شرح الأصول الثلاثة عند المتصوفة
الأصل الثالث : ( الحلول )
أبو محمد عادل خزرون التطواني
لغةً:
الحلول في اللغة: النزول، وهو مصدر رباعي من حَلََّّ بالمكان يَحُلُّ حُلولاً.
وله في اللغة ثلاثة معانٍ:
الأول: حلَّ بمعنى نَزَلَ، ومضارعُه مضموم(يحُلُّ)، يتعدَّى بنفسه أو بالباء، فيقال:حَلَّ المكانَ، أو حَلَّ بالمكانِ، بمعنى: نزل به، قال تعالى :﴿ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ﴾[1]. أي تنزل، واسم المكان منه يجوز فيه الكسر أو الفتح، فيقال (مَحِلٌّ) أو (مَحَلٌّ).
الثاني: حلَّ، بمعنى : وجب، ومضارعه مكسور(يّحِلُّ)، ومنه قوله تعالى:﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾.
الثالث: حلَّ، بمعنى(بَلَغَ)، مضارعه مكسور (تحِلُّ)، وكذا اسم المكان منه(مَحِلٌّ)
وعند العلماء: عبارة عن اتحاد الجسمين بحين تكون الإشارة إلى احدها إشارة إلى الآخر[3] .
قال الفيروز آبادي :
اصطلاحاً:
اختلف الباحثون في تعريفهم للحلول:
أما الحلول عند المتصوفة فهو :«زعمهم بأن الحق اصطفى أجساما حل فيها بمعاني الربوبية، وأزال عنها معاني البشرية»[6]
ومن أمثل ما قيل في تعريفه:
« إن الحلول هو أن يكون الشيء حاصلاً في الشيء، ومختصَّاً به، بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر تحقيقاً، أو تقديراً»[7].
ويعني: اعتقادهم نزول الذات الإلهية في الذات البشرية، ودخولهما فيها، فيكون المخلوق ظرفا للخالق بزعمهم.
والحلول على قسمين:
وهذا الحلول إما أن يكون خاصا، أو عاما، فإذا كان عاما
أ - حلول خاص: وهو دعوى حلول الرب وحصوله في بعض خلقه.
فمنهم من يجعل هذا الحلول في عين مختصة، كدعوى النسطورية من النصارى بحلول اللاهوت في الناسوت، ويخصون ذلك بعيسى عليه السلام ،يعنى: أن اللاهوت – الإله – حل بالناسوت – أي عيسى – فعيسى له طبيعتان لاهوتية وناسوتية .
وكدعوى غالية الرافضة من النصيرية وغيرهم الذين يقولون : إن الله تعالى حلَّ بعلي ابن أبي طالب علياً ،وأنه الإله لأن الإله حل فيه ، وفي أئمة أهل بيته.
ومنهم من يربط الحلول بمن حقق وصفاً مختصاً، كبعض غلاة الصوفية ممن يقول بحلوله-تعالى وتقدس-في من حقق الولاية، وهذب نفسه في الطاعة، وصبر عن لذات النفس وشهواتها، فارتقى في درجات المصافاة، فيصفو عن النفس البشرية، فتحل فيه روح الإله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيرا[8].
ب - حلول عام: وهو دعوى حلول الرب وحصوله بذاته في كل مكان، وهو ما يسمى بوحدة الوجود؛ لأنه حلول في جميع الكائنات.
وهذا القول هو الذي ذكره أئمة السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، ممن يقول: إن الله بذاته في كل مكان[9].
ويلاحظ على بعض من عرَّف الحلول أنه لم يفرق بين الحلول العام والحلول الخاص، ولا شك أن التفريق بينهما له أثر في بيان حقيقة الحلول[10].
وقد ذُكِرَت عدة أمثلة لبيان معنى الحلول.
فمنهم من مثل الحلول بحلول الماء في الكأس أو بحلول الماء في الصوف[11].
وأنشدوا في ذلك(للصاحب بن عباد):
رق الزجاج وراقت الخمر *** فتشابها وتشاكل الأمر
ومنهم من مثَّله بحلول ماء الورد في الورد[13].
وهناك أيضاً من مثله بحلول الأعراض بالأجسام، كحلول الحياة في أجسام الحيوانات[14].
وللمتصوفة نصوص كثيرة جدا من أشعار وقصائد ومنظومات، صريحة العبارة والدلالة،تثبت قولهم بالحلول ،كما أن لهم نصوصا تشير أوتحتمل هذا المعنى بوضوح من ذلك.
- يقول ابن خلدون: «ذهب كثير منهم إلى الحلول والوحدة، كما أشرنا إليه، وملئوا الصحف منه، مثل: الهروي، في كتاب المقامات له، وغيره، وتبعهم: ابن العربي، وابن سبعين، وتلميذهما ابن العفيف، وابن الفارض، والنجم الإسرائيلي، في قصائدهم» "[15].
يقول شيخنا محمد بوخبزة في كتابه الماتع النقل النديم: « مما شاع وذاع إنشاد أشعار الصّوفية المتضمنة لعقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، كابن الفارض وابن وفا والنابلسي والحراق وابن عليوة والكتاني والششتري وغيرهم، حتى أدخلوا منها فيما يسمّى الآلة الأندلسية، ومن تأمل مضمون تلك الأشعار والأزجال وجدها تقطر كفرا. ومسّت الحاجة إلى معرفة الحكم الشرعي في إنشادها وسماعها رغم وضوحه، وهذه فتوى للإمام ابن تيمية تشفي الغليل في هذا الشأن ودعك من زعم بهائم الصّوفية أن ابن تيمية كافر أو ضال وأنه عدوهم، فهذا لا يساوي سماعه لمن اطلع وعرف الحق والصواب، ونصُّ الفتوى على نقل السَّخاوي في القول المنبي: "سئل ابن تيمية؛ هل يجوز شعر ابن الفارض وغيره من هؤلاء القوم وإنشاده؟ ما نصّه –كما حكاه ابن أبي حجلة-: "إنشاد الأشعار المتضمنة للكفر مثل كون وجود الخالق هو وجود المخلوق كقصيدة ابن الفارض المسماة نظم السّلوك وما يشبهها من شعر ابن العربي والشعر المنسوب إلى عامر القيني وأبي الحسن وغير ذلك، فهذه إذا أنشدت على وجه الاستحسان لها، وعلى وجه صلاح القلوب، وإثارة وجد القلوب بها، فهذا حرام باتفاق علماء المسلمين، ومَن فهم مضمونها واستحسنها بعد ذلك، فإن تاب وإلا قُتل.
وأما إنشاد الأشعار الخمرية لتحريك شهوات النفس، فهذا معصية وإثم، وإن كان على جهة التقرب لها وجعل ذلك طريقا، وتشبيه محبة الله تعالى بشرب الخمر تشبيه ما يحصل من آثار الخمر والسّكر والعربدة. وذكر الدَّبر والكأس والدُّف، وتمثيل طريق أولياء الله المتقين بأحوال شَرَبَة الخمر، فهذا بدعة وضلالة. ومن فعل ذلك دينا يتقرب به إلى الله تعالى واجبا أو مستحبا فهذا مبتدع ضال مفتون، فإن أصرّ على أن يجعل إلى الله طريقا مخالف لطريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدعوا إلى ذلك، فإنه يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل، والله أعلم بالصّواب" أهـ. والفتوى كما ترى مدعومة بقواعد الشرع »[16].
- ونبدأ بأقوال الحلاج الذي يعد من أكبر دعاة المتصوفة الذين قالوا بالحلول وامتزاج الخالق بمخلوقه،وكتبوا عنه الكثير شعرا ونثراً،الذي فتق هذا المذهب، وأصبغ عليه عبارات من الغموض والسرية بمكان،بدعوى أنها مما خُص بها دون غيره، فقالها وهو في حال القرب والتمكين مع محبوبه بزعمهم، تعالى الله عما يقوله هذا الزنديق علواً كبيراً.
يقول معبراً عن عقيدته الحلولية:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ليس في المرآة شيء غيرنا
فدسـها المنشد إذا أنشده نحن رُوحـانِ حَلَلْنا بَدَنا
أثبت الشركة شركاً واضحاً كل من فرق فرقـاً بيننا
لا أنـاديـه ولا أذكــره إن ذكري ونـدائي يا أنا
يا سر ســرى تدق حتى تخفي على وهم كل حي
وظاهــراً باطناً تجلــى في كل شيء بكل شيء
إن اعتذاري إليك جهــل وعظم شكي وفرط عني
يا جملة الكـل لست غيري فمـا اعتذاري إذن إلي
أنـا أنت بـلا شـــك فسبحــانك سبحاني
فتوحيــدك توحيــدي وعصـيانك عصيـاني
أنـا الحق والحق للحق حق لابس ذاتـه فما ثم فرق
قد تجلت طوالـع زهرات يتشعشعن في لومع بـرق
ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعتـه عبارة أبطلها الواحــد
توحيــده إياه توحيـده ونعت من ينعته لاحــد[17]
قال نيكلسون تعليقا على أبيات الحلاج:( أنا من أهوى ومن أهوى أنا):
« وهذا المذهب في التأله الشخصي على الشكل الخاص الذي طبعه به الحلاج بينه وبين المذهب المسيحي الأساسي نسب واضح ولذا كان هذا المذهب عند المسلمين كفرا من شر أنواع الكفر وقد قيض الله له أن يعيش دون تغيير فيه بين أتباعه الأقربين والحلوليين وهم الذين يقولون بالتجسيد يستوي الصوفية على وجه العموم وأهل السنة في نبذهم أشد النبذ والتشنع عليهم» [18].
قلت : وانظر في الأبيات السابقة يتضح فلك كلام الحلاج الذي يصرح فيه بالحلول كقوله: ( لا أنـاديـه ولا أذكــره إن ذكري ونـدائي يا أنا)
يدعي أنه لن ينادي الله عز وجل ولا يذكره لأنه يقول لا طائل من وراء ذكر الله وندائه بعد أن حل فيه، تعالى الله عما يقول علوا كبيرا.
وفي هذا البيت قوله:
( وظاهــراً باطناً تجلــى في كل شيء بكل شيء)
وهنا ادعاءه بظهور الله عز وجل في كل شيء موجود وهذا حلول عام ، وأيضا ادعاؤه تجلي الله عز وجل لكل شيء موجود في هذا الكون .وهو ادعاء باطل.
وقوله: ( يا جملة الكـل لست غيري فمـا اعتذاري إذن إلي)
( أنـا أنت بـلا شـــك فسبحــانك سبحاني)
ترى بوضوح جلي فريته بأن الله عز وجل هو جملة كل شيء موجود في هذا الكون ، وأن الله عز وجل ليس غيره ولذا لا فائدة ترتجى من تقديم الاعتذار والتوبة إليه بعد أن أصبح الله عز وجل حالا في الحلاج لأنهما صار شيئاً واحداً ، ثم دعواه بأنه الله بلا ريب وأن تسبيح الله هو تسبيحه بعينه ، زاعما أنه لا فرق بينه وبين الله بعد حلوله فيه.
وقد حاول بعضهم أن يبرر للحلاج أقواله، إلا أنها تأويلات فاسدة غير مقبولة، وإلا كيف يؤول قوله التالي وما سيجيء بعده بغير الكفر والحلول؟!
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة في الماء الزلال
فإذا مسَّــــك شيء مسَّني فإذا أنت أنا في كل حال([19])
فهنا ادعاء جلي من هذا الزنديق المقبوح"الحلاج" بأن روحه مزجت بروح الله مع تشبيه هذا الخلط كاختلاط الخمرة بالماء، فعند اختلاط الخمرة بالماء فإنهما يصبحان شيئاً واحداً ، وكذلك فريته بحلول الله فيه كمثل هذا الحلول، مدعيا أنه إذا مس أي شيء لله عز وجل فقد مس الحلاج لأنهما أصبحا شيئاً واحداً، وفي الأخير يدعي بأن الله هو الحلاج وذلك في كل حال وهذا أيضا تصريح جلي بالحلول.
- قال ابن تيمية رحمه الله: «الحلاج قُتِلَ على الزندقة التي ثبتت عليه بإقراره، وبغير إقراره، والأمر الذي ثبت عليه مما يوجب قتله باتفاق المسلمين، ومن قال: إنه قُتِلَ بغير حق، فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال».([20])
قلت: ولا زال أذناب المتصوفة يتباكون على مقتله، ويصفونه بأنه شهيد الحب اللإلهي ، رغم إجماع علماء عصره على وجوب قتله كفرا وردة عن دين الله تعالى.
- قيل للحلاج : «كنت تدّعي النبوة فصرت تدّعي الألوهية والربوبية؟ فقال: «لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا. هل الكاتب إلا الله وأنا واليد آلة».([21])
- وزعمه أن من تهذب بالطاعة، لا يزال يصفو عن البشرية، حتى يحل فيه روح الله، الذي كان في عيسى عليه السلام، فلا يريد شيئا إلا كان[22]. ويقول:
سُبحان من أظهر ناسوتُه سُرَّ سَنَا لاهوتـِه الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهـرا في صورة الآكل والشارب[23]
ففي البيتين تصريح من الحلاج بظهور الله في مخلوقاته في صورهم الأصلية وفي طبيعتهم التي جبلوا عليها وهو الأكل والشرب وغيرهما من الطباع التي فطر الله البشر عليها فالجميع قد حلت فيه الذات اللإلهية.
- كما أن الحلاج زعم أن الله حل فيه، وكان يرسل رسائل إلى أصحابه على أنه هو الله تعالى، وفي كتبه شيء كثير من هذا، فهو محل إجماع عند أهل العلم أنه يقول بالحلول، وكان يقول: « إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاد وثمود"، وله الجملة المشهورة: "أنا الحق» [25].
ومن بين القائلين بالحلول أيضا:
أبو يزيد البسطامي القائل:
«منذ ثلاثين سنة كان الحق مرآتي فصرت اليوم مرآة نفسي لأني لست الآن من كنته وفي قولي أنا الحق إنكار لتوحيد الحق لأني عدم محض ، فالحق تعالى مرآة نفسه به أنظر أن الحق مرآة نفسي لأنه هو الذي يتكلم بلساني أما أنا فقد فنيت».[26]
قوله: « وفي قولي أنا الحق إنكار لتوحيد الحق لأني عدم محض»إنكار لتوحيد الله عز وجل يفهم منه القول بالثنائية أي أن هناك عبداً ورباً، بينما التوحيد الكامل عند أهل ومن هو على شاكلتهم كالبسطامي فهو أن يقول الإنسان أنا فقط لاعتقاده حلول الله في بعض مخلوقاته التي وصلت إلى قمة معرفة الله حسب زعمهم.
وذكر أن رجلا دق الباب على أبي يزيد فقال له: « من تطلب؟ فقال:أطلب أبا يزيد قال: سر ويحك فليس في الدار غير الله»[27].
وهنا تصريح منه بعدم وجود في دار البسطامي غير الله رغم وجوده فيها وهنا ادعاء منه حلول الله فيه فلا يوجد في الدار غير الله بينما شخصية البسطامي محيت .
- وقال البسطامي أيضا :
- «رفعني الله مرة فأقامني بين يديه وقال لي : يا أبا يزيد إن خلقي يحبون أن يروك. فقلت : زيني بوحدانيتك وألبسني أنانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا: «رأيناك فتكون أنت ذاك ولا أكون أنا هنا»[28].
- فأنظر كيف يطلب البسطامي من الله عز وجل أن يرفعه إلى أحديته بحيث إذا رأته المخلوقات في هذا الكون تصبح كأنها رأت الله وبالتالي هو الله عز وجل شيء واحد وهذا هو الحلول.
ومن بين الأعلام المتصوفة الذين قالوا بالحلول أيضا:
- أبو الحسن الشاذلي شيخ الطريقة الشاذلية المعروفة القائل: « من أطاعني في كل شيء بهجرانه لكل شيء أطعته في كل شيء بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني أقرب إليه من كل شيء هذه هي طريقة أولى وهي طريق السالكين، وطريق كبرى من أطاعني في كل شيء بإقباله على كل شيء لحسن إرادة مولاه في كل شيء أطعته في كل شيء بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني كأني عين كل شيء»[29].
- قلت : وهنا تلبيس من الشاذلي على القارئ حتى لا يدرك مفهوم قوله الدال على الحلول، علما أنه جلي وواضح في قوله :( بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني كأني عين كل شيء)،حيث يفهم من كلامه أن الله عز وجل يظهر في كل شيء موجود في هذا الكون ، وهذا القول هو عين الحلول .
- وللسان الدين الخطيب كلاما في الحلول كقوله: « المتصوفة في هذا المجال قسمان:قسم زعم أنه تلاشت رسومه و قسم تدرج في المراتب غير المكانية ولا الزمانية يبتغي القرب من الله حتى صح أن ذلك حقيقة العدم ، يعني أن خلق الله صفته فالأشياء سواه أفعاله وصفاته مع وجود الله عدم ،وإنه تيقن وجود وجوده بإدراكه وإدراكه بالله لا بذاته»[30].
- ثم قال: « والقسم الثاني ومن زعم أنه تلاشت رسومه وفني عن وجوده ثم فني عن فنائه وأدرك عند ذلك حقيقة ذاته وفني من لم يكن وبقي من لم يزل»[31].
- فالمتأمل في هذين النصين نجد بأن لسان الدين الخطيب صنف المتصوفة القائلين بالحلول إلى قسمين:
أ – قسم ادعى التلاشي بذهاب صفاته الأصلية البشرية نهائيا ليكون مهيئاً لحلول الله فيه.
ب – وقسم من خلال تقربه إلى الله أيقن بأنه عدم محض وأنه ما هو إلا صفة من صفات الله خلق ليكون مظهرا لذات الله عز وجل وهذا ما أشار إليه لسان الدين الخطيب متعمداً المراوغة وإخفاء معتقده الحلولي الوهن مخيفة تعرضه للنقد من قبل المسلمين ،لكن اللبيب بالإشارة يفهم.
ومن بين القائلين بالحلول أيضا:
- عبيد الله أحرار النقشبندي القائل تعبيرا عن عقيدته الحلولية: « فإذا تجلى الحق تعالى على قلبه (قلب السالك) بالتجلي القهري يمحو منه الغير والسوا فلا جرم يسمع في هذا القلب »: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، و« سبحاني ما أعظم شأني» و « أنا الحق» و«هل في الدار غيري»[32].
- ومن أقواله أيضا :
قلت :والمراد من كلامه كما هو في المفهوم الصوفي: أن الإنسان العارف حقيقة من وصل إلى مرحلة تفنى فيها ذاته وصفاته البشرية متحولة إلى صفات إلهية حيث يصل إلى مرحلة يحل فيه الله عز وجل فيصير ويصبح إلهاً .تعالى الله عما يقول المجرمون علواً كبيراً.
ومن بين المتصوفة دعاة الحلول نجد محمد بارسال القائل:
وفحوى كلامه هذا:أن الذاكر يصبح نفس المذكور والمذكور نفس الذاكر وهذا قول بالحلول جلي وواضح وقبيح .والأقبح من هذا ذكره تجلي الله بذاته في عين العبد ، أي أن الله حل في العبد بذاته وما دام الله قد حل في العبد صار لا وجود لذكر وذاكر ومذكور فالكل أصبح شيئاً واحداً ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولو ذهبنا نتتبع أقوالهم ما خلصنا؛ لكثرتها، فما من إمام مشهور لديهم إلا ولديه شيء من هذا الكلام، إما بالتصريح، وإما بالإشارة والتلميح، بدءاً من أبي يزيد البسطامي، وسهل التستري وابن سبعين، وانتهاء بابن الفارض والحلاج وابن العربي والسهروردي المقتول وغيرهم كثير.
- فهذه المعاني موجودة ظاهرة في كلامهم، هذا لا يمكن إنكارها، رغم التباسها على الكثير منهم ، حيث خلطوا بين المعاني والألفاظ، فتكلموا بألفاظ لا تحتمل إلا معاني: الحلول، والاتحاد، والوحدة.حتى حتى أصبح ذلك يشكل عند المتصوفة مثلثا إلحاديا ، فمجد من المتصوفة من فهم هذه المسألة، واعتنقها، فتكلم بكل ذلك عن علم ودراية. ومنهم من لم يدركها، لكن تكلم بمثل تكلم المدرك؛ كون اللغة واحدة عند الجميع.
قال شيخنا العلامة محمد بوخبزة من خلال سياق حديثه عن المتصوفة: « ... فقد أحدثوا في الإسلام شرخا لا يصلحه إلا رب العالمين، إن شاء تدارك دينه بلطفه، فقالوا بالشطح والباطن والظاهر، ورتبوا للناس مقامات وأحوالا، ووضعوا ألقابا أعلاها القطب الذي يُسيّر العالَم وأحدثوا له ديوانا يحضره ويحضر معه مساعدون ينعقد بغار حراء بمكة، ومن القرن الرابع أخذت تنضج أفكار تقطر كفرا وشركا جديدين يتمثل في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود وكلامهم في هذا غموض في غموض وتناقض وتدافع وسخافة وهذيان ، إلى التحلل من الشريعة وإدخال الوهن في أحكام الله بل الاجتراء على الله سبحانه وتعالى نفسه بإنكار وجوده وتميزه المقدس بدعوى أنه الوجود المطلق»[35].
وخلاصة القول أن عقيدة الحلول لدى المتصوفة هي مجرد هوى وضلال وانزلاقات عقدية خطيرة تجاه الله عز وجل وذلك لنبذهم لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه ورسوله المصطفى الأمين محمد صلى الله عليه وسلم جلبوها من الأمم الإلحادية التي لا تزال تعبد الأوثان والأصنام و لا تمت للإسلام بصلة وهو منها براء، بل جاء الإسلام لمحابتها.
وختاما
- فالقول بالحلول ووحدة الوجود والاتحاد من البدع الاعتقادية التي وجدت عند كثير من الفرق و الطوائف المبتدعة وأهل الأهواء ولا سيما المتصوفة ،الذين زعموا أنهم يريدون سلوك الطريق إلى الله عز وجل ولكنهم بدلا أن يسلكوا طريق الكتاب والسنة الذي لا طريق إلى الله غيره ، راحوا يشرعون لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله إذ وجدوا أن المنهج الإسلامي القائم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الاعتدال والتكامل ومحاربة الغلو والتطرف لا يشبع نزعاتهم السلبية الغالبية راحوا يطوفون بالمذاهب والديانات المختلفة يقمشون منها ، فأخذوا من البوذية والنصرانية والصابئة مدعين لأنفسهم أحوالا وواردات ومواجد وأذواقا لا يعرفها الدين. متكلمين في كل ذلك بما يشبه الألغاز ، ومازال الشيطان يحوم بهم و يصور لهم من الخيالات مالا حقيقة له حتى أفضى بهم وأوقعهم في القول بالحلول والإتحاد ووحدة الوجود، والجبر وبطلان التكليف والتسوية بين الطاعات والمعاصي والإيمان والكفر بدعوى شهود الربوبية في كل موجود. يقول ابن الجوزي:
ولا يمكن في مثل هذه الورقات القليلة الكشف عن كل مخازي و طوام هذه الطائفة وفضائحها،ولعلي قد استطعت في هذه اللمحات الخاطفة أن أقف على أهم مرتكزات هذه الأصول الثلاثة وعلى حقيقة التوحيد عند هؤلاء الضلال المضلين.
والله أسأل أن يثبت قلوبنا على دينه الحق ، ويرينا الحق حقا ، ويرزقنا إتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا بتوفيق ربنا أن الحمد لله الذي وحده علا
[2] - انظر مادة (حَلَلَ): المصباح المنير ص (147)، لسان العرب(11/163)، القاموس المحيط (3/359)، المفراد للراغب ص(128)، الكليات للكفوي(389)، المعجم الوسيط (2/1016).
[5] - " معجم مصطلحات الصوفية ص 82. وكلمة عارفين هذه مما ابتداع المتصوفة ، للنيل من الشريعة إذ أن الغاية عندهم المعرفة وحدها لا العبادة بخلاف أهل السنة و الجماعة فالغاية الحقة عندهم هى العبادة و التوحيد الصحيح و الخالص لله و حده
[6] - تلبيس إبليس لابن الجوزي.
[8] - انظر: الفرق بين الفرق (82)، مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام(2/171-172)، وللحلول تقسيمات أخرى ليس هذا موضع تفصيلها، انظر: التعريفات للجرجاني(92)، المعجم الفلسفي لجميل صليبا(105).
[9] - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام(2/140)، درء تعارض العقل والنقل(6/151-152)، المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية(1/37-38)، وأحيانا يعبر شيخ الإسلام عن هذين القسمين بالحلول المطلق والحلول المقيد أو المعين، انظر:مجموع الفتاوى (2/296، 465)، وجمع بين التعبيرين كما في مجموع الفتاوى (2/450).
[12] - أنظر:مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام(2/287).
[14] - انظر:مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام( 2/195)، الصوفية لصابر طعيمة(247).
[15] - المقدمة، ابن خلدون، ص473.
[16] - النقل النديم سلوان الكظيم في المحاضرات والنوادر – خ-
[17] - - ديوان الحلاج ص (47).أخبار الحلاج ص (78),
[18] - الصوفية في الإسلام لنيكلسون ص 141
[22]- انظر: دائرة معارف القرن العشرين، فريد وجدي، 10/355، التصوف بين الحق والخلق، شقفة، ص61.
[23]- ديوان الحلاج ص 30. وانظر: تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص 171. مصرع التصوف، البقاعي، ص178.
[24]- طبقات الصوفية، السلمي، ص311.
[25]- ديوان الحلاج ص202، الفهرست، ابن النديم ص329.
[26] - الملحق بكتاب شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي ص(65).
[27] - نفس المرجع.
[28] - اللمع للطوسي ص (461).
[29] - كتاب لطائف المنن لابن عطاء الله السكندري ص (89).
[30] - روضة التعريف بالحب الشريف ص (202).
[31] - نفس المرجع ص (204).
[32] - المواهب السرمدية في المناقب النقشبندية لمحمد أمين الكردي ص (162).
[33] - الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية لعبد الوهاب لشعراني ص (163).
[34] - نفس المرجع ص (163).
[35] - النقل النديم سلوان الكظيم في المحاضرات والنوادر – خ-
[36] - تلبيس إبليس، ابن الجوزي، ص172.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق