الأقطاب والأبدال في الفكر الصوفي
سمعت وقرأت عن ما يسمى بالأبدال والأقطاب وغيرهم ،
هل هم فعلا موجودون بيننا ؟
وهل حديث ( لا تسبوا أهل الشام ؛ فإن فيهم الأبدال )
صحيح أم لا ؟.
الحمد لله
أولا :
الولاية عند أهل السنة هي التي عرَّفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ، حيث قال تعالى :
( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ،
الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ،
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ،
لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )
يونس/62-64
فأعلنت الآية أن ولي الله هو المؤمن التقي ،
الذي يحب الله وينصره ، ويسير في مرضاته ،
ويحفظ حدوده ، ويقيم شريعته ودينه ،
وهو عبد من عباد الله ، لا يخرج عن قهره وسلطانه ،
بل لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ،
ولا يعلم ما قدر الله له ،
فهذا هو ولي الله عند أهل السنة .
وطريق الولاية للعبد هو أن يقوم بأداء الفرائض ،
ثم يتدرج في أداء النوافل حتى يحبه الله تعالى ،
فإذا أحبه كان وليا حقا له جل وعلا ،
وقد جاء في الحديث الصحيح :
( إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ .
قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ .
ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ .
فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ ،
قَالَ : ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القبُولُ فِي الأَرضِ )
رواه مسلم (2637)
ثانيا :
أما الولاية في عرف التصوف البدعي فلها معنى آخر يختلف عما عند أهل السنة ،
فولي الله عندهم من اختاره الله ، ولو لم يكن فيه من مواصفات الصلاح والتقوى ما يؤهله لحب الله له ،
إذ الولاية عندهم نوع من الوهب الإلهي دون سبب ، وبغير حكمة ،
لذلك كانوا يعتقدون في بعض الظلمة والفسقة والمجانين وأهل الفجور أنهم من الأولياء
بمجرد أن يظهر على أيديهم من خوارق العادات ،
مثل : ضرب الجسم بالسكاكين ، واللعب بالحيات والنار وأمثال ذلك ،
حتى عَدُّوا في أوليائهم من يشرب الخمر ويزني ،
ويقولون : الولي الصادق لا تضره معصية أبدا .
ولم يكتفوا بهذا في تعريف الولاية ،
بل يقررون أن الولي يتصرف في الأكوان ،
ويقول للشيء كن فيكون ،
وكل ولي عندهم قد وكَّله الله بتصريف جانب من جوانب الخلق ،
فأربعة أولياء يمسكون العالم من جوانبه الأربعة ،
ويسمون الأوتاد ،
وسبعة أولياء آخرون كل منهم في قارة من قارات الأرض السبع ،
ويسمون الأبدال
( لكونهم إذا مات واحد منهم كان الآخر بدله ) ،
وعدد آخر من الأولياء في كل إقليم ،
في مصر ثلاثون أو أربعون ، وفي الشام كذلك ، والعراق وهكذا ،
وكل واحد منهم قد أوكل إليه التصريف في شيء ما ،
وفوقهم جميعا ولي واحد يسمى القطب الأكبر أو الغوث ،
وهو الذي يدبر شأن الملك كله ،
وهكذا أسسوا لهم دولة في الباطن
تحكم وتنفذ وتتحكم في شؤون الناس على منوال الدولة السياسية ،
وهذه الدولة يترأسها القطب أو الغوث ،
يليه الإمامان ( وهما الوزيران ) ،
ثم الأوتاد الأربعة ، ثم الأبدال السبعة .
هذه هي الولاية الصوفية ،
وهي لا تمت من قريب أو بعيد للولاية الإسلامية القرآنية ،
فالولي في الإسلام عبد هداه الله ووفقه
وسار في مرضاة ربه حسب شريعته ،
وهو يخشى على نفسه من النفاق وسوء العاقبة ،
ولا يعلم هل يقبل الله عمله أو لا ،
وأما الولي الصوفي
فقد أعطوه من خصائص الربوبية ما يتصرف به في جانب من جوانب الكون ،
ولا يلتزم بما شاء من شريعة الله ،
ويدخل الملائكة تحت مشيئته .
وأصل فكرة الولاية الصوفية مأخوذة من الفلسفة الإغريقية القديمة التي تقوم على فكرة تعدد الآلهة ،
وكان أول من وضع فكرة الولاية الصوفية في أواخر القرن الثالث الهجري هو محمد بن علي بن الحسن الترمذي ،
الذي يسمونه ( الحكيم ) -
وهو غير الإمام صاحب السنن المشهورة بسنن الترمذي -
ثم بعد ذلك اشتهرت أقوالهم ،
وأصبحت كتب أئمتهم مليئة بهذه الأفكار والمصطلحات ،
ولو ذهبنا ننقل أقوالهم وأباطيلهم لطال بنا المقام ،
وحتى لا يظن أحد أننا نتجنى عليهم ،
فهذه أسماء بعض مراجعهم ،
وستجد أن ما ذكرناه أقل بكثير من شناعة أفكارهم ،
انظر "الفتوحات المكية" لابن عربي (2/537،455) ،
كتاب "اليواقيت والجواهر" لعبد الوهاب الشعراني (2/79) ،
"المعجم الصوفي" لسعاد الحكيم (189-191، 909-913) ،
وانظر من مراجع أهل السنة
"الفكر الصوفي" للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق
(343-383)
ثالثا :
الحديث الذي ذكره السائل الكريم حديث ضعيف ،
لا يصح بوجه من الوجوه ،
ولم يرد من طريق صحيحة ذكر شيء من مراتب الولاية عند الصوفية .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في "المنار المنيف" (136) :
" أحاديث الأبدال والأقطاب والأغواث والنقباء والنجباء والأوتاد
كلها باطلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وأقرب ما فيها
( لا تسبوا أهل الشام ؛ فإن فيهم البدلاء ،
كلما مات رجل منهم أبدل الله مكانه رجلا آخر )
ذكره أحمد ، ولا يصح أيضا ، فإنه منقطع " انتهى .
( وانظر تفصيل الأحاديث المروية في ذلك وبيان نكارتها
في "المقالات القصار" لأبي محمد الألفي (69-81) )
وقد سئل شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله :
عن الحديث المروى فى الأبدال ، هل هو صحيح أم مقطوع ،
وهل الأبدال مخصوصون بالشام
أم حيث تكون شعائر الاسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال ، بالشام وغيره من الأقاليم ،
وهل صحيح أن الولى يكون قاعدا فى جماعة ويغيب جسده ،
وما قول السادة العلماء فى هذه الأسماء
التى تسمى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ،
ويقولون هذا غوث الأغواث ، وهذا قطب الأقطاب ،
وهذا قطب العالم ،
وهذا القطب الكبير ، وهذا خاتم الأولياء ؟
فأجاب رحمه الله :
" أما الاسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة ، مثل الغوث الذي بمكة ،
والأوتاد الأربعة ، والأقطاب السبعة ، والأبدال الأربعين ، والنجباء الثلاثمائة ،
فهذه أسماء ليست موجودة فى كتاب الله تعالى ،
ولا هي أيضا مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح
ولا ضعيف يحمل عليه ،
إلا لفظ الأبدال ،
فقد روي فيهم حديث شامى منقطع الإسناد عن على بن أبى طالب رضي الله عنه
مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
( إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال الأربعين رجلا ،
كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ) ،
ولا توجد هذه الأسماء فى كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ،
ولا هي مأثورة على هذا الترتيب والمعانى عن المشائخ المقبولين عند الأمة قبولا عاما ،
وإنما توجد على هذه الصورة عن بعض المتوسطين من المشائخ ،
وقد قالها إما آثرا لها عن غيره ، أو ذاكرا ،
فأما لفظ الغوث والغياث فلا يستحقه إلا الله ،
فهو غياث المستغيثين ،
فلا يجوز لأحد الاستغاثة بغيره ،
ولا بملك مقرب ، ولا نبى مرسل ،
ومن زعم أن أهل الأرض يرفعون حوائجهم التي يطلبون بها كشف الضر عنهم ونزول الرحمة
إلى الثلاثمائة ، والثلاثمائة إلى السبعين ،
والسبعون إلى الأربعين ، والأربعون إلى السبعة ،
والسبعة إلى الأربعة ، والأربعة إلى الغوث ،
فهو كاذب ضال مشرك ،
فقد كان المشركون كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله :
( وإذا مسكم الضر فى البحر ضل من تدعون إلا إياه )
وقال سبحانه وتعالى :
( أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه )
فكيف يكون المؤمنون يرفعون إليه حوائجهم بعده بوسائط من الحُجَّاب
وهو القائل تعالى :
( وإذا سألك عبادي عني
فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان
فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي
لعلهم يرشدون ) ،
وقد علم المسلمون كلهم
أنه لم يكن عامة المسلمين ولا مشايخهم المعروفون
يرفعون إلى الله حوائجهم ،
لا ظاهرا ولا باطنا ، بهذه الوسائط والحجاب ،
فتعالى الله عن تشبيهه بالمخلوقين من الملوك
وسائر ما يقوله الظالمون علوا كبيرا ،
وهذا من جنس دعوى الرافضة أنه لا بد فى كل زمان من إمام معصوم
يكون حجة الله على المكلفين ، لا يتم الإيمان إلا به ،
بل هذا الترتيب والأعداد تشبه من بعض الوجوه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم
فى السابق والتالي والناطق والأساس والجسد
وغير ذلك من الترتيب الذى ما نزل الله به من سلطان .
وأما الأوتاد فقد يوجد فى كلام البعض أنه يقول :
فلان من الأوتاد ، يعني بذلك أن الله تعالى يثبت به الإيمان والدين فى قلوب من يهديهم الله به ،
كما يثبت الأرض بأوتادها ،
وهذا المعنى ثابت لكل من كان بهذه الصفة من العلماء ،
فكل من حصل به تثبيت العلم والإيمان في جمهور الناس كان بمنزلة الأوتاد العظيمة والجبال الكبيرة ،
ومن كان بدونه كان بحسبه ،
وليس ذلك محصورا فى أربعة ولا أقل ولا أكثر ،
بل جعل هؤلاء أربعة مضاهاة بقول المنجمين فى أوتاد الأرض .
واما القطب فيوجد أيضا فى كلامهم :
( فلان من الأقطاب ) ، أو ( فلان قطب )
فكل من دار عليه أمر من أمور الدين أو الدنيا باطنا أو ظاهرا
فهو قطب ذلك الأمر ومداره ،
ولا اختصاص لهذا المعنى بسبعة ولا أقل ولا أكثر ،
لكن الممدوح من ذلك من كان مدارا لصلاح الدنيا والدين ،
دون مجرد صلاح الدنيا ، فهذا هو القطب فى عرفهم .
وكذلك لفظ البدل ، جاء فى كلام كثير منهم .
فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ،
فإن الإيمان كان بالحجاز وباليمن قبل فتوح الشام ،
وكانت الشام والعراق دار كفر ،
ثم لما كان فى خلافة علي رضي الله عنه ،
قد ثبت عنه عليه السلام أنه قال :
( تمرق مارقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق ) ،
فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام ،
ومعلوم أن الذين كانوا مع علي رضي الله عنه من الصحابة ،
مثل : عمار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ونحوهما ،
كانوا أفضل من الذين كانوا مع معاوية ،
فكيف يعتقد مع هذا أن الأبدال جميعهم ،
الذين هم أفضل الخلق ، كانوا في أهل الشام ، هذا باطل قطعا ،
وإن كان قد ورد فى الشام وأهله فضائل معروفة ،
فقد جعل الله لكل شىء قدرا ،
والكلام يجب أن يكون بالعلم والقسط .
والذين تكلموا باسم ( البدل ) فسروه بمعان ، منها :
أنهم أبدال الأنبياء ،
ومنها : أنه كلما مات منهم رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا ،
ومنها : أنهم أبدلوا السيئات من أخلاقهم وأعمالهم وعقائدهم بحسنات ،
وهذه الصفات كلها لا تختص بأربعين ، ولا بأقل ولا بأكثر ،
ولا تحصر بأهل بقعة من الأرض "
انتهى باختصار من مجموع فتاوى ابن تيمية
(11/433-444)
رابعا :
جاء في كلام بعض السلف ، وبعض أهل العلم المتأخرين إطلاق لفظ : ( فلان من الأبدال ) ،
ومن ذلك ما جاء في "التاريخ الكبير" للبخاري (7/127) في ترجمة فروة بن مجالد :
" وكانوا لا يشكّون في أنه من الأبدال " انتهى ،
وقال الإمام أحمد كما في "العلل" للدارقطني (6/29) :
" إن كان من الأبدال في العراق أحد ،
فأبو إسحاق إبراهيم بن هانئ " انتهى .
ولا يعنون به ما يريده المتصوفة في اصطلاحهم الباطني البدعي ،
وإنما يريدون المعنى اللغوي ،
فمن قيل فيه ذلك من أهل العلم فهو من ورثة الأنبياء
بما معه من العلم الشرعي ،
فكأنه بدل عنهم في تبليغ الوحي وتعليمه الناس .
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى في "مجموع الفتاوى" (4/97) :
" وأما أهل العلم فكانوا يقولون هم الأبدال ؛ لأنهم أبدال الأنبياء ،
وقائمون مقامهم حقيقة ،
ليسوا من المعدمين الذين لا يعرف لهم حقيقة ،
كل منهم يقوم مقام الأنبياء في القدر الذي ناب عنهم فيه ،
هذا في العلم والمقال ، وهذا في العبادة والحال ،
وهذا في الأمرين جميعا ،
وكانوا يقولون هم الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة ،
الظاهرون على الحق ،
لأن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسله معهم
وهو الذي وعد الله بظهوره على الدين كله
وكفى بالله شهيدا " انتهى .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق