المحبة الحقيقية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. وبعد:
فإن من الآداب القلبية محبته صلى الله عليه وسلم وهي من الأمور الخفية التي لا يطلع عليها إلاّ الله -سبحانه وتعالى- ويمكن معرفتها بالعلامات الظاهرة مثل الاتباع والطاعة، ولهذا قال تعالى في شأن من ادعى محبة الله اختباراً لهم: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31].
ويفهم من هذه الآية أنّ محبة العبد لله تستلزم اتباعه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم واتباع الرسول يستلزم محبة الله للعبد.
ومحبته صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان؛ بل من الإيمان نفسه كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
وفي هذا الحديث جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقسام المحبة التي تكون بين الناس، وهي ثلاثة:
1- محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد والده.
2- محبة إشفاق ورحمة كمحبة الوالد ولده.
3- محبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس.
ومحبته صلى الله عليه وسلم فوق هذا كله كما يفيد أفعل التفضيل في قوله: (أحب إليه).
يقول القاضي عياض: "اختلف الناس في تفسير محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت عباراتهم في ذلك وليست ترجع بالحقيقة إلى اختلاف مقال ولكنّها اختلاف أحوال، فقال سفيان: المحبة اتباع الرسول، كأنه التفت إلى قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)) [آل عمران:31]
وقال بعضهم: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ،اعتقاد نصرته والذب عن سنته والانقياد لها وهيبة مخالفته، وقال بعضهم: المحبة دوام الذكر للمحبوب، وقال آخر: إيثار المحبوب.
وقال بعضهم: المحبة الشوق إلى المحبوب.
وقال بعضهم: المحبة مواطأة القلب لمراد الرب بحب ما أحب وبكره ما كره.
وقال آخر: المحبة ميل القلب إلى موافق له.
ثم قال: وأكثر العبارات المتقدمة إشارة إلى ثمرات المحبة دون حقيقتها، وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان".
يقول أبو عبد الله المحاسبي: "والمحبة في ثلاثة أشياء لا يسمى محباً لله عز وجل إلاّ بها:
1- محبة المؤمنين في الله عز وجل.
2- محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لله عز وجل.
3- محبة الله -عز وجل- في إيثار الطاعة على المعصية ".
وعلى هذا فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل القلب المؤمن إليه مودة لسبب من الأسباب الموجبة على ذلك لله -عز وجل- ثم الانتفاع برسالته والفضل الذي أوثر عنه، مثل: مكارم الأخلاق والاتصاف بصفات حميدة.
وقد ذكر القاضي عياض -رحمه الله تعالى- الأقسام الثلاثة المسببة للمحبة، حيث قال: "وحقيقة المحبة الميل إلى ما يوافق الإنسان، وتكون موافقته إمّا لاستلذاذه بإدراكه، كحب الصور الجميلة والأصوات الحسنة والأطعمة والأشربة اللذيذة وأشباهها من كل طبع سليم مائل إليها لموافقتها له، أو لاستلذاذه بإدراكه بحاسة عقله وقلبه معانٍ باطنة شريفة، كحب الصالحين والعلماء وأهل المعروف المأثور عنهم السير الجميلة والأفعال الحسنة، فإن طبع الإنسان مائل إلى الشغف بأمثال هؤلاء حتى يبلغ التعصب بقوم لقوم والتشيع من أمة في آخرين مما يؤدي إلى الجلاء عن الأوطان وهتك الحرم واحترام النفوس، أو يكون حبه إيّاه لموافقته له من جهة إحسانه له وإنعامه عليه فقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها".
ثم ذكر بعد ذلك أنّ هذه الأنواع المسببة للمحبة كلها مجتمعة في شخصيته صلى الله عليه وسلم على أتم وجه، حيث قال: "فإذا تقرر لك هذا نظرت هذه الأسباب كلها في حقه صلى الله عليه وسلم، فعلمت أنّه صلى الله عليه وسلم جامع لهذه المعاني الثلاثة الموجبة للمحبة. فقد تميّز بجمال الصورة والظاهر وكمال الأخلاق والباطن، كما تميّز بإحسانه وإنعامه على أمته. وقد ذكر الله تعالى في أوصافه رأفته بهم ورحمته لهم وهدايته إياهم وشفقته عليهم، واستنقاذهم من النار، وأنّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين، ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، ويتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم إلى صراط مستقيم، فأي إحسان أجلّ قدراً وأعظم خطراً من إحسانه إلى جميع المؤمنين، وأي إفضال أعمّ منفعة وأكثر فائدة من إنعامه على كافة المسلمين، إذ كان ذريعتهم إلى الهداية، ومنقذهم من العماية، وداعيهم إلى الفلاح والكرامة، ووسيلتهم إلى ربّهم وشفيعهم والمتكلم عنهم والشاهد لهم والموجب لهم البقاء الدائم والنعيم السرمدي، فقد استبان لك أنّه صلى الله عليه وسلم مستوجب للمحبة الحقيقية شرعاً... إلى أن قال: فإذا كان الإنسان يحب من منحه في دنياه مرة أو مرتين معروفاً أو استنقذه من هلكة أو مضرة مدة التأذي بها قليل منقطع فمن منحه ما لا يبيد من النعيم ووقاه ما لا يفنى من عذاب الجحيم أولى بالحب، وإذا كان يحب بالطبع ملكاً لحسن سيرته أو حاكماً لما يؤثر من قوام طريقته أو قاصاً بعيد الدار لما يشاد من علمه أو كرم شيمته، فمن جمع هذه الخصال كلها على غاية مراقب الكمال أحق بالحب وأولى بالميل".
علامات محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة، ونذكر هنا طرفاً من علاماتها:
1- منها الإيثار -أي: إيثار النبي صلى الله عليه وسلم- على النفس كما يدل عليه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)) [الحشر:9].
والآية وإن كانت عامة في إيثار المهاجرين إلا أنه صلى الله عليه وسلم هو رئيس المهاجرين وقائدهم، وهو المحبوب الأول من الخلق أساساً، وأمّا غيره فتبع له بحسب قربهم إليه صلى الله عليه وسلم ومتابعتهم إيّاه.
2- ومنها: بغض من أبغض الله ورسوله مهما كانت صلته ورتبته؛ لقوله تعالى: ((لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)) [المجادلة:22].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "قيل في قوله تعالى: ((وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: نزلت في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر، ((أَوْ أَبْنَاءَهُمْ)) [المجادلة:22]: في الصديق همّ يومئذ في قتل ابنه عبد الرحمن، ((أَوْ إِخْوَانَهُمْ)) [المجادلة:22]: في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ، ((أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)) [المجادلة:22]: في عمر قتل قريباً له يومئذ أيضاً..".
وهؤلاء قاموا بقتل أقرب أقربائهم في معركة بدر؛ لأن حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يقتضي قتل من حاد الله ورسوله وبغض من أبغض الله ورسوله.
3- ومنها: حب من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: عكس الصورة السابقة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أنْ يأخذه).
وثمرة محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة، ولكن نذكر هنا أهمها وشواهدها:
من ذلك:
1- أنّ محبته صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى مرافقته في الجنة.
ومما يدل على ذلك: ما أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله- عن أنس بن مالك قال: (بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجين من المسجد، فلقينا رجلاً عند سدة المسجد، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "ما أعددت لها؟" قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكنّي أحب الله ورسوله، قال: فأنت مع من أحببت).
2- ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم أنّها من الخصال الموجبة لحلاوة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
3- ومن ثمرة محبته صلى الله عليه وسلم: مرافقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنّك لأحبّ إليّ من نفسي، وإنّك لأحب إليّ من ولدي، وإنّي لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتك عرفت أنّك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنّي إذا دخلت خشيت أن لا أراك، فأنزل الله تعالى: ((وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً)) [النساء:69]).
4- ومن ثمرة محبته -صلى الله عليه وسلم-: إتمام إيمان من اتصف بها لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين).
هناك صور متعددة من حب السلف للرسول صلى الله عليه وسلم
نذكر طرفاً منها في هذا المقام وخاصة ما روي في حب الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- للرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك:
1- ما أخرجه الحاكم عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: لمّا فرض عمر لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وفرض لي ألفين وخمسمائة، فقلت له: يا أبت، لم تفرض لأسامة بن زيد ثلاثة آلاف وتفرض لي ألفين وخمسمائة والله ما شهد أسامة مشهداً غبت عنه ولا شهد أبوه مشهداً غاب عنه أبي، قال: صـدقت يا بني، ولكنّي أشهد لأبوه كان أحبّ الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، ولهو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك".
2- ومنها: ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: (إنَّ خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة، قال: فلم أزل أحب الدباء من يومئذ).
3- ومنها: ما روي أنّه لما أخرج أهل مكة زيد بن الدثنة من الحرم ليقتلوه، قال له أبو سفيان بن حرب: أنشدك بالله يا زيد: أتحب أن محمداً الآن عندنا مكانك لضرب عنقه وإنّك في أهلك؟ فقال زيد: والله ما أحبّ أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة وإنّي جالس في أهلي، فقال أبو سفيان: ما رأيت الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً".
4- ومنها: ما أخرجه الإمام مسلم عن أنس بن مالك (أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أعددت لها؟" قال: حب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت).
5- ومنها: ما روي أن امرأة من الأنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها، فأخبروها بذلك، فقالت: (ما فعل الله برسول الله؟ قالوا: بحمد الله كما تحبين.قالت: أرونيه حتى أنظره، فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل).
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|
الأربعاء، 5 مارس 2014
المحبة الحقيقية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
-
التأصيل للدراسات ** الورد الصوفي، بكسر الواو، جمعه أوراد، يطلقه الصوفية على أذكار يأمر الشيخ تلميذه بذكرها، صباحاً بعد صلاة الصب...
-
13 شبهة للقبوريين والجواب عليها عبد الله بن حميد الفلاسي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد (1) : ...
-
نؤمن بجواز التبرّك بآثار النبي صلى الله عليه وسلّم بشروط الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من ى نبي بعده، وعلى آله وصحبه . أما بعد، قال...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق