شجرة الغريب
عادل مناع
الهروب:
القاهرة ـ 1 مارس 1811م ـ منزل أحد أعيان المماليك.
وقف ذلك الأمير المملوكي في توتر وقلق، يجوب أرجاء المنزل ذهابًا وإيابًا، يستمع في انزعاج وخوف إلى صراخ تلك المرأة في حجرة مجاورة، ولم ينتشله من حالته تلك سوى خروج امرأة بدت عليها أمارات البشر وهي تقول: أحمد بك، مبارك، لقد رزقك الله بغلام كالقمر.
هنا سجد أحمد بك لله شكرًا على غلام طال انتظاره، وأتى بعد عشر سنوات من الحرمان، فدخل مسرعًا إلى حيث زوجته وابنة عمه في نفس الوقت، فأمسك بيدها يقبلها ويمسح العرق عن جبينها، وهو يقول: حمدًا لله على سلامتك يا قرة عيني، ثم قفزت عيناه إلى ذلك الصبي الذي بدا كالقمر كما وصفته الجارية.
وما كاد ينعم بتنقل بصره بين فلذة كبده وزوجته الحبيبة حتى تناهى إلى سمعهما صوت طرقات عنيفة على الباب، ففتحت الجارية مستقبلة أحد أصدقاء سيدها، والذي دخل مسرعًا يهتف بصاحب البيت: أحمد بك.
استقبله أحمد وهم بسؤاله عن سر فزعه، إلا أن الرجل قد عاجله بقوله: اصطحب زوجتك وما خف من أموالك واهرب سريعًا من هذا المكان.
أحمد: ما الذي حدث؟ تكلم يا رجل.
فأجاب بسرعة وفزع: الباشا محمد علي، اغتال من حضر حفل تنصيب ولده طوسون على الجيش المسافر إلى الجزيرة، اغتال كل المماليك الذين حضروه، هيا.
أحمد وقد اتسعت حدقتاه: يا إلهي، كنت سأكون منهم لو لم يحدث ظرف الولادة الطارئ، ولكن ...
قاطعه الرجل قائلًا: هيا ليس هناك وقت فالجنود يجوبون الأحياء ينهبون البيوت ويقتلون من يجدونه، هيا.
دخل أحمد مسرعًا إلى حجرة زوجته بعد أن أمر بتجهيز راحلة لهما، فنظر إلى زوجته في حنان وهو يقول: حبيبتي، أعلم أنك متعبة وأن ولادتك كان متعثرة، ولكن لابد وأن نهرب من هنا بسرعة، تحاملي على نفسك واتكئي علي، فقامت في وهن بعد أن أخبرها بموجز لهذا الحدث المفزع.
انطلق أحمد بك وخلفه على فرسه زوجته المتعبة ومعها وليدها، واتجها قبالة الصعيد، وسلكا طريقًا صحراويًّا وعرًا ينشدان النجاة.
ساعات قد مضت في طريقهما للهروب، والزوجة تترنح خلف زوجها من الإعياء، فشعر بذلك الضعف الشديد الذي اعتراها، فأوقف فرسه وأنزل زوجته، والتي بدت وكأن الموت قد شق طريقه إليها.
وضع الصبي على الرمال وأسند زوجته إلى ساعده، وهو يسقيها جرعة ماء، وقد لاح من بعيد كوكبة من الفرسان وكأنهم حشرات زاحفة من بعد المسافة، فحاول من جديد حملها وهو يصرخ: هيا، هيا يا حبيبتي سوف يدركوننا.
الزوجة: لا فائدة، إنني أموت يا أحمد، اهرب بوليدنا، اهرب.
أحمد في غضب وهو يسل سيفه من غمده: لا، لن أدعك، سوف نعيش سويًّا أو نموت سويًّا.
الزوجة: لا فائدة يا أحمد، إنني أموت، اهرب بولدنا، أستحلفك بالله لو قبضوا عليك سيقتلونك ويقتلون الرضيع، اهرب.
أحمد وهو يربط الوليد في قطعة قماش ويضعه خلف ظهره ويربط طرفاها على صدره: هيا سوف أحملك على الحصان، لن ...
قطع كلماته مشهد زوجته وقد مالت يداها وشخص بصرها، فصرخ: جولنار، جولنار.
انكب عليها باكيًا وقد أظلمت الدنيا في عينيه.
جولنااااااااار، قومي معي يا حبيبتي، قومي يا جولنااااااااااار، قالها وهو يصرخ وينتحب، ولم ينتشله من حالته تلك سوى صراخ ولده، فقام والغلام على ظهره بعد أن نزع قلادة جولنا، والتي نقش عليها اسم أحمد وجولنار، يريد أن يأخذ التذكار الأخير منها. اقترب منه فريق المطاردة، فانطلق يسابق الريح بعد أن ألقى نظرة الوداع على جثمان جولنار وهو لا يدري ما مصير ذلك الجسد الطاهر، أيكون طعمة للوحوش في البرية أم يكرمها صاحب قلب رحيم ويواري جسدها التراب.
شجرة الأحزان:
أيقن أحمد بعد ساعات من الركض أنه صار بمأمن من ملاحقة الجنود، فانتهى به سعيه إلى أطراف إحدى القرى في قنا جنوب مصر، ونزل من على جواده يحمل الصبي واعتلى تلًا من الرمال يحتضن شجيرة، بدت لحظات الغروب وكأنها مثل الرجل تمامًا في غربته ووحدته.
أسند الرجل ظهره للشجرة الصغيرة وهو يضم الصبي إلى صدره ويسكب عليه دموعه وقد علا نحيبه لهذا البؤس والشقاء الذي حل به، وارتشف جرعة ماء وهو لا يدري ماذا يعطي ولده ليظل على قيد الحياة، فبلل أصبعه بالماء ووضعه في فم الرضيع، والذي شرع يمص أصبع والده بنهم، فأسند الرجل رأسه إلى الشجرة في إعياء شديد.
لم يدر كم مر عليه من وقت قبل أن يفيق من سباته وقد اكتنف الدنيا الظلام، فجعل يكلم الصبي وهو يتفطر من الحزن والبكاء: آه يا ولدي، ترى كيف أمك الحنون؟ أين صار جسدها الطاهر؟ آه يا جولنار، إذا ما سألني ولدك عنك، بم أجيبه؟ قالها وازداد نحيبه وبكاؤه.
أثار انتباهه أن الصبي لم تصدر منه صرخة أو أنّة، ساوره الشك، فقرب أذنه من وجه الطفل عله يسمع صوت أنفاسه، لا شيء، لا حراك، لا نبضات، ظل يهز الطفل في عنف متدرج، وصرخات مكتومة ونحيب متقطع، لا شيء، قد فارق الحياة.
ضم الصبي إلى صدره في بكاء هستيري، وما هي إلا ساعة متواصلة من النحيب حتى شرع في تغسيل الصبي بما تبقى من ماء في سقايته، وكفنه في عباءته، وحفر له في أصل الشجرة، لقد دفن حياته في ذلك المكان، دفن ولده الذي لم يهنأ به يومًا كاملًا بعد انتظار عشر سنوات، ودفن قلادة زوجته، وكأنه قد أقبر جولنار ذاتها.
ثم صلى على الرضيع صلاة الجنازة، وخارت قواه فتمدد على الأرض بجوار القبر الذي أسكنه سعادته وفرحته الموءودة التي لم تكتمل.
وضع خده على القبر الصغير في أصل الشجرة، والتي سالت تحتها دموعه وكأنه يرويها بتلك الأحزان المتدفقة.
التيه:
أشرقت الشمس ناشرة أشعتها الذهبية على الرمال، وأفاق الناس من نومهم على مرأى ذلك الغريب الذي قد التصق بجذع الشجرة، وهو ينتحب ويصرخ، ولم يجترئ أحد منهم على الدنو منه، ولكنهم كانوا يراقبونه من على بعد أمتار، وهم لا يجدون تفسيرًا لالتصاقه دائمًا بأصل الشجرة وتمريغ خديه في تربتها.
واعتاد الناس هذا المشهد المتكرر على مدى أيام حتى اقترب رجلان منهم من الغريب، وقد وجداه شارد الذهن وكأنه لا يشعر بهما برغم وقوفهما أمامه، فسألاه: من أنت؟
أجاب أحمد بوهن وبطء وهو شارد الذهن: لم أعد أعرف من أنا.
قال أحدهما: من أي البلاد أنت، ثيابك ثياب أمراء.
أجاب في تهالك: بلادي وكل حياتي هنا، في أصل هذه الشجرة، أودعت فيها أسراري، ثم انفجر ضاحكًا والدموع تنهمر من عينيه في نفس الوقت، فاستطرد هامسًا وقد اتسعت حدقتاه فيما يشبه أحوال المجانين:
إن لهذه الشجرة أسرارًا عظيمة، الويل لمن يقترب من تربتها، ثم عاود الانفجار في الضحك بشكل جعل الرجلين يفران منه، تاركين إياه يتمرغ في أصل الشجرة وهو يصرخ.
تناقل الناس أخبار الرجل، وذاع بينهم أنه ولي من أولياء الله يعرف للشجرة أسرارًا وبركات، حتى دأبوا على تقديم الطعام والشراب والكساء للرجل الشارد، والذي لم يزدهم شروده وذهوله إلا اقتناعًا بولايته وصلاحه، واقتناعًا كذلك ببركة تلك الشجرة.
وبعد مرور خمسة أعوام، وفي ذات ليلة خُيل لأحمد بأن امرأة تصحب طفلًا صغيرًا يقفان أمامه ويبتسمان، وقد نشرا ذراعيهما له، ويناديانه أن يلحق بهما، ابتسم وهو يتبعهما إلى حيث يسيران أمامه، بل ظل يركض ويركض خلفهما، حتى غابت عنه معالم القرية، ولم يُرَ له أدنى أثر بعدها، ولم يعلم الناس عنه شيئًا بعدها.
وأما أهل القرية فقد أصابهم الذهول والدهشة عندما فقدوا آثار الرجل، لكنهم قد عادوا إلى حيث كان يقطن، إلى هذه الشجرة التي قد كستها هالة من المهابة قد نسجتها أوهام الناس في القرية.
لقد أصبحت الشجرة بعد رحيل الغريب مأوى للمحتاج والملهوف، الجميع يهرع إليها ويتمسح بها، ويلتمس البركة في تربتها، ويستشفي بأوراقها.
الميراث المشؤوم:
نفس القرية عام 2007:
في أحد بيوت القرية كان "رجب" ذلك الشاب الذي مضى على زواجه عام يجلس شاردًا مهمومًا حيث أن زوجته رغم مرور سنة كاملة لم تحمل بعد.
شخص ما يطرق باب البيت، فتفتح زوجته فترحب بالزائر والذي لم يكن سوى أمها التي دخلت وسلمت على زوج ابنتها، فما هي إلا لحظات قدَّم فيها الترحاب حتى استأذن وخرج.
تبعته أم زوجته ببصرها حتى جاوز باب الدار، فالتفتت إلى ابنتها قائلة: ما بال زوجك يا حنان؟
حنان: لا شيء يا أمي، تعرفين أنه قلق بشأن مرور عام على زواجنا ولم أحمل بعد.
الأم: لم لا تذهبين إلى شجرة الغريب؟ إن لها أسرارًا وبركات، اذهبي فقط وعلقي ثيابك عليها، واحملي معك شيئًا من تربتها وضعيه على ماء واغتسلي به.
حنان: وهل سيجدي هذا يا أمي؟ أنا أشك في ذلك، ورجب هو الآخر يقول بأنها خرافات.
الأم: أي خرافات يا بنيتي، إنها مجربة، لطالما فزع إليها آباؤنا وأجدادنا، وما زال الناس يذهبون إليها لقضاء حاجاتهم، يلتمسون منها البركة والشفاء والإنجاب.
هزت حنان رأسها وهي تقول: حسنًا يا أمي، سأجرب.
لقد مرت عشرات السنين ورث خلالها أهل القرية نفس الاعتقاد في تلك الشجرة التي ضربت جذورها في الأرض وعظمت وتشعبت تمامًا كما ضرب اعتقادهم فيها جذوره في قلوبهم وتشعب في أوصال كيانهم.
فها هي ذات الشجرة تراها قد علقت عليها الثياب، هذه تلتمس الإنجاب، وهذا يلتمس الشفاء، يتمرغون في أصلها، ويحملون معهم شيئًا من أوراقها، بل حتى في معارك الثأر بين العائلات كانوا يذهبون إليها قبلها يلتمسون البركة والنصر.
شبكة الدمار:
وفي القاهرة كان جمع من الرجال على اختلاف أعمارهم يجتمعون في طابق لإحدى الأبنية السكنية، يتوسط الجلسة رجل يرتدي عمامة سوداء يقول لمن حوله:
لم يعد لنا حل لبث أفكارنا إلا اختراق الصوفية، والعمل على نشر مذهبنا من خلال بث أفكارهم وعقائدهم، وهذا يستلزم .... قاطعه أحدهم: ولماذا لا نقوم بنشر مذهبنا مباشرة دون اللجوء لهذا؟
أجاب صاحب العمامة السوداء: أولًا هذه أوامر أصحاب الرأي هناك، ثانيًا لقد أثبت التاريخ أن مذهبنا لا يصلح للانتشار في مصر بصورة مباشرة، وخير مثال على ذلك إخواننا الفاطميون، حكموا مصر في حقبة من الحقب، ولم يستطيعوا فرض مذهبهم في ربوعها وبقيت على مذهب النواصب كما هي.
سأل آخر: ولم الفكر الصوفي بالذات يا سيدي؟
أجاب: لأننا وهم نشترك في أمور منها محبة آل البيت وتعظيمهم، فيسهل خلط أفكارنا بأفكارهم، وهذا يستلزم نشر أفكارهم وعقائدهم، وبالمناسبة، سوف يتم تأجيل الاجتماع الشهري لمدة شهرين تحسبًا لأي مراقبة أمنية، وأبشركم بأن شبكتنا السرية امتدت لتشمل جميع محافظات مصر.
انفض الاجتماع وخرج المجتمعون واحدًا تلو الآخر على فترات، وجلس رجل يدعى موسى يقطن تلك القرية السالفة الذكر، فسأل صاحب العمامة السوداء:
سيدي، وماذا بشأن تلك الشجرة التي أخبرتك عنها في قريتي؟
أجاب: حاول نسج القصص الوهمية بشأنها، وقم أنت ورفاقك ببثها في الآفاق حتى يتعلق الناس بها أكثر فأكثر، حتى تزرعوا الطرق الصوفية وتدعموها، ومن خلال نشر أفكار المتصوفة سوف تنشرون المذهب شيئًا فشيئًا.
استطرد: أعلم أنه طريق طويل، ولكنه الأوحد.
ابتسم موسى وقد التمعت عيناه وعزم على تطبيق ذلك الكلام بحذافيره، حتى يتسنى لهم نشر أفكارهم في القرية.
صوت مختلف:
في مسجد القرية الكبير كان الإمام يلقي درسًا أسبوعيًّا على مسامع الناس، وفي نهاية اللقاء وردت بعض الأسئلة للشيخ، كان منها ما ألقاه صلاح ذلك الشاب الجامعي الذي تبرق عيناه بالحماس:
يا شيخ، كيف يعتقد الإنسان النفع في شجرة لا تملك لنفسها شيئًا؟
علت همهمات متواصلة من رواد المسجد تنم عن اعتراض وسخط، فأسكتهم صوت الإمام وهو يجيب الشاب: يا ولدي لو اعتقد الإنسان في حجر لنفعه.
تعالت صيحات التكبير دلالة على الإعجاب بكلام الشيخ، ولكن لم يكن لكلامه ذات الوقع في نفس الشاب والذي عارض بحماسة شجاعة:
يا شيخ، كيف يودع الله البركة في شجرة والإنسان هو الذي غرس غراسها وبالماء رواها، أيلتمس البركة في شيء قام عليه ورعاه؟!
عادت الهمهمات مرة أخرى ونطق هذه المرة أحد الشيوخ المسنين: ومن أنت حتى تصحح المعلومة للشيخ؟ لقد وجدنا الآباء والأجداد على ما يقوله لك، لماذا تشرد برأيك عنا؟ أم تريد أن تكون كما يقال: خالف تُعرف؟
قام الشاب وهو يقول بعصبية: لأن الله خلق لي عقلًا، وفائدة العقل أن أفكر به، لا أن أسلمه لكل من يقول كلمة بدون سند، ثم أشاح بوجهه عنهم وتركهم وانصرف.
الشيخ مبتسمًا: رفقًا بالشاب يا رجال، أنتم تعلمون حماسة الشباب، لا ريب أنه سوف يعود إلى صوابه، فترفقوا به.
الوافد الجديد:
جلس صلاح في شرفة منزله مسندًا ذراعيه على سورها شارد الذهن، ولم ينتزعه من شروده سوى تلك اليد الحانية التي شعر ببردها على ذراعه.
اعتدل صلاح في أدب جم أمام والده الذي أطلت من وجهه ابتسامة عذبة وهو يقول: فيم تفكر يا طبيب المستقبل؟
ابتسم صلاح بدوره وهو يقول: ما زلت في بداية العام الدراسي الأخير يا والدي وأنت تصر منذ التحاقي بكلية الطب على مناداتي بالطبيب.
ضحك الوالد قائلًا: إن شاء الله يا ولدي، ستصير طبيبًا متميزًا، فأنت بفضل الله تعالى تجمع بين الذكاء والفطنة والشفقة والرحمة والشعور بالمسئولية، وهذه أهم صفات الطبيب الناجح، ثم استطرد الوالد: لم تجبني على سؤالي، مالي أراك شارد الذهن كثيرًا في هذه الأيام؟
زفر صلاح بهدوء وهو يقول: لا شيء يا أبي سوى تلك الخرافات التي امتلأت بها عقول الناس في قريتنا، لست أدري كيف قادتهم عقولهم إلى الاعتقاد في شجرة لا تنفع ولا تضر، فلا الشرع يقر ذلك ولا العقل والمنطق.
الوالد: الجهل يا ولدي، الجهل قد استحكم فيهم، أومأ صلاح برأسه قائلًا: لاشك يا والدي، والذي يزيد الأمور سوءًا أن يقر بهذه الجهالات من يتصدى لتوجيه الناس وتعليمهم.
الوالد: لعلك تقصد الشيخ سعيد، أجاب صلاح: نعم يا والدي أقصده، تابع الوالد حديثه: لديك حق فيما تقول يا صلاح، فمما يؤسف له حقًّا أن يكون أهل العلم أنفسهم متأثرين بهذه الخرافات.
صلاح: أحمد الله يا أبي على سعة علمك، وأتخيل لو لم تحصل على ليسانس الشريعة والقانون من القاهرة واحتكاكك بأهل العلم ماذا سيكون حالنا اليوم؟ ربما كنا نعلق الثياب على شجرة الغريب.
ضحك الاثنان بعد عبارة صلاح، والذي انتبهت حواسه فجأة وكأنه قد تذكر شيئًا، وبالفعل قال: بالمناسبة يا أبي سمعت أن هناك إمامًا جديدًا للمسجد الكبير.
الوالد: سمعت بهذا أيضًا، وأتمنى أن تعين وزارة الأوقاف هذه المرة إمامًا ينتشل الناس مما هم فيه.
وفي الوقت ذاته دخل فرع وزارة الأوقاف بمحافظة قنا شاب في الثلاثين من عمره، يظهر على محياه الوقار، ليتسلم خطابًا تكليفيًّا بالعمل كإمام وخطيب للمسجد الكبير في القرية السالفة الذكر.
وكان الشيخ قد تناهى إلى علمه شأن تلك القرية وأحوال أهلها وما هم عليه من جهل ووقوع في الخرافات، وعلى الفور سارع بتقديم طلب لنقله لمسجد تلك القرية الكبير، وكان لسمعته الطيبة في الوزارة أثر بالغ في قبول طلبه، فلم يكن الرجل يسعى لمجرد التكسب، وإنما كان صاحب رسالة يريد أن ينشر نور العلم في الآفاق ويزيل به آثار الجهل التي رانت على حياة الناس.
شياطين الظلام:
جلس المدعو موسى ورفاقه على مقهى القرية، فمال على أذن أحدهم هامسًا: هل فرغ جابر من إعداد الجهاز للعمل؟ أجاب رفيقه: نعم، وبقيت عشر دقائق بالتمام ويتم البدء، فسأله موسى: المهم أن يقوم بإطفاء الجهاز وإخفاؤه سريعًا بمجرد إصدار الإشارة.
أجاب رفيقه وهو يتلفت حوله: لا تقلق، كل شيء سوف يسير وفق الخطة الموضوعة.
مضت عشر دقائق جاء بعدها أحدهم يلهث في فزع ودهشة، وهو يقول بأعلى صوته على مسامع رواد المقهى: لقد رأيته، رأيت الغريب على الشجرة، رأيته.
اجتمع الناس حوله تكتنفهم الدهشة وهم يستوثقون من حديثه، فتدخل موسى متصنعًا الدهشة: لقد صدقت روايات وحكايات الأجداد إذًا.
سأله أحد الشباب: أي حكايات يا أستاذ موسى؟ أجابه قائلًا: تناقل الآباء حكايات عن ظهور الغريب في الشجرة، وظهر لبعض الناس أثناء سيرهم ليلًا، وها هو سعيد قد رآه الآن.
واصل سعيد إبداء دهشته وهو يقول: تعالوا معي لكي تروا بأنفسكم صدق كلامي، فانطلق الجميع مسرعين إلى أطراف القرية حيث تقبع شجرة الغريب، وبالفعل لاحت صورة من بعيد تمثلت في الشجرة، كانت صورة رجل يرتدي ملابس غريبة، وظلوا ينظرون بحسب ما تسمح به الرؤية من المسافة البعيدة.
قرروا الاقتراب من الشجرة في حذر، وما كادوا يخطون خطواتهم الأولى حتى أطلق موسى إشارة من خلال هاتفه الجوال، وعلى الفور اختفت الصورة فوقف الجميع كل في مكانه يكتنفهم الظلام والذهول.
وفي الصباح كانت القرية بأسرها قد سمعت بما حدث في تلك الليلة، ولقد كان لهذه الواقعة أثر عظيم في توافد الناس على شجرة الغريب للتبرك بها، وازداد يقينهم بها،تمامًا كما دبر شياطين الظلام.
منبر الحق:
في المسجد الكبير بالقرية كان الناس ينتظرون ذلك الإمام الجديد، ومرت دقائق أعقبها ظهور ذلك الشيخ الشاب "بدر"، فارتقى المنبر، وما هي إلا كلمات الأذان قد انطلقت حتى فوجئ المصلون بكلمات نورانية تخرج بأسلوب شيق سلس لم يدع مجالًا لأحد منهم لأن تأخذه سنة أو غفلة.
طرق الشيخ الجديد على قضية الاتباع، اتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يحوم حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله و سنتي).
ولم يتطرق إلى الحديث عن الخرافات والأباطيل المنتشرة في القرية، ولكنه كان يضع حجر الأساس الذي سيبني عليه كل جهوده الدعوية، كما أوضح أن معنى الإسلام هو الاستسلام لله تبارك وتعالى، وأنه لا قول بعد قول الله ورسوله، ينطلق من قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)) [الأحزاب: ٣٦]، وساق في هذا المقام نماذج عظيمة من سير أنبياء الله تعالى وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، وصالحي هذه الأمة.
وبعد الانتهاء من الصلاة أقبل المصلون يرحبون بالشيخ بحرارة ومودة، ويهنئونه على ذلك المستوى غير المعهود في خطبة الجمعة لهذا المسجد، كما دعا له الشيوخ الكبار أن يبارك الله في لسانه الفصيح الناطق بالحق.
وأما صلاح فقد تهلل وجهه فرحًا، وهنأ الشيخ وعرفه بنفسه ودعاه إلى منزله إلا أن الشيخ قد اعتذر بلطف على أن يلبي الدعوة في وقت لاحق، فانطلق صلاح إلى منزله فرحًا يحدوه الأمل في أن يجري الله الخير على يد هذا الإمام الجديد.
البرهان الأعمى:
على سريره كان الأستاذ عبد الرحمن الموظف بالشهر العقاري بقنا يئن من ألم الكلى، والذي أصابه من عدة سنوات، وما إن خفت وطأة الألم قليلًا حتى أتاه زائر، لقد كان ابن عمه وصديقه "شوقي" أتى لكي يطمئن عليه في نوبة مرضه هذه.
جلس بجانبه وتجاذبا أطراف الحديث حول المرض والعلاج والأطباء، فإذا بالأستاذ عبد الرحمن يسمع من ابن عمه ما ثارت به ثائرته: لماذا لا تجرب شجرة الغريب يا عبد الرحمن؟
نزلت الكلمة كالصاعقة على رأس عبد الرحمن، وهب كأنه نشط من عقال وتناسى مرضه، وقال في انزعاج: ماذا؟ تريدني أن أقلد هؤلاء الجهلة، ماذا سيقول عني أبنائي وجيراني والناس جميعًا؟ أرمي بالتعليم والثقافة عرض الحائط وأستجيب لهذه الترهات؟ هل فقدت عقلك يا شوقي؟
شوقي: هدئ من روعك يا صديقي، لقد سمعت فقط بتحسن من جربوا تربتها وأغصانها، أحببت أن تجرب مثلهم، لكن لا عليك كأنك لم تسمعها.
وما إن خرج شوقي من منزل الأستاذ عبد الرحمن حتى دخلت عليه زوجته والتي التقطت طرفًا من حديثهما فهتفت: وماذا في الأمر يا عبد الرحمن؟ جرب لن تخسر شيئًا؟
عبد الرحمن: هل جننت أنت أيضًا يا رضوى؟ تريدين من عبد الرحمن مخيون والذي على وشك أن يكون مديرًا للشهر العقاري أن يقوم بهذه التفاهات؟! ماذا ألم بك؟ هل جننتِ؟!
يا عبد الرحمن كفى عنادًا، أنسيت أنها كانت سببًا في إنجاب زوجة رجب بعد سنة من الذهاب والإياب إلى الأطباء؟ أليس في هذا برهان على صحة ما أقول بشأن شجرة الغريب؟
قاطعها عبد الرحمن: كفى لا أريد أن أسمع هذا الكلام في بيتي مرة أخرى، خرجت الزوجة وهي تتمتم بكلمات خافتة وتركت عبد الرحمن في ثورته.
في الوقت ذاته كان رجب وأهل بيته في سعادة تغمرهم جميعًا بعد أن ولدت زوجته صبيًّا جميلًا، فأقاموا احتفالًا كبيرًا من أجل ذلك ودعوا إليه الأهل والأقارب، وفي مكان اجتماع الرجال للاحتفال كان الجميع يهنئ رجب بمولوده الأول.
رجب: الحمد لله على هذه النعمة، والبركة في شجرة الغريب.
أحد الحاضرين: بالتأكيد يا رجب لم يقصدها أحد إلا وقد قضيت حاجته.
آخر: لقد كانت تجارتي كاسدة، ودلني أحد الأفاضل على شجرة الغريب، فما هو إلا أربعة أشهر حتى فتحت علي الأرزاق من حيث لا أدري والحمد لله.
رجب: وبعد كل هذه الأدلة يأتي من هم أمثال الفتى صلاح والأستاذ عبد الرحمن، ويقولون أنها خرافات، ضحك الجميع بصوت مرتفع، فقد كان كل منهم في قراره نفسه يريد برهانًا من غيره وقد كان.
الجريمة:
شخص ما يتسلل في الظلام الدامس إلى أطراف القرية، يتلفت يمينًا وشمالًا خشية أن يراه أحد، ولم ينس أن يتلفع بعباءة سوداء تجعل من يراه من بعيد لا يعرف هويته.
اقترب من شجرة الغريب يبغي تعليق شيء من ثيابه عليها، وهم بأخذ حفنة من تربتها، إلا أنه قد استوقفه صوت تناهى إلى سمعه من مكان منحدر خلف التبة التي تشخص فيها الشجرة، فتسمر في مكانه عندما ميز أصحاب الأصوات:
موسى: افهموني، لقد آثرت أن نجتمع في هذا المكان في جنح الليل لأنه من المستحيل أن يرد على هذا المكان أحد في هذا الوقت، فما نتحدث فيه اليوم ينبغي الاحتياط له حتى لا ينكشف تنظيمنا السري.
أثارت الكلمات فضول الرجل المنصت ولهفته للتعرف على بقية الحوار، فأصغى سمعه:
سعيد: يا أستاذ موسى أرى أنك تبالغ في السرية والاحتياطات، نحن ننفذ الخطط بدقة متناهية يستحيل معها انكشاف أمرنا، هل نسيت أمر الصورة التي رآها الناس ولم يدركوا أنها صورة وهمية صنعناها نحن بفضل التقنية العالية التي زودنها بها الزعيم؟
اتسعت حدقتا الرجل وهو يواصل الإصغاء في انتباه:
موسى: نعم يا سعيد نحن ننفذ بدقة وسرية ولكن لن يضرنا مزيد من الحرص والسرية، أنتم تعرفون خطورة انكشاف شبكتنا، ولذلك يؤكد القادة على توخي الحرص والحذر في كل صغيرة وكبيرة.
وتابع موسى: هناك بعض التعليمات بخصوص إقامة الطرق الصوفية في القرية وتشجيعها، ومن ثم ا ختراقها ونشر أفكارنا من خلالها.
تدخل أحد أعضاء الفرقة الجدد: ولم نتخذ الفكر الصوفي ستارًا؟ لماذا لا ندعو مباشرة لأفكارنا؟
ضغط موسى على أسنانه وهو يقول: حسنًا، بما أنك قد التحقت مجددًا بالفرقة فسأعيد ذكر ما يعرفه زملاؤك: طبيعة المجتمع المصري لا تقبل النشر المباشر لأفكارنا، وهذا ثابت بالتاريخ، وأقرب الشرائح لدينا في مصر هم الصوفية، والدليل على ذلك أن أقطاب التصوف وأعلام الصوفية كالبدوي والدسوقي وغيرهما قد جاءوا مصر خصيصًا لنشر أفكارنا؟
كان الحديث تتصاعد أهميته بالنسبة للرجل الذي يتصنت على موسى ورفاقه، وكان في شغف لمعرفة المزيد من هذه المعلومات الخطرة، ولكن في هذه اللحظة التي وصلت إليها عبارة موسى الأخيرة حدث ما لم يكن بالحسبان.
دق جرس الهاتف الجوال للرجل والذي جعلت الفريق بأكمله ينتفض من مكانه إلى مصدر الصوت، والتفوا حول صاحبه، وكانت المفاجأة
موسى: الأستاذ عبد الرحمن؟ ما الذي أتى بك إلى هنا.
عبد الرحمن: ساقتني الأقدار إلى هنا حتى أكشف ألاعيبكم القذرة للناس، إلى أي جهة تنتمون؟ أخبروني.
نظر الجميع بعضهم إلى بعض في صمت وخوف شقه صوت سعيد: ما الذي سمعته يا أستاذ عبد الرحمن؟
عبد الرحمن: سمعت كل شيء أيها الخونة، إلى حساب من تعملون؟ سوف أفضحكم على رؤوس الأشهاد، ولم يكد يكمل عباراته حتى هجم عليه اثنان من الخلف يكبلان حركته، وكمم الثالث فم الرجل بمنديل حتى لا يصرخ، وقد اتسعت عيناه إلى آخرهما وهو يرى شيئًا يلتمع في الظلام على نور القمر، وما هي إلا ثوان معدودة حتى غرس موسى خنجر الغدر في قلب الرجل البريء.
وقف الجميع برهة لا يتكلمون، فشق موسى صمتهم بقوله: هيا، احفروا له حفرة وعمقوها قدر استطاعتكم، فسارع الفريق لاستكمال جريمتهم وطمس معالمها في تربة الشجرة، شجرة الغريب.
إشارة يفهمها اللبيب:
(لقد كان حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا تعجز الكلمات عن التعبير عنه، فإذا توضأ تسابقوا إلى ما يتساقط منه من ماء الوضوء، وإذا تنخم لم تقع نخامته على الأرض بل في كف أحدهم، يلتمسون البركة في آثار الرسول الكريم، وأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب منه وعن يمينه غلام أصغر القوم والأشياخ عن يساره فقال: (يا غلام أتأذن أن أعطيه الأشياخ)؟ فقال: ما كنت لأوثر بفضل منك أحدًا يا رسول الله فأعطاه إياه [1].
حتى الغلام الصغير يحرص على آثار النبي صلى الله عليه وسلم من فرط حبه له، يلتمس البركة فيها، لأنها آثار من؟ آثار خير من وطأت قدماه الثرى، آثار من وضع الله تعالى فيه البركة).
كان هذا مقطع من خطبة رائعة عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ألقاها الشيخ "بدر"، وقد تأثر بها الجميع، وذرف بعضهم الدموع، وتفاعلوا مع الخطبة أيما تفاعل، وبعد الصلاة استوقف الشيخ المصلين قبل أن يغادروا المسجد للتعقيب على موضوع الخطبة:
(فليعلم الجميع أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولكن ذلك خاص به صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز التبرك بآثار الصالحين غيره).
تدخل أحدهم: ولماذا يا شيخنا، ما الذي يمنع التبرك بآثار الصالحين غيره؟
أجاب الشيخ: لأن الله تعالى اختص بذلك نبيه وجعل في ذاته البركة، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التبرك به وبآثاره يوم كان حيًّا وأذن لهم بذلك الإقرار، أما غيره صلى الله عليه وسلم فمن يقرنا على التبرك بهم، لذلك لم يتبرك الصحابة ولا التابعون مثلًا بآثار أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي وغيرهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، مع أنهم أحرص الناس على الخير، بل إن عمر الفاروق في بعض الفتوحات عمَّى قبر النبي "دانيال" حتى لا يتبرك الناس به.
والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يتبركوا بالمواضع التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيها، فلم نسمع أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا يتبركون مثلًا بغار حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه قبل نزول الوحي.
وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وانعدام آثاره فلا يجوز التبرك والتمسح بقبره، نظر الناس بعضهم إلى بعض في استنكار، فتدخل أحدهم قائلًا: كيف يا شيخ؟ أليس قبر النبي صلى الله عليه وسلم بقعة مباركة، وفي حدود علمي أن عمر طلب أن يدفن مع صاحبيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
أعجب التعليق جموع المصلين فتبسم الشيخ "بدر" وقال في هدوء: أحسنت في عرضك للكلام، ولكني أجيبك بأن عمر فعل ذلك طلبًا في الصحبة وليس طلبًا للبركة، ودليلي ما سقته أنت: أن يدفن مع صاحبيه، أي كانت الصحبة هي المطلوب، وإذا كان فعله التماسًا للبركة فكيف تؤثره عائشة على نفسها وهي التي كانت ترجو أن تدفن مع زوجها وأبيها، هل تؤثره بالبركة والطاعة على نفسها؟ لم يكن هذا من هدي الصحابة أن يؤثروا أحدًا على أنفسهم في طاعة الله، فقد كانوا سباقين مسارعين في الخيرات متنافسين فيها.
هز الناس رؤوسهم في إعجاب من ذلك الرد الذي تقبله العقول، فتابع الشيخ: وأسألكم سؤالًا: أي الناس أحرص على الخير والطاعة والبركة صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أم سائر الناس في شتى العصور؟ أجاب الجميع في صوت واحد: الصحابة بالطبع.
الشيخ بدر: أحسنتم، فأسألكم سؤالًا آخر: هل سمعتم بأن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتمسحون بقبره ويلتمسون البركة فيه؟ أتحدى أي إنسان أن يأتي بما يدل على ذلك من الآثار الصحيحة، فلذلك التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بدعائه بوضوئه، بشعره، ...، أما بعد وفاته وزوال آثاره فلا، وأما الصالحون غيره فيجوز التبرك بمجالستهم ودعائهم ووعظهم.
خرج الناس بعد اللقاء وهم يتناولون موضوع الخطبة والتعليق عليها، ما بين مؤيد ومقتنع ـ وهم كثر ـ وبين رافض متهكم وكان موسى ورفاقه من أبرز المعارضين.
ولكن إثارة هذا الموضوع كانت مجرد إشارة من الشيخ "بدر" لشيء آخر يرمي إليه، كانت إشارة يفهمها اللبيب.
المؤامرة:
كان حديث القرية في هذه الآونة عن الأستاذ عبد الرحمن الذي اختفى فجأة، ولم يدع أهله بالتعاون مع سكان القرية مكانًا إلا وبحثوا فيه، بل امتد البحث ليشمل مستشفيات وأقسام الشرطة التابعة لمحافظة قنا بكل مدنها وقراها، ولكنهم لم يتوصلوا إلى مكانه، وأشارت أصابع الاتهام إلى بعض أقاربه لنزاع حدث بينهم على ميراث، إلا أن أحدًا منهم لم يمتلك دليلًا على ذلك.
وقاد الشيخ "بدر" حملة البحث بنفسه، فرفعت أسهمه لدى سكان القرية رغم أنهم لم يعثروا على الرجل، ومع مرور الأيام ازدادت محبة الناس له، فصار يتصدر المجالس لحل مشكلات الناس، والإصلاح بينهم، ولم يعد هناك من عرس أو وليمة أو مناسبة سارة إلا ودعي إليها الشيخ "بدر".
وصارت القلوب تهفو إليه بحسن خلقه وصبره وحلمه وسعة صدره، وذلك الإخلاص في الكلمة الذي يتوسمه فيه كل من سمعه.
ولم يفت الشيخ بدر بطبيعة الحال أن يتفقد أهل المفقود، بل كان يمر على أعيان البلدة لجمع المال، وقام بافتتاح محل لتجارة المواد الغذائية، وعين فيه شابًّا براتب شهري، وكان في نهاية كل أسبوع يقوم بمراجعة الحسابات بنفسه، ويرسل الأرباح إلى أسرة الأستاذ عبد الرحمن.
كان أهل القرية سعداء بذلك الشخص المعطاء إلا ثلة من الأشرار لم يرق لهم الأمر، كانوا يشعرون بأن هذا الشيخ في طريقه إلى تنوير الناس وهو بذلك يقف في طريق نشر مذهبهم، فلئن كان يحارب الخرافات فكيف سيفعل مع نشر مذهب كمذهبهم له أبعاده السياسية.
موسى: لقد بدأ القلق ينتابني فعلًا من ذلك الرجل.
أحد أعوانه: والعجيب أن الناس صاروا يودعونه الثقة المتناهية، لست أدري ماذا فعل بهم؟!
آخر: ولكن ألم تلاحظوا أنه لم يتحدث مطلقًا عن شجرة الغريب؟ برأيكم لماذا؟
موسى: إما أنه يتجنب الصدام مع أهل القرية، أو أنه يمهد لذلك بأحاديثه عن الأولياء والأضرحة.
سكت موسى برهة ثم التمعت عيناه بخبث وهو يستطرد: ولكننا لن نمهله.
أحد أتباعه: ماذا سنفعل؟
أجاب موسى في جزل: سنفجر موضوع شجرة الغريب في المسجد في درسه الذي يعقده مساء الجمعة، وأنتم تعلمون جيدًا ما الذي تعنيه شجرة الغريب لدى سكان القرية، قالها ثم انطلق ضاحكًا وقد شعر بأنهم ظفروا بالشيخ.
ابن القرية:
اجتمع الشيخ بدر على مائدة الغداء في دار والد الدكتور صلاح، حيث إن العلاقة بينهم قد توطدت إلى حد بعيد، فلم يكن صلاح ووالده أمام رجل علم ودعوة في المساجد وحسب، ولكنهم وجدوا فيه شابًّا مثقفًا واعيًا معتدلًا واسع الأفق متحضرًا، لا يشعر أحد من الناس من كافة الشرائح بأية فجوة أو حاجز بينه وبين بدر.
والد صلاح: معنى كلامك يا ولدي أنك تقيم وحدك بعد وفاة والدتك، وليس لك أحد من العائلة إطلاقًا؟
بدر: نعم يا عم، لأننا في الأصل لسنا من سكان قنا، لقد كان جدي مسيحيًّا من القاهرة، ونزح إلى قنا بعد إسلامه وتزوج منها ولم ينجب سوى أبي، والذي تزوج من فتاة وحيدة، كانت هي أمي، ثم توفي وأنا في الثامنة من عمري، وأما والدتي فقد توفيت منذ عامين.
صلاح: ما أروع قصة كفاحك يا بدر، إنني أشعر أن الله تعالى قد بعث لي أخًا أكبر لم أكن أحلم بمثله في يوم من الأيام.
بدر: شعور متبادل يا صلاح، وعلم الله أنني أحببتكم وأود لو كنت من أبناء هذه القرية.
الوالد: تود؟ أنت بالفعل منها يا بني، لقد دخلت قلوبنا منذ رأيناك، اعتبرنا عائلتك وأهلك.
بدر: حديثك يا عم قد شجعني على أن أطلب منكم طلبًا أعرف أنه قد يكون كثيرًا عليّ.
صلاح: بالطبع يا بدر، أليس كذلك يا أبي؟
الوالد: بكل تأكيد يا ولدي، اطلب ما بدا لك.
بدر: إنني أطلب منكم يد كريمتكم عفاف، خيم الصمت على صلاح ووالده وكأنهما لم يتوقعا ذلك المطلب، إلا أنه شق صمتهما بقوله: لا أريد ردًّا الآن يا عمي، أعرف أنني غريب عنكم، ولست من عائلة مرموقة تليق بمصاهرتكم، غير أنني لن أجد فتاة أفضل من زهرة نشأت في ذلك البستان الطاهر، وإذا لم يقدر الله تعالى الارتباط بكم، فأرجو ألا يؤثر ذلك على علاقتي بكم، فأنتم بالفعل أهلي.
ابتسم والد صلاح قائلًا: بالفعل يا ولدي، ولكن امنحنا فرصة للتفكير.
انصرف بعدها الشيخ بدر، وترك الوالد وولده يتشاوران في طلب بدر.
الوالد: ما رأيك؟
صلاح وهو يغمز بعينه: توكل على الله.
الوالد: هذا أيضًا رأيي، لكن يبقى رأي عفاف، ويبقى كذلك أن تذهب إلى قنا وتسأل عنه جيدًا، في الأوقاف، وفي مكانه الذي كان يسكن فيه.
صلاح: حسنًا يا أبي سأفعل إن شاء الله.
عبق الماضي:
حدق أهل القرية في تلك السيارة الفاخرة التي تقل زائرًا غريبًا، قد ارتدى نظارة شمسية تعكس مع ملامحه الشقراء صورة رجل من الوجهاء.
سأل ذلك الزائر الغريب عن بيت عمدة القرية، فاستقل أحدهم معه السيارة يقوده إلى حيث يريد، وما هي إلا دقيقتان حتى كان الغريب يقف أمام بيت عمدة القرية، والذي استقبله بحفاوة وكرم معهودين من أهل الصعيد، وما لبث أن عرَّفه الزائر بنفسه: دكتور أحمد منصور، باحث في التاريخ.
العمدة: أهلًا بك ومرحبًا، حللت أهلًا ونزلت سهلًا، البلدة بلدتك والدار دارك، ولكن هل من خدمة أستطيع تأديتها لك يا دكتور؟
دكتور أحمد: الأمر يتعلق بموضوع تاريخي بالغ الأهمية، ليس لي وحدي، ولكن لأهل القرية أيضًا.
العمدة: أي موضوع؟
الدكتور أحمد: دعني أحكي لك من البداية، منذ ...
قاطعه العمدة قائلًا: معذرة، قبل أن تبدأ في حديثك هل يمكنني دعوة شخصين يسمعان معي ما تقول؟ هم من خيرة الشباب المثقف الواعي، وأحب في مسألة كهذه أن يكونا معنا.
مط الدكتور شفتيه قائلًا: بكل سرور، لا مانع لدي مطلقًا، وما هي نصف الساعة حتى كان بين أيديهما الشيخ "بدر"، والدكتور صلاح الذي حصل حديثًا على بكالوريوس الطب، وعمل في مستشفى بقنا، وكانت الساعة قد تجاوزت الثامنة ليلًا.
استأنف الدكتور حديثه مع الجميع: في عهد محمد علي باشا، وتحديدًا عام 1811م، حدثت مذبحة عظيمة تسمى مذبحة القلعة، هز الشابان رأسهما دلالة على معرفتهما بهذه الأحداث التاريخية جيدًا، فتابع الدكتور: دبرها محمد علي لخصومه من المماليك لكي يتخلص منهم قبل سفر والده إلى الجزيرة للقضاء على دعوة محمد بن عبد الوهاب.
هذه المذبحة نجا منها البعض، كان من بينهم أحمد بك الخازندار، هنا قاطعه الشيخ "بدر"، عفوًا يا دكتور، معلوماتي أن الذي نجا منها مراد بك وفر إلى الشام، و..
قاطعه الدكتور بدوره: أحسنت، لكن هناك روايات تاريخية أخرى غير مشهورة، تفيد بأن هناك أميرًا مملوكيًا يدعى أحمد الخازندار لم يحضر المذبحة حيث كانت زوجته تضع حملها، ولما علم بها فر إلى الصعيد وتحديدًا إلى قنا.
اتسعت عيون الجميع إزاء هذه المعلومة الجديدة، فاستطرد الدكتور أحمد: وتابعته فرقة من جنود محمد علي باشا تريد القضاء عليه، بعدما فر مع زوجته ووليده في نفس يوم الولادة على حصان واحد، وماتت زوجته في الطريق وعثرت قافلة تجارية على جثتها بعدما تركها الجنود للحاق بالأمير المملوكي، وقام رجال القافلة بدفنها كما أشارت الروايات التاريخية.
سأله العمدة: وماذا كان مصير أحمد بك هذا؟
الدكتور أحمد: بعد البحث والتدقيق، توصل الباحثون إلى أن أحمد بك قد وصل إلى قرية من ثلاث، القرية التي تقع قبلكم، والأخرى التي تقع بعدكم، ثم صمت برهة، ونظر في عيون الحاضرين قائلًا: وقريتكم هذه.
الدكتور صلاح: وهل توصلت إلى تحديد مكان نزوله؟
الدكتور أحمد: لا أخفي سرًّا، قد كان أمرًا بالغ الصعوبة، لأن الناس في هذه القرى لو كانوا يعرفون شيئًا عنه لحلت القضية، ولكن ...
قطع حديثه صوت أحد الخفراء وهو ينادي عمدة القرية لاهثًا: حريق ضخم يا سيدي العمدة، حريق في مخزن الغلال نشب في البيوت المجاورة.
عذاب الضمير:
دخل ذلك الرجل المقنع بعباءة سوداء على مصطفى، أحد أتباع موسى، والذي كان يغط في نومه، فربت على يده في عنف، فقام من نومه فزعًا يقول: من أنت؟ وماذا تريد مني؟
ضحك الرجل المقنع وهو يقول: ألا تعرفني يا مصطفى، ثم كشف عن وجهه، فتراجع مصطفى في ذعر وهو يقول: أنت؟ غير معقول، أنت ...
أجابه المقنع: أنا ميت أليس هذا ما تريد قوله؟
مصطفى: أنا لم أقتلك، موسى هو الذي فعل، وإبراهيم وعرفان هما من قيدك، قاطعه الأستاذ عبد الرحمن: وأنت تسترت على الجريمة، ثم اقترب من مصطفى ووضع يده على رقبته وضغط بكل قوته، و ...
أفاق مصطفى فزعًا من نومه وهو يمسك برقبته، وظل يلهث ويتنفس بصعوبة، وزوجته تهدئ من روعه، وهي تقول: الكابوس مرة أخرى يا مصطفى؟ أخبرتك ألا تكثر من الطعام قبل النوم.
سكتت برهة ثم تابعت في حذر: ولكنك تقول أثناء نومك في كل مرة لست أنا من قتلك، ماذا ترى يا مصطفى؟
صفعها مصطفى على وجهها وهو يقول: إياك أن تتحدثي بهذا الأمر، إنه مجرد كابوس، ارتاعت المرأة وهي تمسك بخدها قائلة: حسنًا، حسنًا لن أخبر أحدًا.
قام مصطفى من فراشه ووقف في شرفة منزله وهو يحدث نفسه: متى سينتهي هذا العذاب؟ أحلام تلاحقني ولكنها تكاد تقتلني، لم أعد أتحمل، لماذا يأتيني أنا بالذات، مع أنني لم تمتد يداي إليه.
ثم عض على أنامله فاستطرد: أيعقل هذا؟ القتلة ينامون ملء جفونهم، وأنا لم تمتد يداي إليه ومحرم علي أن أهنأ بنومي؟ ليتني لم أكن معهم، ليتني ما انضممت إلى هذه المجموعة المشبوهة، اللعنة على إغراءاتهم ووعودهم، يارب نجني مما أنا فيه، هل أعترف على نفسي وعليهم وألقى مصيري وجزائي؟ لالا، مستقبلي ومستقبل أسرتي سيدمر، إذًا ماذا أفعل، ماذا أفعل؟
قطعه من الاستغراق في التفكير تلك النار التي تصاعدت من ناحية مخزن الغلال، وتناهى إلى سمعه صوت الناس يصرخون معلنين وقوع الحريق، فنزل مسرعًا إلى حيث يذهب الناس.
وأمام مخزن الغلال والبيوت المجاورة التي نشب فيها الحريق، كانت ملحمة عظيمة من التكاتف والتلاحم والتعاون، سطرها أهل القرية في إنقاذ ساكني البيوت وإطفاء الحريق، ولقد أبلى الشيخ بدر والدكتور صلاح بلاءً حسنًا في جرأة يحسدان عليها، واشترك معهم مصطفى والذي تفانى في بذل جهده، وكأنه يكفر عن شيء من خطاياه بحق هذه القرية.
وتمت السيطرة على الموقف تمامًا ولم تقع خسائر في الأرواح، ووجه الشيخ بدر الشكر إلى مصطفى على جرأته وبذله قائلًا: من حسن حظ هذه القرية أن بها شبابًا مثلك يا مصطفى، يعرضون أنفسهم للخطر من أجل الآخرين، ويحافظون على أرواح الناس.
وقعت الكلمات على قلب مصطفى وكأنها تقريع وسباب لا مدح وثناء، وود لو صرخ أمام الناس بأنه مجرم، لكنه اكتفى بالصمت دون أن يعلق بكلمة، واستدار قافلًا إلى بيته.
قلادة الأميرة:
وفي الليلة التالية اجتمع في منزل العمدة كل من الدكتور أحمد الباحث التاريخي، والدكتور صلاح ومعهم الشيخ بدر، لكي يكملوا ما بدأه الدكتور من الحديث عن الأمير الملوكي الهارب.
الدكتور أحمد: لقد نزلت القريتين لعلي أتعرف على بعض المشاهد الأثرية، أو الأماكن التي تتعلق بها أحداث تاريخية، لكنني لم أجد في إحداهما سوى ضريحًا لرجل مات في منتصف القرن التاسع عشر، ووجدت في القرية الأخرى روايات متناثرة عن منزل لكاتب في ديوان ملك الصعيد همام بن يوسف قد فر إلى هذا المكان بعد وفاة همام، وقيل أنه عاش في ذلك البيت سنتين ثم مات.
الشيخ بدر: إذًا لم يبق سوى هذه القرية، أليس كذلك؟
ابتسم الدكتور أحمد وهو يقول: نعم، ولقد جمعت معلومات عن قريتكم هذه في تلك الجوانب، ولم أجد تذكارًا للماضي سوى تلك الشجرة التي تطلقون عليها شجرة الغريب.
اتسعت عيون الجميع في دهشة، فتدخل العمدة قائلًا: وما للشجرة بموضوع الأمير؟! إنها شجرة مباركة، لها منزلة كبيرة لدينا، ولها أسرار في أصلها.
سأله الدكتور أحمد: أي أسرار.
العمدة: سمعنا من الآباء والأجداد بأن رجلًا غريبًا قد نزل قريتنا عند تلك الشجرة والتي سميت باسمه، ويقال أنه كان من أولياء الله الصالحين أصحاب الأسرار، وأنه قد دفن في أصلها أسرارًا سوف تصيب اللعنة كل من يحاول التعرف عليها، فصارت هذه الشجرة مباركة، جربها الناس في الاستشفاء والتداوي والإنجاب والزواج وفي أمور كثيرة.
اتسعت عينا الدكتور أحمد وهو يفكر بعمق، أما الدكتور صلاح فقال: يا سيدي كيف تصدق هذا الهراء؟ لعله دجالًا أو رجلًا ليس في كامل قواه العقلية.
تهكم العمدة على حديث صلاح وأردف: دجال؟ الذي لا تعرفه يا صلاح يا ولدي أن ذلك الغريب يظهر من فترة لأخرى عند تلك الشجرة وكأنه يحذر مجددًا من الاقتراب من أسرارها، ولعلك سمعت بما حدث مع سعيد منذ فترة قليلة، لقد رأى ومعه عدد ليس بالقليل من أهل القرية ذلك الغريب يظهر على الشجرة، ثم تقول بأن هذا دجل؟!
كان الشيخ بدر يستمع بهدوء إلى الحديث، ووجد أنه قد حان الوقت لكي يبدأ مع الناس في وأد هذه الاعتقادات المتعلقة بشجرة الغريب، فلقد ساءه تعلق الناس بها، ورأى أنه مهد لهم بما يكفي في جانب التبرك بآثار الصالحين والتبرك بالأحجار ونحوه، وآن الأوان لكي يطرق هذه الموضوع الشائك لدى أهل القرية.
انتزعه من الاستغراق في تفكيره كلمات الدكتور أحمد وهو يقول: لو صح ظني قد يكون هذا الغريب هو أحمد بك الخازندار نفسه.
الدكتور صلاح: ألم تقل بأن الأمير المملوكي قد خرج هاربًا بصحبة زوجته وولده؟ فأين ذهب الرضيع؟
الدكتور أحمد: لم يعرف أحد عنه شيئًا، ليس هو فحسب، وأيضًا قلادة الأميرة جولنار.
انتبهت حواس الجميع فتدخل العمدة: أي قلادة؟
الدكتور أحمد: قلادة زوجة الأمير المملوكي أحمد الخازندار، قلادة كبيرة من الذهب الخالص منقوش عليها اسميهما معًا، وبحسب ما تناقله الناس عن وصيفتها، أنها سمعت أحمد بك الخازندار قبل الهروب يحدث زوجته بإخفاء خريطة صغيرة الحجم في القلادة.
اتسعت عينا العمدة وهو يقول: أي خريطة؟
الدكتور أحمد: خريطة لكنوز وأموال أحمد بك التي كان قد خبأها قبل المذبحة، حيث كان يستشعر الخطر من جانب محمد علي باشا.
صمت الجميع فشق صمتهم كلام الدكتور أحمد: فلو كان الغريب هو الأمير، فإنه يكون قد خبأ القلادة في مكان الشجرة، وساعتها سيكون كشفًا تاريخيًّا هامًّا أن نعرف مصير ذلك الأمير مجهول المصير.
ثم أردف في حماس: سعادة العمدة إنني أعرض عليك ثلاثة أرباع ذلك الكنز إن وجدناه، ولاشك أن ذلك قد يحدث نقلة بعيدة في أحوال قريتك.
تدخل العمدة في لهفة: وكيف سنعرف أنه هو الأمير أم لا؟
الدكتور أحمد: نحفر في أصل الشجرة.
هنا انتفض العمدة كالملدوغ وهب واقفًا: ماذا تقول؟ إياك أن تكرر هذا الكلام، سأعتبر أنني لم أسمع شيئًا، لك من الضيافة ثلاثة أيام، وبعدها لا شيء لك عندي، قالها العمدة تاركًا المضيفة التي أعدها للدكتور أحمد للمبيت فيها، بينما غرق الثلاثة في الصمت والتفكير.
استأذن بدر وصلاح من الدكتور أحمد للانصراف، وفي الطريق:
بدر: صلاح، لم تقل لي ما رأي العروس، أرجو أن يكون القبول قد وُجد لديها كما حدث معي، رغم أنني قد جلست معها لدقائق معدودة في زيارة الخطبة.
صلاح: نعم يا بدر أبشر، لقد دخلت قلوب الجميع، لقد كنت أنوي أن أخبرك بأن أبي يدعوك بعد غد للكلام في تفاصيل الزواج.
بدر: على بركة الله.
الزوبعة:
في درس مساء الجمعة، أمسك الشيخ بدر بعصا صغيرة، وهو يقول للحاضرين: هذه عصا مباركة، من يشتريها بعشرة آلاف جنيه؟
ضحك الجميع في وقت واحد، وهم يسمعون هذه الدعابة من الشيخ، إلا أنه بعدما تبسم أعاد عليهم الكلام، وقال لماذا لا تصدقوني إنها مباركة؟
تدخل أحد الحضور: وما يدريك يا فضيلة الشيخ أنها مباركة، هنا تهلل وجه الشيخ وهو يصيح: أحسنت، سؤال رائع، لديك حق، ما الذي يدريني أنها مباركة.
كان موسى ورفاقه قد أتوا إلى اللقاء خصيصًا لكي يفجروا موضوع شجرة الغريب لإثارة الناس وتأليبهم على الشيخ بدر، إلا أنهم إزاء هذه المقدمة التي ابتكرها الشيخ، ظلوا صامتين يفكرون في هذا الكلام العجيب، وما المراد منه، إلا أن الشيخ لم يمهلهم فاستطرد: هل توافقون على سؤال أخيكم هذا؟ أجاب الجميع بصوت واحد: نعم، ما الذي يدريك أنها مباركة؟
أجاب الشيخ: البركة شيء يضعها الله حيث يشاء أليس كذلك؟ أجابوا: نعم، فأردف الشيخ: والوسيلة لمعرفة موضع البركة يكون بالوحي من عند الله، أليس كذلك؟ أجابوا بصوت خافت وكأنهم يترقبون بوجل ما بعد هذه الكلمات: بلى.
هنا أخذ الشيخ نفسًا عميقًا وقال بهدوء: إذًا يا أهل القرية الأحباب: ما الذي يدرينا بأن شجرة الغريب شجرة مباركة نلتمس فيها البركة، ونستشفي بتربتها، ونعلق عليها ثيابنا ابتغاء الرزق أو الشفاء أو الولد أو الزواج؟
صمت الجميع ونظر بعضهم إلى بعض، لا يدرون ماذا يقولون، إلا أن رجلًا منهم قال: هكذا أخبرنا الآباء والأجداد.
قال الجميع: نعم نعم، فأجابهم الشيخ: إذًا فلتعبدوا الأوثان، تعالت الهمهمات باستنكار، قال أحدهم: ماذا تقول يا شيخ؟
الشيخ: لقد كان أجدادكم الفراعنة في هذه المناطق يعبدون الأصنام، ويرون أن بيدها كل الخير والشر، فلماذا لا تعبدوها كما عبدها أجدادكم.
في ذلك الوقت كان موسى يهمس في أذن رفيقه سعيد: يا له من خبيث، لقد استطاع أن يمتص ثورة الناس بهذا الكلام المثير.
أحد الحضور: لأن ديننا نهانا عن ذلك، وديننا هو دين التوحيد، الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، نحن أهل لا إله إلا الله يا شيخ.
الشيخ: أحسنت، لا نعبدها كما عبدها أجدادنا، لأننا نحتكم إلى الدين، هو الحاكم على تقاليد الأجداد والآباء وليس العكس.
رجب: ولكن يا شيخ التجربة أثبتت ذلك، كثير منا جربها، وأنا منهم، لقد مكثت زوجتي عامًا كاملًا ولم تحمل بجنين، وبعدما جربنا الشجرة حملت بعدها بثلاثة أشهر.
الشيخ: ولماذا لم تحمل بعدها مباشرة؟
رجب: كل شيء بقدر الله.
الشيخ: أحسنت، كل شيء بقدر الله، وهذا كان ميعاد حمل زوجتك فلماذا ربطت بين قدر الله وبين الشجرة كسبب؟ هل كنت تذهب بها للطبيب؟
رجب: نعم.
الشيخ: وما أدراك أنه ليس بسبب العلاج والطب؟ وعلى كل حال، تعالوا بنا نذهب إلى من يفصل بيني وبينكم في هذا الاختلاف.
قالوا: نعم، من ترتضي حكمًا؟
الشيخ: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صمت الجميع وبدا المشهد وكأنها صورة فوتوغرافية قد التطقت لهم، واكتنفتهم هالة من الخشوع والسكينة بعد هذه الكلمة، فقالوا: صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: إن حبيبكم صلى الله عليه وسلم قد مر يومًا مع أصحابه وكان فيهم من هو حديث عهد بالإسلام، فمروا على شجرة يقال لها: ذات أنواط، كان المشركون يتبركون بها، ويعلقون أسلحتهم عليها.
فقال حديثو العهد بالإسلام: اجعل لنا ذات أنواط كما أن لهم ذات أنواط، أتدرون بم أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (الله أكبر وقلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (( اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)) [الأعراف: ١٣٨]، لتركبن سنن من من كان قبلكم)[2].
خيم الصمت على الجميع، فالكلام يمس شغاف القلب بالحجة والدليل، ولكنه شيء ورثوه ومعتقد تربوا عليه، صراع يدب في كيان كل منهم.
قطع موسى صمتهم بعصبية: وماذا تقول في صورة الغريب التي ظهرت على الشجرة، أهذه أيضًا خرافات؟
فجَّرت تلك الكلمات نبرة الاعتراض لدى الناس من جديد، ولكن الشيخ قد باغتهم بالإجابة: لماذا لا يكون شيطانًا قد تمثل في تلك الصورة حتى يوهم الناس ويؤكد لديهم هذا الاعتقاد؟
لم يكن ذلك الرد مرضيًا لهم بما يكفي، فبدأوا يخرجون تباعًا من المسجد وقد نشب في نفوسهم الصراع بين كلمات الشيخ وبين موروث الآباء والأجداد، وأما موسى ورفاقه فقد التمعت عيونهم، وابتسموا في جزل، إلا واحدًا منهم كان مطرق الرأس، إنه مصطفى.
وبقي في المسجد الشيخ بدر والدكتور صلاح والذي قال: وما العمل يا بدر؟ أجابه الشيخ وهو مستغرق في التفكير: لا تيأس، سيجعل الله بعد عسر يسرًا.
الرأي:
"دعني، لماذا أنا بالذات؟ خذ ثأرك منهم"..
مصطفى، مصطفى، كانت زوجة مصطفى توقظه من ذلك الكابوس الذي يعتريه، فقام منه فزعًا، وهو يبكي وينتحب.
الزوجة: مصطفى أنا زوجتك، أخبرني لو كان هناك سر في حياتك تخفيه، أنا أم أولادك، ولن أرضى لك الضر، ثم ربتت على صدره فهدأ نحيبه، ثم قص عليها الحكاية منذ البداية.
وفي داره الفسيحة، كان يجلس العمدة مع الدكتور أحمد وأعيان القرية، عدد كبير من الناس قد اجتمعوا في ذلك المكان، ليستمعوا إلى الباحث التاريخي وهو يسرد على أسماعهم ما ألقاه على مسمع العمدة والشيخ بدر والدكتور صلاح.
العمدة: وكما قلت لكم، القرار لكم، ولو صحت توقعات الدكتور أحمد، فسيصيبنا من هذا الأمر خير كثير.
تدخل أحدهم: وماذا لو لم تصدق توقعاته؟
قال آخر: ستصيبنا اللعنة التي أخبر بها الغريب كما ذكر الآباء.
العمدة: أو تصيب الذي يحفر فقط.
سأل أحدهم: سيدي العمدة ماذا تعني؟
العمدة بخبث: لن يقوم بالحفر سوى المتطوعون، أليس هناك من يقول بأن هذه مجرد خرافات؟ إذًا فهذه فرصة ليثبتوا لنا صحة كلامهم، فإن فعلوا كنا معهم في الخير سواء، وعم الخير على الجميع، وإن أصابهم أذى كنا بمعزل عنه.
سأل آخر: من تقصد بقولك يا سيدي العمدة.
العمدة: الشيخ بدر، والدكتور صلاح، ولعل معهم كذلك الدكتور أحمد، قالها ثم انفجر مع الآخرين في الضحك.
الدكتور أحمد وقد التمعت عيناه من الفرح: هذا هو الرأي.
الجميع: نعم هذا هو الرأي.
مائدة الشيطان:
أرخى الليل سدوله، وخيم الظلام على القرية والتي أخلد سكانها إلى النوم، إلا أن قلوبًا مظلمة هي أشد من ظلمة الليل كان أصحابها يجتمعون على مائدة الشيطان.
موسى: هذا المدعو بدر كان دخوله شؤمًا علينا، أفسد لنا كل شيء، وأعتقد أنه لن يستسلم.
سعيد في غضب: لو أردتم رأيي، لابد وأن نقتله.
مصطفى بصرخة مكتومة: لا، ماذا تقول أيها الأبله؟ هل أدمنتم القتل، ألم يكفكم ما فعلتموه بالأستاذ عبد الرحمن.
موسى وهو يمسك بتلابيب مصطفى: تقصد ما فعلناه جميعًا يا مصطفى.
أطرق مصطفى برأسه ثم رفعها قائلًا: ولكن يا موسى فكرة القتل هذه ليست صائبة.
موسى: بل أراها عين العقل يا مصطفى، هذا الرجل لن يسمح لأي أفكار دخيلة بالانتشار، إذا حارب الخرافات وتصدى لافتتان الناس بالأضرحة والقبور والتبرك، فماذا سيفعل عندما نقيم الحسينيات ونظهر شعائر مذهبنا وندعو الناس إليه بصفة مباشرة؟ وحتمًا ستقيد القضية ضد مجهول لأنه ليس له أعداء في القرية.
سعيد: وما هي خطتك؟
موسى: طعنة في الظلام من الظهر وهو متوجه إلى مسكنه غدًا الخميس بعد صلاة العشاء.
مصطفى: حذار أن تفعلوا، صفعه موسى على خده، وهو يقول: اسمعني أيها الأحمق، نحن جميعًا في مركب واحد، إما أن تسير بنا ونصل، وإما أن نغرق جميعًا، هل فهمت؟
أطرق مصطفى برأسه، ثم أشاح بوجهه عنهم وهم يرسمون تفاصيل خطتهم القذرة.
ليلة الدم:
توجه بدر بصحبة صلاح إلى بيت الأخير بعد صلاة العشاء، وهنالك جلس مع صلاح وأبيه وقد شعر بدفء الجو الأسري، وازداد تعلقه بتلك الأسرة الطيبة.
بدر: عمي، لقد بعت سكني هناك في قنا، وأعتزم شراء سكن هنا في القرية.
الوالد: ولماذا تشتري سكنًا يا بني، لدينا شقة فارغة غير شقة صلاح التي سوف يتزوج بها في المستقبل، وقد كان لي ولد ثم صار لي اثنان.
بدر: عفوًا يا عمي، أستأذنك في أن أقيم بسكن من حر مالي.
صلاح مازحًا: هكذا فلتظهر على حقيقتك، تقول: أهلي أهلي، وعندما جاء أول اختبار رسبت فيه يا فضيلة الشيخ.
الوالد: لماذا يا ولدي؟ أنت ابني بالفعل، لماذا لا تريد أن تقيم بالقرب مني، وعلى كل حال طالما كانت هذه رغبتك فلا مانع لدي.
قام بدر ليستأذن في الذهاب، واصطحبه والد صلاح إلى الباب، فنظر بدر إلى الوالد الحنون لحظات، ثم قال له: عمي، أريدك أن تأخذني بحضنك الدافئ، وعلى الفور عانقه الوالد بشدة، وقد دمعت عيناه لذلك الذي يتدفق من قلبه تجاه الشاب، حتى أن المشهد قد أبكى عفاف وأمها وهما ينظران إليهما من خلف الباب.
انتشلهما صلاح من ذلك العناق الطويل وهو يخفي تأثره بذلك الموقف بمزاحه، ثم قال: هيا يا فضيلة العلامة، سوف أصطحبك إلى منزلك.
نزل الشابان وهما يتحدثان بشأن القرية وأحوالها، وما إن انتصف الطريق حتى ألح بدر على صلاح بأن يرجع، فودعه واستكمل سيره إلى سكنه.
وفي الظلام كان أحد أتباع موسى يتسلل خلف بدر ببطء متقنعًا، ثم أخرج سكينه بهدوء وطوح به في الهواء باتجاه بدر، و ...
خذ حذرك يا شيخ، قالها مصطفى وهو يندفع تجاه بدر وقد تلقى بدلًا منه طعنة غادرة، وما إن سمع بدر الصوت حتى استدار فوجد مصطفى قد غرز السكين في صدره، وأما القاتل فقد ولى هاربًا.
أسنده بدر على ذراعه وهو يصرخ: أيها الناس، النجدة، نزل الناس إثر صراخه، وتجمعوا حول مصطفى الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ورأسه على ذراع بدر.
مصطفى وهو يلهث في ألم: سامحوني، سامحوني جميعًا.
بدر: لا تتكلم يا مصطفى، لا تجهد نفسك سنقلك إلى المستشفى، أريد سيارة بسرعة.
مصطفى: لا وقت لدي يا شيخ بدر، فقط اسمعوني، ما أقوله أهم من حياتي بالنسبة إليكم.
احفظوا عني هذه الأسماء، أنا وموسى عبد الجليل، وسعيد مختار، و .....ظل مصطفى يعدد أسماء ثم استطرد: كلنا أعضاء في تنظيم مشبوه، يريد نشر أفكاره عن طريق اختراق الصوفية بعد تأصيل الخرافات، وأعرف أن معظمكم لا يفهم كلامي، لكنك بالتأكيد يا شيخ تدرك ما أعنيه، فأومأ بدر برأسه في أسى.
مصطفى: نحن الذين قتلنا الأستاذ عبد الرحمن عندما اكتشف سرنا، وأعتبر نفسي منهم لأنني كنت معهم وإن لم أشترك بقتله.
صرخ مصطفى من الألم ثم استطرد وقد تجمع معظم أهل القرية: ونحن الذين أوهمنا الناس بصورة الغريب على الشجرة عن طريق جهاز ما.
اتسعت عيون الجميع مع تلك المفاجآت المتلاحقة، فأردف مصطفى: فعلنا ذلك حتى نؤصل هذا الاعتقاد لدى أهل القرية، ولما عزموا على التخلص من الشيخ بدر خوفًا على مشروعهم عارضتهم دون جدوى، ولكنني قد أقسمت بيني وبين نفسي ألا تراق دماء أخرى.
بدأ لسان مصطفى يثقل وآلامه تزداد وهو يقول في تهالك: لقد كنت أموت في كل يوم يأتيني فيه القتيل دون رفقائي ليأخذ بثأره مني، الحمد لله لعل الله يسامحني.
بدر وهو يبكي: لعل الله قد اطلع إلى ما في قلبك من خير وضمير حي، وأراد أن يطهرك يا مصطفى.
نظر مصطفى إلى زوجته الباكية أمامه ثم قال: أسديتِ لي أعظم معروف بنصيحتك لي، سامحيني، سامحوني جميعًا، ادع الله أن يرحمني يا شيخ بدر، إنني أرى الأستاذ عبد الرحمن يبتسم لي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
قالها وارتخت يداه جانبًا وشخص بصره، ونظرات من الجميع تنطلق تجمع بين الدهشة والحزن قد مزجتهما الدموع في ليلة الدم.
نهاية الأسرار:
وبعد القبض على مجموعة موسى ورفاقه وتقديمهم للعدالة، وقف أهل القرية جميعًا حول المنطقة الرملية المرتفعة والتي توجد فيها شجرة الغريب، وقد تقدم ناحيتها كل من الدكتور أحمد والشيخ بدر والدكتور صلاح.
الدكتور أحمد: إنها فرصتكما لدحض هذه الخرافات، وفرصتي لتحقيق كشف تاريخي، لقد أحضرت معدات للحفر لن نبذل معها كثيرًا من الجهد.
الدكتور صلاح: وماذا لو لم تكن هناك قلادة بالفعل؟
مط الدكتور أحمد شفتيه وهو يقول: لن تخسرا، فعدم وجود أسرار دفينة كما يقولون، وعدم إصابتكما بالأذى واللعنة كما يرددون، هذا في حد ذاته انتصار لكما، وإثبات لما تقولانه بشأن هذه الخرافات.
بدر: وماذا عنك؟
الدكتور أحمد: ألقى جزائي من أهل القرية، لكن الأمر جدير بالمخاطرة والمغامرة، وعلى كل حال جهاز الكشف عن المعادن ينبئ عن وجود شيء معدني بالفعل في عمق أربعة أمتار.
بدأ الحفر بعد أن ذكروا الله ودعوه بألا يخذلهم، مرت ساعات من الحفر والتنقيب، وقبيل الغروب، صرخ الدكتور صلاح وهو يمسك يده في هلع.
بعض الحضور: أرأيتم، لقد حلت به اللعنة، قلت لكم بألا تطاوعوهم، قلت لك يا سيدي العمدة.
هم الناس بالفرار إلا أن صوت ضحكات صلاح المتعالية قد أوقفتهم، فإذا به يحرك يده، فضحك الجميع واستمر الحفر.
وما هي إلا دقائق معدودة قبل أن ترتحل الشمس، سمع الناس صوت تكبير الشيخ بدر وتبعه تكبير صلاح، وهو يمسك بالقلادة التي تكاد تكون مطمورة المعالم، فأخذها الدكتور أحمد وقام بمعالجتها ببعض المواد التي تصقلها وتعيد لها رونقها وبريقها، فإذا هي بنفس المواصفات التي يعرفها عن القلادة، وقد نُقش عليها اسم أحمد وجولنار.
العمدة وهو يلهث من الفرح: هيا انتزع الخريطة، خريطة الكنز.
ارتبك الدكتور أحمد وقال بكلمات متقطعة والخوف يتملكه: الخريطة، نعم، الخريطة.
العمدة: هيا يا رجل أرنا الخريطة، ألم تقل أنها مخبأة في القلادة؟
الدكتور أحمد: في الحقيقة يا سيدي العمدة، أنا ...
كاذب، قالها العمدة في غضب جم، ثم أردف: الحقيقة أنك خدعتنا أليس كذلك؟
الدكتور أحمد في رعب: سيدي العمدة نحن أمام كشف تاريخي، ستنال قريتكم على إثره شهرة واسعة، و..
قاطعه بعض الحاضرين في عصبية: وماذا سنفعل بالشهرة، نحن نريد الكنز، أنت تستحق القتل.
كفى، دعوه، قالها الشيخ بدر فإذا بالجميع يلتفت إليه، فاستطرد: لقد أسدى لكم الرجل خدمة عظيمة ومعروفًا كبيرًا.
العمدة: أي معروف يا شيخ بدر، لقد خدعنا.
بدر: لا يا سيادة العمدة، لقد أثبت لكم أن الغريب ما هو إلا أمير هارب قتله الحزن على زوجته وطفله، أي أنه ليس هناك ولي، ليس هناك أسرار مدفونة، وبالتالي ليست هناك شجرة مباركة، لقد ظهر الحق الذي طُمر على مدى مائتي عام، ورثتم الخرافات عن الآباء والأجداد، وأغلقتم عقولكم، ووليتم الأدبار لمنهج نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ثم قال بنبرة هادئة: الأولى أن تشكروه، لقد قدم لكم ما هو أثمن من الكنز، أفيقوا أيها الأحبة من سباتكم، وودعوا عصر الجهل والخرافات.
الدكتور صلاح: الذي يستحق الشكر حقًّا يا بدر هو أنت، أنت الذي ناضلت من أجل الحق وظهوره.
عانقه بدر، ثم قال الدكتور صلاح: عفوًا يا دكتور، ويا أهل القرية، هذه القلادة ملك للدولة، يجب أن تسلم إلى الجهات المعنية باعتبارها أثرًا تاريخيًّا.
ابتسم الدكتور أحمد قائلًا: بالطبع يا دكتور صلاح، يكفيني فخرًا ذلك النجاح، ولا أعبأ بقيمتها المادية على الإطلاق.
احتمل أهل القرية الشيخ بدر وهتفوا له، فاستوقفهم قائلًا بأعلى صوته: حفل زفافي يوم الخميس المقبل إن شاء الله تعالى، وأنتم مدعوون جميعًا.
الجميع: مبارك يا شيخ بدر، مبارك، فتابع الشيخ بدر: ولكن أين هدية زفافي؟
ضحك الجميع وقالوا: ما تأمر به نافذ يا شيخ، قال: حقًّا؟ قالوا: نعم.
تنفس بعمق ثم تابع: أريد رماد شجرة الغريب.
كبر الجميع، وسارعوا إلى تقطيع الشجرة وإحراقها، وقاموا على حرقها يومين كاملين، حتى تحقق الحلم، وانتهت الأسرار.
الزفاف:
وفي بيت العمدة، كان بدر يتجهز لزفافه بناء على طلب العمدة وإلحاحه، والذي علق الزينة في جميع أنحاء القرية، ولبس بدر حلة الزفاف، فكان كأبهى ما يكون الشباب، وخرج بوجهه المستنير، وسار بجانب أهله، أهل القرية التي عاشت في قلبه وعاش في قلوب أهلها.
كان في طريقه يتذكر أيام طفولته، وحياته التي قضاها بين الحلو والمر مع أمه بعد وفاة أبيه، يتذكر عمله وأصدقاءه، شريط من الذكريات مر أمام عينيه، وما إن وصل إلى بيت العروس، حتى استقبله والده الحنون وأخوه العطوف، استقبلاه بالعناق الطويل.
بدر: أبي، لقد منحتني ثقتك، وأدعو الله أن أكون أهلًا لها.
والد صلاح: أنت بالفعل أهل لأكثر من ذلك يا ولدي.
صلاح: بدر، صديقي، أخي، أشهد الله على أنني لم أر إنسانًا مثلك، وشرف لنا أن تكون صهرًا لنا.
عانقه بدر، ثم نظر إلى شرفة عروسه وتبسم، وأدار عينيه في جموع الناس مبتسمًا في هدوء، وبرك بركبتيه على الأرض وهو يتكئ على صلاح ووالده، فنزلا بدورهما معه على الأرض وهما والناس جميعًا في ذعر وذهول.
تبسم بدر ووجهه مستنير كالبدر، وهو يقول: أحبكم جميعًا، قولوا للعروس: لعل الله قد كتب لك السعادة مع خير مني.
شجرة الغريب قطعت، ولئن كنت غريبًا في قريتكم لكنني على ثقة من أن سيرتي لن تنقطع من بينكم أليس كذلك؟
هز صلاح رأسه والدموع تتساقط من عينيه، وأما الوالد فقد أخذ بدر بين أحضانه باكيًا منتحبًا وهو يقول: ومن ينساك يا بدر يا ولدي؟
تهللت أسارير الشاب وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
بدر، بدر، بدر قالها صلاح ببكاء هستيري، وأكمل: قم يا صديقي، قم يا أخي، قم للزفاااااااااااااااف، ثم ضمه إلى صدره وهو ينتحب.
وأما الوالد فقد هطلت عيناه بالدموع وهو يسترجع، ويربت على كتف صلاح، وأهل القرية جميعًا في حالة لم يعهدوها من قبل من البكاء والحزن.
جهزوا الشاب وساروا به إلى القبور في مشهد مهيب، حتمًا ستظل القرية تتذكره أبدًا، أسكنوه قبره، وأودعوا معه قلوبهم، وأهالوا عليه التراب، ومكثوا عند قبره ساعة لا يريدون أن يفارقوا مرقده، وتوالت العبارات والكلمات التي تعبر عن عظيم الأسى في القلوب.
فقال أحد المحزونين: لابد وأن نقيم لهذا الرجل الصالح ضريحًا يليق به.
صلاح وهو يصرخ: لااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
[1] رواه البخاري، كتاب المساقاة – الشرب، باب في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته جائزة مقسوما، (2224).
[2] رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم، (2180)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2180).
[2] رواه الترمذي، كتاب الفتن، باب لتركبن سنن من كان قبلكم، (2180)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (2180).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق