بسم الله الرحمن الرحيم

نشر الدكتور إبراهيم الغصن - أستاذ الفقه المساعد بجامعة الإمام - فرع القصيم ، بحثًا بعنوان ( عمارة المساجد ) في مجلة العدل ( العدد الرابع ) تضمن مبحثًا مهمًا عن حكم البناء على القبور - وهو البدعة المنتشرة في معظم بلاد المسلمين للأسغف- والإجابة عن أبرز شبهات أهله ؛ أحببتُ نشره هنا ؛ لعله يجد من يستفيد منه على أرض الواقع بإنكار هذا المنكر العظيم ، ودعوة المتلبسين به بالتي هي أحسن ، ووضع الحلول العملية للخلاص منه ، والسير نحو تحقيق التوحيد الذي هو من شروط نهظة الأمة وعزها .قال - وفقه الله - :
المبحث السابع
بناء المساجد على القبور

أ-حكم بناء المساجد على القبور. 
ب-نشأة بناء المساجد على القبور وأول من بنى المشاهد. 

أ-حكم بناء المساجد على القبور: 
يحاول كثير من المبتدعة لي أعناق النصوص ليفسدوا على العامة دينهم ويوقعوهم في حبائل الشرك والضلال، ومن ذلك أنهم يصورون للعامة أن من تمام عمارة المساجد بناءها على القبور أو بناء القبور فيها، لذلك رأيت أن من تمام هذا البحث أن أتطرق إلى هذا الموضوع بمبحث مستقل أبيّن فيه حكم بناء المساجد على القبور أو بناء القبور في المساجد أبين فيها القول الحق في سرد جملة من أدلته، بالإضافة إلى استعراض أدلة المخالفين، والرد عليها مبتدئاً ببيان حكم بناء المساجد على القبور. 
فبناء المساجد على القبور غير سائغ ولا يجوز، بل اتفق أئمة المسلمين على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، وإنما خالف هذا الاتفاق من لا يعتد بقولهم من أهل البدع والضلال. وقد تضافرت الأدلة على تحريم هذا العمل لما يفضي إليه من الشرك. 
وهذا هو قول عامة أهل العلم، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "اتفق الأئمة أنه لا يُبنى مسجد على قبر"1. 
وقال في موضع آخر: "قال علماؤنا: لا يجوز بناء المسجد على القبور" 2.
وقال في موضع آخر: "ليس لأحد أن يصلي في المساجد التي بنيت على القبور، ولو لم يقصد الصلاة عندها، فلا يفعل ذلك لا اتفاقاً ولا ابتغاء ؛ لما في ذلك من التشبه بالمشركين، والذريعة إلى الشرك، ووجوب التنبيه عليه وعلى غيره، كما قد نص على ذلك أئمة الإسلام من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم؛ منهم من صرح بالتحريم، ومنهم من أطلق الكراهة3. سواء في ذلك الحنفية4 ، أو المالكية 5 ، أو الشافعية 6، أو الحنابلة 7 . 
قال السرخسي الحنفي: "أما المقبرة" فقيل: إنما نهي عن ذلك لما فيه من التشبه باليهود. كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، فلا تتخذوا قبري بعدي مسجداً"8 
قال العيني الحنفي من هذا الحديث: "هذا من باب قطع الذريعة لئلا يعبد قبره الجهال، كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم"9
وقال الإمام مالك رحمه الله: "أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها"10 
وقال القرطبي المالكي: "اتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة عن النهي عنه ممنوع لا يجوز"11
وقال الحطاب المالكي: "ويكره البناء على القبر والتحويز عليه، وإن قصد المباهاة بالبناء عليه... فذلك حرام" 12 ولا شك أن بناء المساجد عليها من أعظم أنواع المباهاة والتعظيم. 
وقال الباجي المالكي تعليقاً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: يريد أنه أراد عذاب قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في مرضه تحذيراً مما صنعه اليهود والنصارى من ذلك"13 
والمالكية –رحمهم الله- إنما أجازوا بناء المساجد على المقبر إذا خرجت عن كونها مقبرته كالمقابر العافية والمندرسة والمتغيرة. قالوا: لأنها تصبح والحالة هذه مثل غيرها من الأرضين14
وقال الإمام الشافعي –رحمه الله-: "وأكره أن يبنى على القبر مسجداً ويصلى عليه وهو مستوى أو يصلى إليه. وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره –والله تعالى أعلم- أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على من يأتي بعده"15 
وقال النووي الشافعي: "اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على كراهة بناء مسجد على القبر سواء كان الميت مشهوراً بالصلاح أو غيره"16
وقال البُهوتي الحنبلي: "ويحرم اتخاذ المسجد على القبر وبينها.. وتتعين إزالتها إذا وضعت على القبور أو بينها"17 . ونصوص الحنابلة في هذا كثيرة. 

وقد جاءت الأدلة الصحيحة الصريحة متضافرة على تحريم بناء المساجد على القبور ومنها:
أولاً: عن عائشة وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصه على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال –وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مما صنعوا 18 
ثانياً: ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" لولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً 19 
ثالثاً: ما روته عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة –رضي الله عنهما- ذكرتا كنسية رأيتها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تيك الصورة فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة" 20 
رابعاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 21 
خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 22 
سادساً: ما رواه جندب بن عبدالله البجلي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -قبل أن يموت بخمس- وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً ، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. ألا فلا تتخذوا القبور مساجد. إني أنهاكم عن ذلك" 23
سابعاً: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" 24
ثامناً: عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 25

والأحاديث في هذا الباب كثيرة وهي تدل دلالة واضحة وصريحة على تحريم بناء المساجد على القبور. 
وقد نقل عن بعض السلف أنهم لم يكرهوا الصلاة في المقبرة، والذي يظهر لي أن أكثرهم إنما أجازوا وصححوا الصلاة على الجنازة في المقبرة دون الصلاة ذات الركوع والسجود، ولذلك تجدهم استدلوا على قولهم بما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه : "أن امرأة سوداء ( أو شابًا )كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها (أو عنه) فقالوا: مات. قال: "أفلا كنتم آذنتموني"، قال: فكأنهم صغروا أمرها (أو أمره) فقال: "دلوني على قبرها" فدلوه. فصلى عليها. ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينورها لهم بصلاتي عليهم"26 واللفظ لمسلم. 
وبما رواه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب فصلى عليه وصفّوا خلفه وكبر أربعاً" 27 وهذا لفظ مسلم. 
وبما رواه مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر 28 
والصلاة على الميت تختلف عن الصلوات الخمس المفروضة، فليس فيها ركوع ولا سجود، وإنما هي دعاء للميت.
قال الشنقيطي –رحمه الله-: "هي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور، ولا يفيد شيء من تلك الأدلة على جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود، ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر" 29
وقد روى البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه يصلي عند قبر فقال: القبر القبر!!" 30 . وحتى من نقل عنه جواز الصلاة في المقابر لم ينقل عنه أنه أجاز بناء المساجد على القبور، وليست هذه المسألة عندهم هي مسألة الصلاة في المقبرة العامة، فإن منهم من يعلل النهي عنها بنجاسة التراب، ومنهم من يعلله بالتشبه بالمشركين. 
وأما المساجد المبنية على القبور، فقد نهوا عنها معللين بخوف الفتنة بتعظيم المخلوق، كما ذكر ذلك الشافعي وغيره من سائر أئمة المسلمين 31 . 
وإباحة بناء المساجد على القبور والصلاة فيها إنما هو رأي أهل الضلال والبدع المخالفين لطريقة أهل السنة والجماعة، وإليك بعض الأدلة التي تشبث بها بعض أهل الضلال، وحاولوا تطويعها لمعتقداتهم وآرائهم.