشَّيخ العربي التّبسي في مقدّمة مقالاتِهِ: «بدعة الطّرائِق في الإسلام»: أنَّه اجتمع برجلين في بلدة «خنشلة» [مِن مدن الشّرق الجزائري]، يُنَفِّرَانِ النَّاسَ من دعوة المصلحين، يقول: «فجاذبتُهما الحديث في شئون، منها إعطاء العُهُود الموجودة بيننا مِن رؤساء الطَّرائق، وتحديد الأذكار للأُمّة على هذا الوجه - بدعةٌ لا يعرفها السَّلَف ولا يَقبلها الشّرع، فزعما أنّ هذه العهود وما لفَّ لفَّها قد نُقلت عن الحسن البصريّ، فأجبتُهما بأنّ مَن نَقَلَ هذا عنه أراهُ قد كَذَبَ عليه، ومسألةٌ كمسألة العُهُود وتحديد الأذكار ووَضِع الطَّرَائِق للأُمَم - ليس بِسِرٍّ من الأسرار حتّى يمتاز بها الحسن، ومُحَالٌ أن يفعل شيئًا لم يَتَلَقَّهُ عمَّنْ قبله، ولو فعله من قبله - والمسألة لها خطرُها - لنُقلت شائعةً ذائعةً كما هي الآن - وهذه الكتب الصِّحاح الّتي عُرِفَ رجالُها ومُحِّصَتْ أخبارُها لا يوجد فيها ما يَصلح أن يكون دليلاً أو شبه دليل - فلما سُدَّتْ في وجوههما مناهج التَّضليل انقلبا إلى السِّباب والفَظاظة والفُحش والإذاية ..» [«الشّهاب»، العدد (166)، (ص:3)، 20 ربيع الثاني 1347هـ، 3 أكتوبر 1928م] 
لَيْسَ لَنَا في الإِسْلاَمِ شيخٌ يُسَلَّم لَهُ حالُهُ أو: الكتابُ والسُّنَّة حُجَّةٌ على كلِّ أحَدٍ:
يقول الإمام ابن باديس: «إنّما المهمّ هو أنّ جميع علماء الإسلام مِن المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلّمين وشيوخ الزُّهد المتقدّمين - تتّسعُ صُدُورُهم لأَنْ يُؤخذَ مِن كلامهم ويُرَدّ إلاّ العامّة المنتمِين إلى التّصوّف، فإنّهم يَأْبَون كلّ الإِبَاء أن يَسمعوا كلمةَ نَقْدٍ أو رَدٍّ في أحدٍ مِن الشُّيوخ، مع أنّ غير المعصوم مُعرّضٌ للخطأ دائمًا في أقواله وأفعاله، فكأنّهم بهذا يَعتقدون فيهم العصمة، وقد سُئل إمامُ الطّائفة الجُنَيْد: أَوَ يزني الوليّ؟ فأَطْرَقَ، ثمّ قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾[الأحزاب:38]، فهذا يدلُّنا على ما كان عليه شيوخُ الزُّهد مِن تعليمِ النّاس بأنّهم غير معصومين، دَفْعًا لغُلُوِّ الغالين، وعلى أنّ فكرة العصمة أو ما يُقارب منها موجودٌ في الأذهان، وهي مَثار مثل هذا السّؤال، فلو أنَّ إخواننا المنتمِين للتّصوّف قَبِلُوا أن يُوزَنَ كلامُ الشّيوخ بميزان الكتاب والسّنّة مثل غيرهم من علماء الإسلام، ورضوا بالرّجوع الحقيقيّ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء:59] - لبَطَلَ الخِلاف أو قَلَّ - ..»[«الآثار» (4/248)] 
كمالُ الإسلام بدون هذه الطُّرُق:
في سَفرته إلى «البليدة»[سنة1932م]، اجتمع ابنُ باديس بأعيان البلدة وفيهم مُفْتِيها، قال: «قال لي فضيلةُ الشّيخ المفتي في ذلك المحفل ما معناه: «إنَّنَا لَنَنْتَسِبُ للطَّرِيق لقَصْدِ الذِّكر وتهذيب النّفس ونَبرأُ مِن كلِّ المفاسد الّتي يَرتكبها مَن يرتكبُها مِنالطُّرقيِّين»، وقد كان يُمكنُني أن أقولَ لفضيلته: إنَّ الذِّكْرَ وتَهذيبَ النَّفْسِ قد كَانَ قَبْلَ هذهِ الطُّرُق»[«الآثار»(4 / 254)].
على إثر زيارة وفد «جمعيّة العلماء» لقرى«سُوف»(شوال1356ﻫ = ديسمبر1937م)، عُقِد اجتماعٌ ببلدة «قمار»، ألقى فيه الشيخ ابن باديس درسًا ثمّ الشيخ خير الديّن ثمّ الشيخ العربي التبسي، تقولُ جريدةُ «البصائر»: «وتبعه الشّيخُ مبارك الميلي بدرسٍ في قوله (صلى الله عليه وسلم): «قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، وحَمَلَ فيه على الطُّرُق وشُبُهاتها حتَّى أَقْنَعَ الحاضرين بأَنْ «لاَ طُرُقيَّةَ في الإسلام». 
ثمّ قال الشّيخ ابن باديس: لا تَأْسَفُوا إِنْ فَاتَتْكُم الطُّرُق؛ فإِنَّ لَكُمْ طَرِيقَةً مِن أَجْمَلِ الطُّرُق، قال تعالى : ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، ثمّ أَخَذَ يُفسِّرُ الآيةَ تفسيرًا مُحْكَمًا.
ثمّ قام الشّيخُ عبد العزيز [بن الشّيخ الهاشميّ؛ شيخ الطّريقة القادريّة] وقال: إِنَّ الطُّرُقَ بدعةٌ لا أَصْلَ لها في الدِّينِ، فحَسْبُكُمُ التَّمسُّكُ بالكتابِ والسُّنَّة...»اﻫ.
شيخُ الطَّريقةِ القادريّة الشَّيخ عبد العزيز بن الشَّيخ الهاشمي يُسْمِعُ رُؤساء الطُّرُق كلمةَ الحقّ:
عَقَدَ رُؤساء الطُّرُق والزَّوَايا مُؤتمرهم في عاصمة الجزائر في أفريل1938م، وفي يوم 19 أفريل قام الشّيخ محمّد الصّالح بن الشّيخ الهاشميّ بإلقاءِ خِطابِ أخيهِ الشّيخ عبد العزيز الّذي لم يتمكّن من الحضور، وممَّا جاءَ فيهِ: «أيُّها الإخوان! أنا طُرُّقِيٌّ وِرَاثَةً، وابنُ زاويةٍ عريقٌ في نِسبةِ الزّاوية والطُّرقيّة إلى بضعة أجدادٍ في التّاريخ، وعندي من العلم ما أُفَرِقُّ بين الحقّ والباطل على الأقلّ، ومن المعرفة العامّة ما أُمَيِّز به بين الخير والشرِّ وبين المقبول والمردود، وإنِّي أَدِينُ اللهَ الّذي أُؤمِنُ بلقائِهِ بأَنْ لا طُرُقيَّةَ في الإسلام ولا زَاوِيَةَ في الإسلام ولا طَائِفِيَّةَ في الإسلام، وبأنّه إِنْ كان في هذه الزَّاويا وهذه الطُّرُق خيرٌ فإنَّ شرَّها يَذهب بخيرها، وبأنَّ مِن آثارها النّفسيَّة الّتي لا يُنكرها إلاَّ أعمى البصيرة أنَّها فَرَّقت كلمةَ المسلمين، لا أَتَكَلَّمُ عن غائبٍ ولا عن مجهول، وإنّما أَتكلَّم عن مُشاهدةٍ وعيان، وأُعبِّرُ عن وجدان، لا تزال آثاره في نفسي الّتي بين جنبَيَّ لولا عصمني اللهُ بما وفَّقني إليه مِن العلم»، وخَتَمَ شيخُ ورئيسُ الطّريقة القادريّة بشمال إفريقيا خطابَهُ بثناءٍ على دعوة «جمعيَّة العلماء» وتبيينٍ لمراميهم النَّبِيلة، فقال: «إنَّنِي أَدِينُ اللهَ أيضًا أنّ الحركةَ القائمةَ إنَّما هي ضدّ البدع المُحْدَثَةِ في الدِّين، وأَنَّها إِنْ أَتَتْ فإنّما تأتي على الباطل، أمَّا الحقُّ فهو ثابتٌ بإذن الله محفوظٌ بحفظ الله، وإنِّي فهمتُ ولازلتُ أَفْهَمُ مِن أقوال القائمين بها وأعمالهم ومَراميهم أنَّها ليست مُوَجَّهةً لهَدْمِ الزَّوايا، وإنَّما هي مُوَجَّهةٌ لإِصلاحها» [«البصائر»، العدد(111)، 28 صفر ، 29 أفريل 1938م، (ص:6)].


http://www.soufia-h.net/showthread.php?t=16666

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق