كيف نعظم النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وأصحابه. وبعد..
فإنه لا يخفى على أي مسلم صادق في إسلامه تلك المنزلة الرفيعة التي حباها ربنا تعالى لصفوة خلقه، وخاتم أنبيائه ورسله حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإلى شيء من جوانب تلك العظمة، وهدي السابقين والتابعين لهم بإحسان في تعظيمه صلى الله عليه وسلم... ذلك الحديث الذي تنشرح له صدور المؤمنين الصادقين، وتتطلع إليه نفوسهم، ويتمنون أن لو اكتحلت أعينهم برؤية حبيبهم صلى الله عليه وسلم؛ وتشنفت آذانهم بسماع صوته.
قال الله تعالى: (( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً ))[الفتح: 8، 9].
فذكر تعالى حقاً مشتركاً بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان، وحقاً خاصاً به تعالى وهو التسبيح، وحقاً خاصاً بنبيه صلى الله عليه وسلم وهو التعزير والتوقير.
والتعظيم أعلى منزلة من المحبة، لأن المحبوب لا يلزم أن يكون معظماً، كالولد يحبه والده محبة تدعوه إلى تكريمه دون تعظيمه، بخلاف محبة الولد لأبيه، فإنها تدعوه إلى تعظيمه.
مع المصطفى صلى الله عليه وسلم سيرة وخُلقاً:
لقد حبا الله تبارك وتعالى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم من الخصائص القوية والصفات العلية والأخلاق الرضية ما كان داعياً لكل مسلم أن يجله ويعظمه بقلبه ولسانه وجوارحه.
وقد كان لأهل السنة والجماعة قدم صدق في العناية بجمع خصائصه، وإبراز فضائله والإشادة بمحاسنه، فلم يخل كتاب من كتب السنة كالصحاح والسنن وغيرها من كتب مخصصة لم يخل من ذكر مآثره، كما أُفردت كتب مستقلة للحديث عنه وعن سيرته.
وقد اختار الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم اسم (محمد) المشتمل على الحمد والثناء؛ فهو صلى الله عليه وسلم محمود عند الله تعالى ومحمود عند ملائكته، ومحمود عند إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ومحمود عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم؛ لأن صفاته محمودة عند كل ذي عقل وإن كابر وجحد؛ فصدق عليه وصفه نفسه حين قال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه).
قال ابن القيم: (ومما يحمد عليه صلى الله عليه وسلم ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه صلى الله عليه وسلم علم أنها خير أخلاق الخلق، وأكرم شمائل الخلق، فإنه صلى الله عليه وسلم كان أعظم الخلق، وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثاً، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالاً، وأعظمهم عفواً ومغفرة، وكان لا يزيد شدة الجهل عليه إلا حلماً، كما روى البخاري في صحيحه [ح/12125] عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة: (محمد عبدي ورسولي سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخَّاب بالأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً). وأرحم الخلق وأرأفهم بهم، وأعظم الخلق نفعاً لهم في دينهم ودنياهم، وأفصح خلق الله وأحسنهم تعبداً عن المعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة الدالة على المراد، وأصبرهم في مواطن الصبر، وأصدقهم في مواطن اللقاء، وأوفاهم بالعهد والذمة، وأعظمهم مكافأة على الجميل بأضعافه، وأشدهم تواضعاً، وأعظمهم إيثاراً على نفسه، وأشد الخلق ذبَّاً عن أصحابه، وحماية لهم، ودفاعاً عنهم، وأقوم الخلق بما يأمر به، وأتركهم لما ينهى عنه، وأوصل الخلق لرحمه، فهو أحق بقول القائل:
بَرْدٌ على الأدنى ومرحمةٌ وعلى الأعادي مارنٌ جَلْدُ
بواعث تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم:
يدعو المسلم إلى ذلك أمور عدة، منها:
1- تعظيم العظيم سبحانه وتعالى، لأنه عظم نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حيث أقسم بحياته في قوله: (( لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ )) [الحجر:72].
كما أثنى عليه فقال: (( وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) [القلم:4]، وقال: (( ورَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )) [الشرح:4].
2- أن من شرط إيمان العبد أن يعظم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: (( إنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُعَزِّرُوهُ وتُوَقِّرُوهُ وتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأَصِيلاً ))[الفتح: 8، 9].
3- ما ميزه الله تعالى به -مما سبق ذكره- من شرف النسب، وكرم الحسب، وصفاء النشأة، وأكمل الصفات والأخلاق والأفعال.
4- ما تحمله صلى الله عليه وسلم من مشاق نشر الدعوة، وأذى المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة.
مع الصحابة في تعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتوقيرهم له في حياته:
أجمل من وصف شأنهم في ذلك عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه حين فاوض النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فلما رجع إلى قريش قال: (أي قوم! والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخمَّ نخامةً إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون النظر إليه تعظيماً له)!
ولما زار أبو سفيان ابنته أم حبيبة رضي الله عنها في المدينة، ودخل عليها بيتها، ذهب ليجلس على فراش رسول الله؛ فطوته، فقال: يا بنية! ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أو رغبت به عني؟ فقالت: (هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه).
ومن شدة حرص الصحابة على إكرامه وتجنب إيذائه قول أنس بن مالك: (إن أبواب النبي صلى الله عليه وسلم كانت تقرع بالأظافير).
ولما نزل قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ))[الحجرات:2]، قال ابن الزبير: (فما كان عمر يُسمِع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه)، وكان ثابت بن قيس جهوري الصوت يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس في بيته منكساً رأسه يرى أنه من أهل النار بسبب ذلك، حتى بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وللمحدثين نصيب:
قال ضرار بن مرة: (كانوا يكرهون أن يحدثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على غير وضوء).
وكان مالك يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويأخذ زينته للتحديث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك، فإذا جاء الحديث خشع.
كيف نعظم النبي صلى الله عليه وسلم؟
إن الأمر بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه عبادة لله عز وجل وقربة إليه سبحانه، والعبادة التي أرادها الله تعالى ويرضاها من العبد هي ما ابتغي به وجهه، وكان على الصفة التي شرعها في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم.
فأما الإخلاص في الأعمال وابتغاء وجه الله فيها فهو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن معناها: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
وأما متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي مقتضى الشهادة بأن محمداً رسول الله، ولازم من لوازمها.
وهذا كمال التعظيم، وغاية التوقير، وأي تعظيم أو توقير للنبي صلى الله عليه وسلم لدى من شك في خبره، أو استنكف عن طاعته، أو ارتكب مخالفته، أو ابتدع في دينه وعبد الله من غير طريقه؟!
ويتحقق تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بالقلب بتقديم محبته على النفس والوالد والولد والناس أجمعين؛ إذ لا يتم الإيمان إلا بذلك، ثم إنه لا توقير ولا تعظيم بلا محبة.
ومن صور ذلك التعظيم:
الثناء عليه صلى الله عليه وسلم بما هو أهله، وأبلغ ذلك ما أثنى عليه ربه عز وجل به، وما أثنى هو على نفسه به، وأفضل ذلك: الصلاة والسلام عليه؛ لأمر الله عز وجل وتوكيده: (( إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))[الأحزاب:56].
والصلاة عليه مشروعة في عبادات كثيرة، كالتشهد والخطبة وصلاة الجنازة وبعد الأذان وعند الدعاء وغيرها من المواطن.
وأفضل صيغها: ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: (قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد).
ومن تعظيمه: التأدب عند ذكره صلى الله عليه وسلم بأن لا يذكر باسمه مجرداً، بل يوصف بالنبوة أو الرسالة.
ومنه: الإكثار من ذكره، والتشوق لرؤيته، وتعداد فضائله وخصائصه ومعجزاته ودلائل نبوته، وتعريف الناس بسنته وتعليمهم إياها، وتذكيرهم بمكانته ومنزلته وحقوقه، وذكر صفاته وأخلاقه وخلاله، وما كان من أمور دعوته وسيرته وغزواته، والتمدح بذلك شعراً ونثراً. وأسعد الناس حظاً بذلك: المحدثون والمشتغلون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبرهان التعظيم الصادق هو تعظيم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشريعة المتضمنة في الكتاب والسنة كما فهمها سلف الأمة، وذلك باتباعها والتزامها قلباً وقالباً، وتحكيمها في كل مناحي الحياة وشؤونها الخاصة والعامة؛ ومحال أن يتم الإيمان بدون ذلك: (( ويَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالرَّسُولِ وأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ومَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ))[النور:47].
ومن توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم توقيره في آله، ومنهم أهل بيته رضي الله عنهم أجمعين ورعاية وصيته بهم بمعرفة فضلهم ومنزلتهم وشرفهم بقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على إيمانهم، وبحفظ حقوقهم والقيام بها، فهم أشرف آل على وجه الأرض، وأزواجه أمهات المؤمنين الطاهرات، قال الله تعالى: (( إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ))[الأحزاب:33]، وقد أوجب الله الصلاة عليهم تبعاً للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد في الصلاة.
ومنه: توقيره في سائر صحبه رضي الله عنهم جميعاً فإنهم خيرة الناس بعد الأنبياء، وخيرة الله لصحبة نبيه، وهم حماة المصطفى صلى الله عليه وسلم والأمناء على دينه وسنته وأمته، وذلك بمعرفة فضلهم، ورعاية حقوقهم، فإن الطعن فيهم أو تنقُّصهم عنوان الزندقة.
ومنه: الأدب في مسجده، وكذا عند قبره، وترك اللغط ورفع الصوت.
ومن تعظيمه: حفظ حرمة بلده المدينة النبوية؛ فإنها مهاجره، ودار نصرته، وبلد أنصاره، ومحل إقامة دينه، ومدفنه، وفيها مسجده خير المساجد بعد المسجد الحرام.
صور من البخس:
من صور الإخلال: التقصير في معرفته أو معرفة سيرته وهديه أو فهم سنته أو الإخلال في تطبيقها غلواً أو جفاء.
ومنها:
- إساءة العمل والتقصير في الصالحات، وخاصة ممن ينتسب لآل بيته الكرام.
- هل عظَّم نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم من حلف به؟!
- هل عظَّمه من توسل بذاته مع أن الصحابة توسلوا بدعائه لا بذاته؟!
- هل عظَّمه من توجه إليه طالباً منه الشفاعة مع أن الله عز وجل بين للأمة أن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه تعالى ورضاه، وأمر من أراد الشفاعة بطلبها بطاعته؟!
- هل عظمه من استغاث به مع أنه بشر لا يملك من أمره شيئاً؟!
- هل من تعظيمه الابتداع في دينه، والزيادة في شريعته من التمسح بحجرته أو الاحتفال بمولده بعد اتفاقنا على نصحه لأمته ودلالتها على كل حسن؟!
فأي تعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الموالد التي صارت ركباً للمدعين، وحجة للبطالين؟!
ألا ترون المولد -بعد هذا- تقصيراً في حق حبيبنا صلى الله عليه وسلم وظلماً له؟!
اللهم اجعلنا من المعظمين رسولنا صلى الله عليه وسلم حق التعظيم، المتبعين شرعه، وتوفنا على سنته.. آمين.
|
الأربعاء، 5 مارس 2014
كيف نعظم النبي صلى الله عليه وسلم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
التأصيل للدراسات ** الورد الصوفي، بكسر الواو، جمعه أوراد، يطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها، صباحاً بعد صلاة الصب...
-
13 شبهة للقبوريين والجواب عليها عبد الله بن حميد الفلاسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد (1) : ...
-
نؤمن بجواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وسلّم بشروط الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من ى نبي بعده، وعلى آله وصحبه . أما بعد، قال...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق